أحمد نبيل - بعد مرور عشر سنوات على رحيله: وفيق الفرماوي، غياب الكاتب وحضور القتلة

أحب وفيق الفرماوي. أحب كلابه، وثعابينه، وسحاليه، وأفخاخه، وأسلحته القديمة، سكاكينه الصدئة، ونصاله الحادة المدببة المصوبة نحو رقبة قارئ مجهول. أحب سمومه التي ترشح بين السطور، يتسرب الموت منها إلى شفتيك شيئا فشيئا حين تبلل سبابتك لتقلب الصفحات.

ولأن نصوصه تعتمد على التكثيف، فإن صفحة واحدة لابد أن تحتوي على جرعة كافية لاغتيالك. وفيق لا يطمع في أن تقلب أكثر من صفحة، لا يعول على صبرك واحتمالك أكثر، ولا يجازف بذلك.
رجل وامرأة.. بداية عالم

في مجموعته الأولى (القتلة) التي صدرت عام 1985 يبدأ أول قصة في الكتاب بعنوان غامض ومجرد لأبعد حد، قصة (رجل). ذلك الرجل الغريب الوافد إلى الحارة، حاملا نبوءة ما، يطلب من الناس أن يحفروا حفرة في الأرض بطول وعرض الحارة، ليدفن فيها الناس والمكان والقارئ في الصفحة التالية. لا تكاد تفيق من ذهولك حتى تصطدم بعنوان القصة الثانية (امرأة). في هذه القصة نتعرف على مفاتيح عالم الكاتب أكثر، بدء من عناوينه المصمتة كطلقات رصاص شديدة التجريد والاختذال. وانطلاقا من مواقف حياتية عابرة يبحث الكاتب في تفاصيلها العادية عن كوابيسه الخاصة.

تعتمد قصة (امرأة) في ظاهرها على موقف بسيط. موظف منقطع عن العمل يستعين بمشورة زوجة صديقه قبل عرضه على اللجنة الطبية، نظرا لأنها تعمل في نفس العيادة. وعملا بنصحية المرأة يقول الموظف للطبيب أن سبب انقطاعه عن العمل يعود إلى (الثأر) مدعيا انتمائه لإحدى عائلات الصعيد. إلى هنا لا يتجاوز الأمر حدود النكتة، ولكن عندما يصاب الطبيب بالذعر ويسأله (أنت من هناك؟ من نفس العائلة؟) تفقد النكتة زهوها في لحظة وتستحيل شركًا. يسقط فيه الراوي والقارئ بالمشاركة ـ أحدهما ممسكا بيد الآخر ـ وقد وزع الكاتب الشكوك عليهما بالتساوي، واحتفظ بالحقيقة ـ إن وجدت ـ لنفسه.

أي عائلة تلك التي تورط البطل في الانتساب إليها بناء على كذبة قد تضمن له وظيفته من جهة، وقد تكلفه حياته من جهة أخرى؟! ثم ما علاقة الطبيب بالعائلة؟! وبالثأر الذي يرتضيه بديلا للتشخيص الطبي؟! وما علاقة المرأة بكل ذلك؟! خاصة وأن إنسحابها المفاجئ من العيادة في نهاية القصة يؤكد شكوكنا. ربما يخاف الطبيب عائلة الموظف تماما كما يخاف الموظف تقرير الطبيب. وربما يخاف الاثنان من عائلة أخرى مجهولة، تمتد سطوتها خلف حدود الوظيفة، وحدود النص ـ كل الدروب في هذا الكتاب تقودك إلى القتلة ـ لا يتعمد الكاتب ترك أبواب النهاية مفتوحة على تلك المخاوف من باب الإثارة، إنما هو حصد حتمي لـ(لبلابة) سامة زرعها الكاتب في روحك منذ أول سطر.

ارتياب مشروع بين صديقين يطلب أحدهما أن يلتقي زوجة الآخر لأول مرة. وعندما يعرض الرجل أسبابه ينحل سوء الفهم، تنهار توقعاتك بخصوص أي ماضي مشترك بين الرجل وزوجة صديقه. مع ذلك يظل إحساس مريب يلازمك قد يكون بسبب المسافات النفسية بين الشخصيات إذ تجمعهم علاقة عمل، أو قرابة بعيدة. تلك المسافات التي تحكم علاقتك بالنص أيضا، علاقة الشخصيات ببعضها، وبالثأر، وعلاقة الثأر بالوظيفة، وعلاقة القصة بعنوانها، وحتى علاقة العنوان بعنوان القصة السابقة. بساطة الحدث – الذي قد يتعرض له أي موظف – تنفي غرابة الاستهلال، ولكن لماذا تعمد الكاتب أن يدخل إلى الحكاية من باب الارتياب، باب الغرابة؟!

يعتمد فرويد في تفسير الأحلام على الفصل بين الصور التي يراها النائم في حلمه، وبين الإحساس الذي تثيره تلك الصور في نفسه. قد يرى النائم في أحلامه رؤى دموية ومقززة ويصحو سعيدا رغم ذلك، أو العكس. فرويد نفسه في أحد أحلامه رأى نفسه يتبول فوق مدينة من الخراء وصحا من النوم منتشيا فلم يشعر بأي استياء أو قرف، على العكس كان الحلم يعكس إحساسا بالفخر والعظمة، حاولت الأنا إخفاءه ـ عن رقابة العقل ـ في تلك الصور المقززة التي كانت محاكاة مشوهة لمشهد من رواية عوليس قرأه فرويد في اليوم السابق للحلم.

لذلك فإن الصور في الحلم تكون كاذبة، شذرات بصرية مجمعة من نفاية الذاكرة تعمل لصالح رغبة أخرى مستترة، لا تجرؤ على الكشف عن وجهها الحقيقي أمام رقابة العقل. تنجح الرغبة في تزييف الصور، لكنها لا تستطيع تزييف إحساسك بالحلم. يظل الإحساس هو الصادق الوحيد، وهو المفتاح لقراءة حقيقية للحلم. ومن ذلك الإحساس الملتبس بالخوف والارتياب ولدت قصة (امرأة). هذه القصة تحكي عن الخوف قبل أي شيء. خوف الرجل من فقدان وظيفته، وخوف صديقه من رغبته المفاجئة في مقابلة زوجته، وخوف الرجل نفسه من سوء ظن صديقه، وخوف الجميع من الثأر، باستثناء المرأة التي حملت القصة اسمها، والتي أشاعت الخوف واختفت قبل النهاية.
فخاخ سردية

تضم مجموعة القتلة إثنتي عشرة قصة قصيرة، تعد السمة المشتركة بينها هي إصرارها على هدم توقعات القاريء. دائما تعتقد في البداية أنك تقبض على النص، ودائما يخذلك النص ويمضي في اتجاه آخر. يعتمد الكاتب على الاختزال ليحفز خيالك أن يساهم في بناء الحكاية، وما إن تبدأ في بناء تصوراتك حتى يهدمها الكاتب بجرة قلم، كاشفا عن الفجوة المخيفة بين العالم وبين حدود معرفتك به.

ثمة نقطة تحول مفقودة تدور حولها كل قصة. التحول من الواقع للكابوس في قصة (المذبحة)، من الحياة للموت في قصة (العناكب)، ومن اللعبة للجريمة في قصة (القطارات). ولا عجب أن نتعرف على جذور تلك التحولات العنيفة في بعض كتابات كافكا، ومسرحيات يوجين يونسكو التي اعتمدت في بنائها السردي بشكل رئيسي على عملية التحول أو المسخ. ففي (المذبحة) على سبيل المثال يستيقظ البطل من كابوس مفزع، ويستعيد من ذاكرته أحداث الكابوس، وأحداث الليلة الفائتة في نفس الوقت. ليلة (اندفع الجنود حول المدينة وأحكموا حصارها). استرجاع مظاهر الحرب والمذابح والتصفية الجماعية للأهالي في الشوارع والبيوت يوحي بالدخول في كابوس أبشع. مشهد لأحد الجنود يذبح جنينا في رحم أمه يصل بنا إلى أقصى درجات الحلم.

لا نقبل بالمشهد في سياق الواقع. في داخلنا نتمنى أن يكون كابوسا. وربما نصفق لأنفسنا عندما يعود بنا الكاتب للبطل في منزله وهو مازال يسترجع تفاصيل (الكابوس/ الأمس). يطمئن على أطفاله النائمين، وهم يشهرون سكاكينهم المتحفزة تحت الغطاء – ألم ينته الكابوس؟ يذهب إلى العمل، يحكي لزملائه عن الكابوس ويضحكون، ثم يعود إلى منزله عاقدا عزمه على ذبح زوجته وأطفاله – إذن فمتى ينتهي الكابوس؟ – يعود إلى المنزل ليفاجأ بجثة زوجته المضرجة بالدماء، وأطفاله الذين ينقضون عليه بالسكاكين فور وصوله فيذبحوه قبل أن يبادر بذبحهم.

تنتهي القصة ولا ينتهي الكابوس! وفي (القطارات) يحاول الحفيد أن يجذب اهتمام أقرانه إلى حكايات جده عامل السكة الحديد، ومكانته الأسطورية، هو الرجل الذي يتحكم في مسار القطارات. وعندما يسخر الرفاق من كلامه ويتهمونه بالجنون، يقرر الحفيد أن يثبت لهم صدق أقواله، يغافل جده العجوز ويحرك جميع الأذرع الحديدية التي تغير مسار القطارات. ونلاحظ في القصتين أن التحولات لا تخرج عن منطق النص. فالواقع يتشابه مع الكابوس بمنطق الحرب، والجريمة تتشابه مع اللعبة بمنطق الطفل، بحيث لا يفرض الكاتب شيئا على النص. حتى شخوصه يتركها تمضي نحو مصائرها وفق منطقها الخاص، وهو ما نراه بوضوح في قصة (الفخ).

فالبطل في قصة (الفخ) يسعى لمقاومة الشر، وفي سبيل ذلك يتخذ أفعالا تستدعي المزيد من الشر. فهو يحاول حماية طيوره المنزلية من هجمات كائن مجهول يتسلل إلى حديقة منزله ويحصد أرواح الطيور. كل مرة تأتي صرخات الزوجة من الحديقة لتخبرنا بتكرار المأساة. يستعين البطل بكلب حراسة، لكن الزائر المجهول ينجح مجددا في قتل الطيور كما تخبرنا صرخات الزوجة.

وأخيرا يستعين البطل بفخ حديدي يدفنه في أرض الحديقة للإيقاع بذلك الوحش. قد يكون الكاتب استعان بالكلب الطيب حتى يدفعه للسقوط في الفخ الشرير، وهو ما يتبادر لأذهاننا خاصة عندما نسمع صرخات الزوجة في الصباح تعلن عن وقوع مأساة جديدة، فلا ندرك أنها صرخات احتضار الزوجة التي يتمزق لحمها بين أسنان الفخ المشرشرة!

لا أستبعد أن يكون الكلب قد تسلل إلى النص هاربا من قصة أخرى وردت بنفس المجموعة تحت عنوان (الكلاب). والتي تحكي عن رجل غامض يصيد الكلاب في الليل. ربما نجا ذلك الكلب من الموت في قصة (الكلاب) ليؤدي تلك الحيلة الأسلوبية الرائعة في قصة (الفخ) فيسرق أنظارنا مرتين، مرة حين يتقاعس عن درأ الخطر عن الطيور، ومرة حين يحول بين توقعاتنا وبين سقوط الزوجة. وربما سيعاود وفيق الفرماوي استخدام ذلك الكلب في ألعاب أخرى أكثر عنفا ودموية، وذلك في مجموعته الثانية (الحصار) الصادرة عام 1991، تحديدا في قصة (الكلب).
من هم القتلة؟!

وكأنها عادة، تبدأ قصة (القتلة) من عالم مألوف جدا. من مكتب داخل مؤسسة حيث يدور حوار بين اثنين من الموظفين، أحدهما يطلب خدمة من زميله الذي يرحب بالأمر ويتعهد بتقديم المساعدة مؤكدا أن (الأمر بسيط، وكثيرا ما يحدث) رغم ذلك يتفق الاثنان في سرية تامة على اللقاء بعد ساعة قرب ميدان معروف. يلتقي الرجلان خارج نطاق العمل ونتابع خط سيرهما من شارع لشارع، ومن حارة لحارة في دروب ثعبانية تنتهي بنا إلى أرض خلاء موحلة ترتع فيها السحالي، حيث يجتمع الرجلان هناك بقاتل أجير في إحدى العشش.

نبتعد قليلا عن المألوف. (في العشة انتهى اتفاقنا إلى ذبحها) ليست أول ولا آخر مرة يعهد فيها الكاتب إلى الاستخدام المفاجيء لضمائر الغائب، بطريقة تضفي على الموضوع أو الشخصية المشار إليها هالة من الضبابية والغموض ـ فعلها من قبل مع الكائن المجهول في قصة (الفخ) الذي استمد غموضه أولا من عدم ظهوره. ثانيا عدم تحديد جنسه أو نوعه أو حتى تأكيد حضوره إلا في رواية الجارة، ثالثا فشل الكلب في التصدي له الذي أكسبه أبعادا أكثر غرابة، بحيث تحول الكائن عبر اللغة وحدها إلى معنى أكبر. هو الشر، أو الخطر في ذاته. هم القتلة في ذاتهم أيضا، وهي الضحية عزيزي القاريء (انتهى اتفاقنا إلى ذبحها) بغض النظر عمن تكون ـ إنها إنسانة تقرر قتلها كما نفهم أخيرا حين يدلي البطل بأوصافها للقاتل، فيعريها أمامنا من أكثر أسرارها حميمية، والفاجعة أنها حبيبته كما نلاحظ ـ من استغراقه في وصف سماتها المعنوية أكثر من أوصافها الشكلية ـ وكما سيقول هو بنفسه بعدها في زلة لسان، ربما يقول للقاتل، وربما لنا، ربما لنفسه. لا نعلم. لكن القاتل يتطلع لصورة الضحية ويستمر في استنزاف المعلومات من الرجل،

يسأله إذا ما كانت حبيبته (موظفة؟! نعم. تسكن أول الشارع؟! نعم. حجرة نومها تطل على الجراج؟! نعم. نعم. لها حسنة أسفل ظهرها؟!..) يبلع الرجل لسانه وقد بلغ به الرعب ذروته، بينما يضحك القاتل في وجهه ساخرا (هذه الفتاة قتلتها من قبل!)

إذن فالضحية قتلت مرتين على أقل تقدير. بالنظر إلى الجانب المعنوي لفعل القتل، فإن هناك من قتلها بلسانه كما فعل البطل، وهناك من قتلها بيده كالقاتل الأجير، وهناك من قتلها بالوساطة كصاحب البطل وصاحب مقولة (الأمر بسيط وكثيرا ما يحدث) وهناك – فوق ذلك – من قتلها من قبل! سواء كان حبيبا آخر أو نفس الحبيب الذي تفصح أفعاله عن فصام ما. وإن ظلت الضحية حاضرة في مخيلته، ترفض الاعتراف بموتها، كما ظلت أوصافها خالدة في ذاكرة قاتلها.

وربما قتلت هذه الفتاة من قبل مرارا في نصوص أخرى لكتاب آخرين. إلا أن الفرماوي يبحث في الجريمة عن سوء فهم أعمق، هو الكاتب الذي يتبنى أسلوب قاتل محترف في كتابة القصة، فلا تعرف كيف أو متى انتزعك من المألوف إلى الغرائبي، كيف يحفر في الخيال قبرا ثم يدفنك فيه، كيف يورطك في النص فتمضي تحت إمرته صوب نقطة بعيدة ومجهولة بينما تنتهي الأرض تحت أقدامك، تحاول أن تتراجع فلا تعرف أي فخ قد يبتلع قدمك، ولا أي سحلية قد يهرسها حذاؤك بتراجعك غير المحسوب، ولا أي جزء من روحك سوف يسقط في السطر القادم، ولا من أين ستأتيك ضربة النهاية.
النحت في الروح

يتحدث الفرماوي في حواره لجريدة الشرق الأوسط عن قراءاته الأولى فيقول (إن قراءة ألف ليلة وليلة أدخلتني في عوالم عجيبة وغرائبية، أكسبتني قراءة أرسين لوبين وشارلوك هولمز القدرة على الكتابة التشويقية بينما جعلتني قراءة أجاثا كريستي أمتلك قدرة أخرى في الكتابة، وهي كيف تمسك بتلابيب القارئ حتى آخر سطر وتجعل نهاية القصة ومفاتيحها في آخر صفحة) وإن كانت الكتابة الحقيقية من وجهة نظره (هي تلك التي تترك في روحك أثرا لأحداثها وحياة أبطالها) فإننا نلمس ذلك الأثر التشويقي في قصة (القتلة).

لقد قطعنا مع البطل طريقا طويلا في سطور قليلة، من المدينة إلى الخلاء، من الأسفلت إلى الأوحال، ومن نور الفجر إلى نار الظهيرة، تسلقنا السور الفاصل بين عالمنا وعالم القتلة. يسوقنا الفضول لأن نفهم حاجة البطل. إلى أين يصحبنا؟ وما هي طبيعة الخدمة التي طلبها من صديقه لقاء كوباية شاي؟! لقد ائتمن صديقه على السر ولم يأتمنا. وحده الصديق يعرف الطريق إلى القتلة. وحده البطل يعرف أسرار حبيبته. إلا أن (القاتل يعرف أكثر) كما تخبرنا النهاية. وهو يستعرض أوصاف الضحية بتحديد أكثر، شكلها، وعنوانها، وتحركاتها. بخلاف ما ذكره البطل عن هواياتها، قراءاتها، ذوقها في الملابس والألوان.

ويؤكد البطل على كلمات القاتل كل مرة بنعم، نعم، نعم. وكأنه يضمر في أعماقه أسئلة أخرى يود طرحها على القاتل (من أنت؟ جارها؟ قريبها؟ عشيقها؟) تكاد الأسئلة تقفز ما بين السطور عقب كل معلومة يعرضها القاتل عن الضحية، تتصاعد الأسئلة كالموج لتتحطم على صخرة النهاية (هذه الفتاة قتلتها من قبل!) من القاتل إذن ومن المحب؟! أنت؟ أنا؟ وفيق الفرماوي؟
أعلى