زهرة رحمة الله - المنقبة

القلم أضبط الخط تحت عيني ..أضيف طبقة ماسكرة على رموشي.. ظلال خفيف على الجفن العلوي والليلكي في الزوايا وعلى والجفن الأسفل ..أنظر في المرآة .. أمعن النظر في وجهي ..ألبس العباءة وأثبت النقاب على وجهي .. أحكم خيوطه خلف رأسي.. أخذ حقيبتي وأنظم إلى السابلة في نهر الشارع..وصخب الأرصفة..أيمم صوب الطرقات المكتظة والشوارع المزدحمة..أحاول ملامسة الأكتاف.. أدفع بأيدي الأجساد..تستدير الرؤوس نحوي ..أنا المنقبة.. أبحث بعيوني عن رجل ما.. تقف عيونه في عيني أنبش غوره..لهفته.. درجة صموده أمام طقوسي ..عبثي ..أترقب شبح ابتسامة ترتسم على شفتيه.. ورفرفة الحلم على خديه .. أؤمي له.. أدعوه ببناني ..
كقطة أليفة يسير خلفي…. بخطى متئدة .. واثقة أقوده إلى شقتي المفروشة والتي استأجرتها منذ ثلاثة أيام ..
ندخل الشقة.. أغلق الباب .. يشملنا الصمت ..الوحشة..تتمدد المساحة أمامنا..يجثم التوتر على صدري ..يخيل إلي بأن الكون خاوياإلا من ضجيج أنفاسي أشغل آلة التسجيل ..أقذف بكومة بخور على جمر في مبخرة معدنية..
لحظات ويرتفع دخان معطر لولبي تصاحبه ..أنغام صاخبة..مرتعشة..تهتز له الحيطان ..وترقص الزوايا..وأميل أنا معه برقصة الحية أمام إله وثني..يفغر فاه ..تجحظ عيناه ويسقط جسده على المقعد بذهول..أركض نحوه أوثق يديه وقدميه من الخلف وأنا أحدثه عن طقوسي الغريبة والتي ستلون مساءنا سحراً.. وسيغدو الشوق جسراً ًستعبره الأماني والأحلام وننسج نحن بوداعة أنشودة الحب..وأعصب عينيه..ينسج التوتر خيوطاً على محياه..يفتح فاه.. أحشر فيه فوطة سميكة مطوية..تتجمع حبات العرق على جبينه..تتنافر العروق في عنقه..ويغدو تنفسه حاداً سريعاً ..ويغدو هو قالب رجل مطوي بصمت قسري… أجلس قباله ..افترش الأرض ..أسند ظهري على الحائط وأشعل سيجارا ..اشعر بالتوتر يتسلل جسدي يترسب تحت أظافري أحس بالصقيع يلفحني.. أسحب نفساً عميقاً اشعر بحزمة خيوط كثيفة حارة .. لاذعة تتجمع في حلقي تتكوم في صدري أنفثها في الهواء ..وأنظر إليه تتقلص ملامحي..يبرز الضيق في عيوني ويغيب وجهي خلف ضباب كثيف ..
- إنها البداية أقول لنفسي..
أقترب منه ألهب وجهه بأنفاسي..ترتخي ملامحه ..يلوح الأمل في ذهنه لكنني سرعان ما أغرس عقب السيجار الملتهب في كتفه وأبتعد ..يلتوي جسده..تتضخم العروق في عنقه..ويلف رأسه في كل الاتجاهات.. تتحرك يداه ..قدماه بمحاولات يائسة لفك الوثاق..أعود إلى مكاني وأشعل سيجارا آخر ..تمر الدقائق كسلحفاة هرمة وهو قابع في قالب رجل مسلوب الفعل.. وخارطة البقع الحمراء والسوداء تنتشر على مساحة جسده وتمتزج في فضاء الغرفة رائحة البخور والجلد المحروق تخنقني.. تفلق رأسي تفجر في صدري براكين التقزز .. أقترب منه أفك وثاقه وأنا أصوب المسدس على رأسه وأمره بالرحيل بدون ضجيج وأرقبه من بعيد وهو يلملم ملابسه وحذاءه بألم وانكسار ثم يفتح الباب وينزل الدرج متعثرا ويختفي في الشارع بسرعة مذهلة ..اشعر بالضحك يتفجر في روحي في مسامات جسدي فأضحك وأضحك حتى اسقط على الأرض بإعياء.. وابكي بحرقة وألم ويرتفع صوت نحيبي ويرتطم بالحيطان ويتراكم بالزوايا.. وأتذكر بكائي حين توفى والدي والذي كنت أحبه جدا وحين انتقل عصام زميل طفولتي مع أسرته إلى منطقة أخرى.
وحين انتشلني زوج أمي من مقاعد المدرسة وقذفني في براثن رجل يكبر والدي ..رجل شاذ ..معتوه لكنه ثري.. وخنق بأنامله الغليظة شموع أحلامي وأغلق أمامي أفق طموحاتي وأغرقني في بحيرة الألم التي لا تنتهي ..زوج أمي البشع..

- أتركيه يذهب يا أمي أتركيه أنا أخافة..
كانت أعقاب سجائره تحفر خار طه مؤلمة في جسدي .. يصهر جرحها يقظتي ومنامي..
- اتركيه يذهب .. أنا أكرهه.. أكرهه..
كانت تضمني إلى صدرها بشدة وتقول:
- لا أستطيع ..لا أستطيع ..حين تكبرين ستفهمين ..
لكنني يوم وجدته على السطح يصلح الهوائي فدفعته بشدة فحلق في الهواء قليلاً
وتعلق صراخه في أذني ولم أره بعدها..

تتقلص معدتي ..ويشتد الضغط على صدري ..تتجمع الحموضة في حلقي أركض إلى الحمام وأتقيأ..وأترك رأسي تحت الصنبور وأنام في بركة ماء ..
تمر الشهور وأنا أجدف في بحيرة الراحة والطمأنينة ,, تتلبسني مشاعر الرقة و الدعة ..ويغدو العالم بستانا في غاية الجمال ..وتدريجيا يستيقظ المارد في أعماقي يتوسد التوتر تحت جلدي ..يزاحم أيامي القلق ..الأرق ونفاد الصبر أركض أستأجر شقة مفروشة بحي آخر ..تحت أسم آخر والتحف العباءة وأدفن ملامحي خلف نقاب أسود كثيف وأجوب الطرقات بلا هوادة وعيوني تلاحق الخطوات تقف في العيون تتفرس في الوجوه ..أبحث عن رجل ..في يوم كنت في سيارة أجرة .. رأيته ..ترجلت من السيارة لحقت به أتبع ظله..أسير خلفه أو بجانبه ..أبحث عن عينيه لكن عينيه طائران تحلقان .. ترفرفان في كل الاتجاهات ..لا تنظران نحوي ..لا تقفان في عيني وتعيداني إلى حجرتي مرهقة.. بائسة محبطة..أبكي بحرقة..وأنهض في اليوم التالي أكثر تصميماً إلى حمله إلى الشقة..في يوم أمسكت ذراعه.. ألجمت حركته ..طلبت منه مرافقتي إلى شقتي ..
لكن كفه الغليظة هبطت على خدي أغلقت فمي ..أسدلت ستارا مظلما على عيوني وقذفتني على الرصيف ..حين فتحت عيني كان قد تلاشى ابتلعته الاتجاهات.. كانت أبواق السيارات تنهال على رأسي بعنف وعيون المارة تنبش وجهي بحيرة..في يوم أخر صرخ في وجهي ..
-كفي عن هذا ..ألا تخجلين ..
نفث كلمات حارة في وجهي كدبابيس حادة انزلقت في جسدي..ووسع خطاه..تركني لعاصفة دموع الحزن ..الخوف والحيرة..كانت شمس الظهيرة لاذعة تسكب جام غضبها على جسدي والعباءة السوداء تضيق بي والنقاب الكثيف يتحول إلى أنامل مخيفة تلف عنقي.. أحسست بأنني امرأة وحيدة.. يائسة .. غريبة مقطوعة الجذور ..بخطوات لا مبالية أتخبط في الشوارع و الأرصفة والطرقات وفي الأخير لملمت نفسي على مقعد في حديقة عامة ورحت انشج بحدة..بكيت طويلا حتى انتفخت جفوني وجف دمعي ..ثم نهضت أنفض الغبار عن عباءتي وأسوي النقاب المبلل على وجهي ..وأتحرك جاء صوته يكبلني.. يهز كياني يسكب شلالاً بارداً على روحي ..أستدير كان هو بقامته المديدة وحضوره الجميل وبحيرة العسل الممتدة في محيط عينيه..وحدثني بأنه مرتبط ..ولم ولن يفكر في الخيانة وأنا لابد أن أبحث عن رجل مناسب كشريك حياتي..هززت رأسي بشدة وقلت له: لا..لا ..لن أتزوج.. لا أريد الزواج..
- ألا تخجلين مما تفعلين.. وارتفعت يده وكادت تهبط على خدي حين انفجرت أصرخ بشدة ._.لقد تزوجت وتعذبت كثيرا لا..لا..لن ..كان رجلا معتوها ..شاذا كان يوثقني بالعمود كان يجلدني بحزام بنطاله ..كان يضربني حتى يتفجر جسدي الفتي .. دما.. كان يلعق جرحي ويبكي ..لكنني قتلته نعم قتلته.. تفجرت الكلمات كالحمم من حلقي تنفث عذاباتي ..مأساتي .وتتركني ألهث أمامه ..ساد صمت ثقيل بيننا..ارتسم الذعر على وجهه اتسعت عيناه ..اختنقت الكلمات في فمه ..استدار إلى الخلف بعدم الحيلة ..
استطردت بألم.. _كانت إحدى نوبات مرضه الحادة حين طلب مني أن أحضر له الدواء من الصيدلية ..فتحت باب ..سجني انزلقت إلى رحاب الحرية ..استنشق عبير المساء الممزوج بضجيج السيارات وصرخات الباعة وهمهمة المارة والأغاني ورائحة الشواء والأطعمة المختلفة ..عبيرالحياة مفعم بسحر وعذوبة ..رحت أجوب الشوارع بهدوء أتمرغ بالإحساس الجميل..أتلكأ عند المحلات .. أتلذذ بإيقاع حذائي على الرصيف ..كان الليل يتوغل في أحشاء المدينة ..والطرقات تلفظ المارة وامرأة وحيدة تهيم بلا هدف ..لم أدر كم مر من الوقت حين مرقت من أمامي سيارة صاخبة لمجموعة شباب وفجأة أستدارت مزق أنين كابحها ستر الصمت وراحت تلاحقني ..كنت أركض وأركض لا أعرف إلى أين ..تملكني الخوف .. لحظات الحرية القليلة غدت رمادا باردا وحلت محله غصة حارة..كان العالم من حولي شاسعا.. ممتدا وخيارتي ضيقة..لا ملجأ لي لا حائط لا صدر ولا يد تلمني تعطيني الأمان تعيد إنسانيتي ..قررت العودة كان قراراً مرعباً مميتاً ..سقت نفسي إليه.. بلغت الشقة ركضا ..وحين دخلتها تعثرت وسقطت على الأرض نظرت حولي .. كان هو يرقد ..هادئاً متجمداً.. تسللت القشعريرة جسدي وموجات من الخوف والفرح فرحت ابكي واضحك وأصرخ بجنون.

أعود إلى شقتي .. أجرجر أذيال الخيبة .. جمعت عباءتي ونقابي كل ملابسي وكل ما أملكه في الشقة .. دفنته في كومة .. ألقيت عليه عود ثقاب ورحت أتأمل ألسنة النار تلعق أيامي .. آمالي.. أحلامي الصغيرة ..كانت حيطان
المنزل تنهار واحدة تلو الأخرى في عيني ..لم يكن هناك شيء جميل ..حميم..ساطع..اقتربت من النافذة ..كانت الشمس تلملم خيوطها الذهبية والمنازل مسترخية خلف ستائرها المخملية ..هناك زوايا تعبق بالحب بالدفء والمشاعر الإنسانية الأخرى ..كانت رائحة الخبز وصراخ الأطفال وأبواق السيارات تشكل جوقة المساء ..جوقة الحياة ..تلك الجوقة التي لم تشملني قط ..لم تحاصرني بألفتها ..لم تضمني إلى سربها ..لا علاقة لي بتلك الوشائج الحميمة التي تنبت
في القلب وتهز الوجدان وتضخ في الكيان إكسير الحياة..كانت حياتي ممرا قاحلا موحشا تجتاحه كوابيس الليل والنهار ….ينزلق بصري إلى الأسفل حيث تقاطع الطرقات والمارة في الأسفل كان يقف هو بقامته..نعم هو قلت لنفسي
أ حسست بشلال بارد يغمرني استدرت بلهفة بفرحة وشهقت عاليا..كان حائط النار يقف أمامي .. ألسنته اللاذعة تجذبني .. تلفني وتلقيني في الجحيم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى