إبراهيم محمود - عبدالفتاح كيليطو وفكرة " الأعمال"

صدور أعمال الكاتب والباحث المغربي الكبير والقدير عبدالفتاح كيليطو" 1945-.... "عن دار " توبقال- الدار البيضاء، المغرب " حدَث ثقافي حقاً،جدير لأن يحتفى به، وهو يضم المترجَم عن الفرنسية والمؤلَّف بالعربية مباشرة ..
هذه الأعمال التي تقع في خمسة أجزاء، بمجموع صفحاتها " 1644 صفحة " من القطع الكبير، وفي طبعة فنية جميلة، صدرت في طبعتها الأولى مجتمعة سنة 2015، وثمة طبعة ثانية للجزء الخامس فقط، صدرت سنة " 2018 " لتوفّر لقارئه فرصة أفضل لمتابعته في تعدد موضوعاته، وصدمة المباغت والجديد فيها .
ولكل جزء عنوان يميّزه عن بقية العناوين الأخرى، تبعاً لموضوعاته، وهي تشمل كتباً له، ومتفرقات كذلك ، وقد كانت بداياتها في مطلع ثمانينيات القرن الآفل، حيث جاءت مصنَّفة بالشكل الآتي:
الجزء الأول : جدل اللغات " في 400 صفحة "، ويضم الأعمال النقدية التالية:
لسان آدم
ترحيل ابن رشد
لن تتكلم لغتي
أتكلم جميع اللغات، لكن بالعربية
لن تترجمني
اللغة- مع
بحبر خفي
الجزء الثاني: الماضي حاضراً " في 296 صفحة "، ويضم الأعمال النقدية التالية:
الأدب والغرابة
عن اللغة الواصفة الاستعارية لدى نقاد الشعر العرب
الكتابة والتناسخ
الحكاية والتأويل
الجزء الثالث: جذور السرد " في 334 صفحة " ويضم الأعمال التالية:
المقامات
الغائب
الجزء الرابع : حمّالو الحكاية " في 302 صفحتين "، ويضم الأعمال التالية:
العين والإبرة " دراسة في ألف ليلة وليلة "
أو العلاء المعرّي أو متاهات القول
الأدب والارتياب
من شرفة ابن رشد
الجزء الخامس : مرايا: أعمال سردية : روائية وقصصية " في 312 صفحة " ويضم الأعمال التالية:
أركيولوجيا
خصومة الصور
منّانة
حصان نيتشه
بحث
المرأة والشاب
مويرا
أنبئوني بالرؤيا

ومساءلات بالمقابل:
إن أول سؤال يطرح هنا، هو: لماذا كلمة " الأعمال " وبألـ: التعريف "؟
لا شك أن المهتم بمفردة كهذه، لا بد أن يمضي به تصوره إلى أي عمل يخص الفنان أو الأديب أو الناقد أو المفكر، حين يكون لأعماله ذلك الحضور والكم اللافتان للاهتمام، كما هو المقابل بالفرنسية " oeuvre " وبصفة الجمع : أعمال " L,oeuvres ".
إن تهجئة " العمل " بالدال الثقافي، لا تبعدنا عن مفردتين أخريين، وهما " الأعمال الكاملة " وهي الأكثر انتشاراً أو تداولاً، و" الأعمال غير الكاملة "، لتكون أدق من الأولى، طالما أن الكاتب أو الفنان على قيد الحياة.
نكون في الحالة الثالثة إزاء مخرج اعتدالي " أعمال "، رغم أنه تثير إشكالاً بدورها، تنصب عن حقيقة ما هو قائم بين يدي المعني أو ما يتكتم عليه، ولا يشير إليه، لأسباب مختلفة، وهذه قد تواجَه بها الحالتان الأخريان بالمقابل، إنما هنا تثير تساؤلاً عما إذا كان الكاتب أو الفن، من وراء إطلاق هذه التسمية يخلص لمفهومه أم لا .
فالذي يعرَف به كيليطو، هو أن أول عمل صدر له، كما هو مشار إليه في الجزء الثاني " الأدب والغرابة-1982 "، وهذا يعني حسابياً أن عمر الكاتب كان حينذاك " 37 سنة "، وهذا التحديد العمْري يحفّز قارئه على طرح سؤاله الذي لا بد منه، كما أعتقد، وهو : هل حقاً أن كيليطو لم ينشر أي أثر له طوال هذه المدة، أو يكتبه،ويحتفظ به في أدراجه على الأقل؟
من الصعوبة بمكان المضي معه، كما يعلِمنا بعناوينه في هذه الأجزاء، وهو يفصح عن ذلك التجاذب الثقافي بأكثر من عقد من السنين، وحينها كان له أسلوب تفكير آخر" تقليدي "، يصرّح به هو نفسه، ويعني ذلك، أن الأعمال المسماة هنا، تتجاوز مع اللحظة الانعطافية في ثقافته وطريقة تفكيره، بالنهل من الثقافة الفرنسية وفورة مدارسها الأدبية والنقدية، الحداثية منها وما كان في مخاض الانتقال إلى ما هو أبعد منها، كما يقول في مستهل كتابه الأول هنا:
( في يوم من أيام سنة 1968 أو 1969 ، سمعت أساتذة فرنسيين يتحدثون عن العدد الثامن من مجلة لم أكن أعرفها، كومينيكاسيون، قالوا إنه عدد مخصص للتحليل البنيوي للسرد، ويتضمن مقاربة جديدة للأدب. كنت حينئذ أستاذاً مساعداً فيقسم الفرنسية، وعلى العموم كنت راضياً عن طريقتي في تناول النصوص الأدبية، طريقة أصفها الآن بالتقليدية، تكتفي بتسجيل بعض الخواطر والارتسامات العابرة. ما كنت أقرأه من دراسات عن الأدب لم يكن يفاجئني، ولم أكن على أي حال أنتظر مفاجأة ما....
وفي مختتم كلمة الاستهلال يقول: في ذلك الجو ومع مرور الأيام، تغيرت نظرتي إلى الأدب: لم أعد أقرأ كما كنت أفعل في السابق، وعندما تتغير القراءة، تتغير الكتابة لا محالة. ولعل القارىء يلمس ذلك عندما يتصفح هذا الكتاب .) "1 ".
لعل الذي كان ينفع كاتبنا وينفعنا كثيراً، فيما لو أنه احتفظ ببعض مما كان يعتمده من أسلوب تفكير وكتابة، حيث إنه يشير بكلمته هذه، إلى أنه كان يمارس الكتابة بالطريقة التقليدية، بحيث يتمكن القارىء من قياس مسافة الاختلاف التي قطعها، سوى أن كاتبنا لم يقدّم لنا ولا حتى ولو عينة واحدة، أو نموذجاً واحداً، وهذه ملاحظة تسجَّل عليه طبعاً " 2 ".
السؤال الآخر الذي يستحق الطرح، هو: وفق آي سيستام تفكير، رتَّب عناوين كتاباته؟
لقد تجنَّب ما هو كرونولوجي: التسلسل الزمني، حيث تتعاقب الموضوعات، وكما رأينا، جاء الكتاب الأول في قائمة هذه الأعمال، في بداية الجزء الثاني، بينما اشتمل الجزء الأول على موضوعات مثارة في خانة اللغة، أو التشابك بين اللغات بالذات، وكما نلاحظ مثلاً، فقد ورد بحثه " لسان آدم – 1995 " في بداية الجزء الأول، وليس من إضاءة لهذا الإجراء، إنما ترك مسوّغ ذلك لتأويلات قارئه أو ناقده بالذات، وعليه هنا أن يخوض في أوقيانوس تأويل، لا يمكن القطع بحقيقة المؤتى فيه، أو حتى الطعن فيه كثيراً، تبعاً للمتخيَّل الثقافي لديه. كما لو أنه اعتبر " لسان آدم " منطوياً على الإشكال الأول والذي يعدِم كل الحلول الممكنة، وإن كان المؤلف منطلقاً من مرجعيات عربية إسلامية إجمالاً، وكيليطو، في عموم كتابته، يبرع في مكاشفة التأويلات، وما فيها من اجتهادات ذاتية، وبنية المفارقات التاريخية وكشوفاتها في ذلك، وبالتالي، فإن الذي يجد في نفسه دافعاً للدخول في مناقشة، يتطلب منه التسلح بالتأويل عينه، أو أن يتقدم بآلية مناقشة، تستنطق هذا المرْكَب التأويلي لديه، وهو ما حاولته في مكان آخر " 3 ".
يضاف إلى ذلك، أنه بالإمكان اعتبار أغلب موضوعاته، حتى تلك المندرجة في مضمار الأدب الروائي- القصصي، حيث إنها تنبني على مناخات ثقافية، يتراءى فيها البعد اللغوي كثيراً، ولو تقديرياً، أي يقل فيها دور العامل التخيلي الأدبي، بالمعنى المعتاد للمفهوم، حيث إنه يستدعي معلّم متاهات القول " بورخيس " الذي لا يخفى تأثره به، في المنطلق، وكيفية جمع المفردات ذلك الدلالة، واستثارة المتخيل الثقافي.
مقصد القول هذا، هو أن هذا الإحكام على المفهوم اللغوي، يستبقي موضوعات مختلفة، موزعة في أجزاء أخرى، تستدعينا للنظر فيها من هذا المتكأ اللساني وتداعياته النصية والتناصية .
وكما نوَّهنا، حتى في أعماله الأدبية ِ الطابع، في الجزء الخامس " أركيولوجيا –خصومة الصور...الخ " أو في الجزء الثالث " جذور السرد " ومفارقات اللغات " القائمة، والطرق التي تعبّر اللغات الصريحة والمضمرة عن حضوراتها، في مكونات الجزء الرابع، كما في : " العين والإبرة " واللغات ذات الإسهام المقدر في بناء عمرانها الحكائي، و" أبو العلاء المعري أو متاهات القول " وهي لسانية، أو " من شرفة ابن رشد "..حيث نتلمسه في الجزء الأول...الخ.
وثمة سؤال يتعلق بكيفية وضْع الأعمال المنشورة سابقاً، وذلك في نطاق هذه الأجزاء، وما إذا كان هناك من إضافات أو تغييرات أو تعديلات ولو جزئية معينة . لا شيء من ذلك، إلا التنويه المتعلق بموضوعات الجزء الخامس، مراجعة وتنقيحاً، إذ ليس من إشارة من هذا النوع إلى بقية الأجزاء، ويمكن ملاحظة هذا الجانب، ولو بشكل طفيف هنا وهناك .
وحتى في عناوين منشورة في الجزء الخامس، يسهل وضع ملاحظة، على تنويه المشرف، كما يظهر، وهو المترجم المعروف عبدالكبير الشرقاوي، وذلك بصدد القصتين" المرأة والشاب- منّانة "، حيث لا تأريخ نشر لهما، سوى أنهما مترجمتان، أما متى كتبتا أو نشِرتا في الأصل، فغلا معلومة حول ذلك.، كما في الإشارة المتعلقة بقصة " مويرا " حيث المعلومات متوفرة جهة النشر، والترجمة العربية لها.
لا بد أن إيراد المعلومات ذات الصلة بما تقدم، مفيدة للقارىء المختص، لأهمية التاريخ هنا.
ويمكن الإشارة إلى بعض الأمثلة:
في إسهامه ضمن ملتقى دولي، ببحث " الكلب الأعمى " ومقارنته بالوارد في الطبعة الجديدة، ثمة فرق كبير، وكبير جداً، لا ينوّه إليه كيليطو " 4 ".
بالنسبة لبحثه " العين والإبرة " والنص المقابل، في الجزء الرابع نفسه، هناك اختلافات موجودة في الترجتمين، رغم أن المترجم واحد " 5 " .
وكيفية التقديم لكتاب " لسان آدم " في الطبعة القديمة وتلك الجديدة بالتالي" 6 ".
وربما كانت ملاحظة كهذه تنطبق على كتاب " الكتابة والتناسخ " " 7 "
....
نعم، في مقدور أي كان ، اعتبار ذلك، وفي الكثير من النقاط، عبارة عن ملاحظات خفيفة، سوى أنها لا تتطلب كثير جهد، لتنوير القارىء أولاً، ولأن النظر فيها، يلفت النظر ثانياً .
خلاصة الكلام، هي أنه لم تُعْط لهذه الطبعة الشاملة، بعناوين موضوعاتها المختلفة، ذلك الحق المطلوب من العناية أو الرعاية، التي يحسَب لها حساب، في أي مقاربة دلالية أو نقدية أيضاً .
ولعل مسوّغ هذا القول يرتكز إلى المنطلق المعرفي والجمالي نفسه لكاتبنا الكبير كيليطو، حيث إن تغيير أي مفردة، أو شطبها، وترْك محلها فراغاً، أو إضافة سواها، يغيّر في مرسِل المعنى.


إشارات:
1- كيليطو، عبدالفتاح: الأعمال، الجزء الثاني، الماضي حاضراً، دار توبقال، الدار البيضاء، ط1، 2015،ص8.
2- أشير هنا إلى مقال: عن اللغة الواصفة الاستعارية لدى نقّاد الشعر العرب " 1979 " بالفرنسية. صص105-121، في الجزء الثاني، الذي يبدو للوهلة الأولى أقرب إلى التقليد، من خلال طريقة التناول، لكن التصور النقدي، يجلو ركيزة تصور حداثية نسبياً، كما في قوله عن الشعر كصناعة ( مؤلفات نقد الشعر العربية يكمن وراءها انشغال واخزٌ، حاضر ضمناً أو صراحة: تبرير الخطاب الشعري. ص109 )، والحديث عن " الجسد المتعدد .ص112 "، وكما في الحديث أيضاً عن " النظْم " ومستهل قوله ( في المشهد الذي أنشأه نقاد الشعر، سيكون لجسد الشاعر رغم ذلك فرصة للظهور...ص114 ).
3- محمود، إبراهيم : أسئلة التأويل" عبدالفتاح كيليطو نموذجاً " دراسة، دار الحوار، اللاذقية، ط1، 2015، بدءاً من الفصل الأول " عن الذي رأى وأوَّل " ص 25، وما بعد .
4- كيليطو، عبدالفتاح: الكلب الأعمى، لقاء الرباط مع جاك دريدا : لغات وتفكيكات في الثقافة العربية، ترجمة: عبدالكبير الشرقاوي، دار توبقال، الدار البيضاء،صص 141-149، والنص الوارد بهذا الاسم، في الجزء الرابع، صص149-163.
5- كيليطو، عبدالفتاح: العين والإبرة " دراسة في ألف ليلة وليلة "، ترجمة: مصطفى النحال- مراجعة: محمد برادة، نشر الفنك، الدار البيضاء،1996، والنص الوارد في الجزء الرابع كذلك، في نهاية الكتاب، مثلاً، ص154، وفي الطبعة الجديدة، ص 90 .
6- كيليطو، عبدالفتاح: لسان آدم، ترجمة: عبدالبير الشرقاوي، دار توبقال، الدار البيضاء، ط2، 2001، في التقديم، حيث يأتي " القسم الأول " ومن ثم في التقديم: نص هذا القسم الأول يتشكل من أربعة دروس...ص 7، وفي الجزء الأول، في التقديم، ص7.
7- كيليطو، عبدالفتاح: الكتابة والتناسخ " مفهوم المؤلف في الثقافة العربية " ترجمة: عبدالسلام بنعبدالعالي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء،ط1، 1985. نلاحظ في استهلال الكتابة تذكيراً بهامش الاستهلال المقتبَس، ص 5، بينما في الطبعة الجديدة، لا ذكر إلا لقائله، ص125 . ذلك ينطبق على أمثلة أخرى، كما في المعلومات المتعلقة بالهامش الرابع، فهي أكثر، ص 10، بينما أقل في المقابل، في الطبعة الجديدة، ص129،ص129.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى