د. سامي عبد العال - الخطيئة والوباء!!

بعضُ الخطيئةِ– كما يوضح تاريخُ الأديان- يُشبِه الأوبئةَ لمَنْ يصادفُها. الاجتياح واحد والفعل واحد وكذلك ردود الأفعال واحدة، هذا عدا تأثيرهما الذي يتجاوز الأفراد ... هكذا قد يصور رجال الدين خطورة الخطايا التي يرتكبها البشر، يصفونها بلغة العدوى معتمدين على نبرة التعميم ويقين النتائج وانتظار المصير. لكن لو دققنا جوانب المسألة، سنجدها أعقد من ذلك بكثير، حتى على المستوى الوجودي- اللاهوتي بين الظاهرتين. فالخطيئة(الشرور، الأفعال اللاأخلاقية) هي إحدى مواد البشر النفسية والسلوكية، وكذا الأوبئة(الفيروسات، الأمراض) مادة طبيعية بيولوجية وسلوكية.

وربما التقاطعُ القريب بينهما يأتي نظراً لترك أثرهما معاً داخل الحياة الإنسانيةِ. فلو لمْ نَكُن أحياءً ما كنا لنُخطِّئ ولا نُصاب بالعدوى. وهذا لا يعني نقضَاً للحياة، لكن شِبْهَ التماثل أحياناً هو الذي يربط القصدَ والطبيعة(الإرادي والمادي)، ويدفع لنا بوُجوه الدلالة الفلسفية الطريفة التي قد نلتقطها من بعيدٍ وسط الجوائح كوباء كورونا. هذا الحال يطرح مفارقة أن ما يؤمن به الإنسان قد يسقطه على الأشياء، ومنذ القدم إلى الآن ما فتئ معتقداً أن عالم الكائنات يسير وفقاً لما يظُن وقد يناصبه العداء والحروب.

الوضع السابق ليس إحالةً تلقائية إلى اللاهوت تخصيصاً، إنما يُتأوَّل من واقع الحياة: كيف يمارس الإنسان ما هو ميتافيزيقي بطريقة تاريخيةٍ؟، أي كيف يضع المتعالي في سياق ومعنى لا يؤديان بالضرورة إلى مرجعيته القُصوى، لكنه يتحين ظهور الأحداث للتفكير فيما يُحتمل من تراثٍ؟ وبخاصة أنَّ مخاض الاحتمال(كحالة كرونا) بمثابة مخاض كوني، يجرّب الإنسان فيه كلَّ ما يملُّك، وجميعَ ما يسكن ذاكرته البيولوجية واللاهوتية والرمزية. والحياة الإنسانية إجمالاً تشبه الذاكرة التي تربط أطراف الزمن وتعطي كائناتها اللياقة التاريخية المتجددة للفعل والممارسة.

بهذه الخلفية، فالاثنتان(الخطيئة– الأوبئة) لا تستحدثان من عدم ولا تفنيّان دون رجعةٍ، إنما تنبعثان بالتواتر- كُلما خَملتا- من الرماد. فالخطيئة(أخلاقياً) كامنةٌ لدينا نحن البشر في مجمل التفاصيل، وبالمقابل قد تظْهر الأوبئةُ طالما توافرت الشُروط. فلم ولن يَخلُو وقتٌ من الاثنتين بقدر تركهما للأثار. اللاهوت والطبيعة( بتلك الزاوية الحيَّة) ربما يساندان بعضهما البعض، لأنَّ مسببات الأفعال وردودها ترتبط بحياتنا المشتركةِ. وتفترضان بالضرورة انساناً ما، تُوجدان أينما وُجد وتغيبان حيثما يغيب. في تراث الذنوب والآثام والثواب والعقاب، لم تقع خطيئةٌ خارج الإنسان، هو ككائن حي يفترضُها وهي تلحق به ضمن دوائر اللاهوت والمجتمعات الإنسانية. وكذلك لا تذهب الأوبئة بعيداً دون فرد هو حاملِّها النابض بالحياة، وتعدُّ بهذا المنطُوق الطبي (وباء) نتيجة العدوى التي تصيب البشر.

جانبٌ من الخطيئة أنَّها ذات مظاهر طفيلية parasite، أي في شكل ظهورها، وهي السمة عينها التي توجد في حالة الأوبئة. لكنهما تستوليان على ما هو أساسي، عاجل، حتمي فينا( أي تستهدفان الحياة). فقد يكون مظهرُ الخطيئة عرضياً بحكم أننا لسنا أشراراً طوال الوقت، لكنها تتحيّن الفُرصة لتتمكن من الجوهري فيما بعد. إذ يصف الناسُ بعض المخطئين بالخبثاء وفاسدي النفوس والسريرة. أي يظل الإنسان يُخطئ ويسيء الفعل والقول حتى يعتاد ما يفعل وربما تغلب عليه الأعمال المُشينة. والأوبئة تأتي بغتةً دون سابق إنذارٍ، بيد أنَّها تسكن الجانب الآخر غير المُصاب من الإنسان. فآثار الفيروسات تنتشر كالمرض في أجزاء الجسم الحي تدريجياً وبخاصة الاعضاء التي لم تُصب. لأنَّ الفيروس ينتشر وصولاً لباقي الجسم عن طريق طبيعته البيولوجية.

لعلّ الباقي الآمن من كياننا بالجانبين يستدعي وجود اللاهوت والطب، لكنه يشتغل على لياقة الحياة داخلنا والخلاص الذاتي الذي نرتئيه. وهذا سبب الإشكال في حركتهما(الخطيئة والأوبئة)، حيث تضع الخطيئة الآخرين بمرمى الخطر بعدما قد نالت من الذات، الخطيئة تعني أن الإنسان خطر على ذاته كما تذهب المسيحية، وأنها شيء حتمي لا مناص منه بحكم بشريتنا المخلوقة، بينما الوباء هو الخطر نفسه للآخر وقد تجاوز حدود الأنا بالفعل ليُعدي المحيطين.

دوماً تراهن المجتمعات على (مساحة الباقي الآمن) من عدوى الخطيئة والأوبئة، فلا يعيش مجتمع دون إزاحة الجانبين بعيداً. لأنَّ مساحة المجتمع تنشأ عن تلك البقعة بخلاف الخطايا والأوبئة آخذةً في ترميم ما عَطِب(الجريمة، الإساءات، القبح). فالإنسان يظل طوال حياته واقفاً وسط الباقي الذي لا تطوله العدوى مثلما يرتئي البعد عن الخطيئة. وهما المنطقتان اللتان يظن الناس فيهما وجود الخير وإرادة الحق وفعل التسامح وقبول الآخر(خارج الخطيئة) وكذلك وجود الصحة والحيوية وصيانه الحياة (خارج الأوبئة). فإذا كانت التفاحة معطوبة فالإنسان يمكن أن يستبعد الجزء الفاسد منها ويبقى على الجزء السليم.

العدوُى شيءٌ مشترك بين الخطيئة والأوبئة، فالمخطئون في تراث الديانات كانوا منبوذين، محطمون بالأوصاف اللاأخلاقية والمهينة، كأنَّهم يحملون أمراضاً لا بُرء منها، يتجنبهم المجتمع ويوصمون بعبارات مزرية. وذلك يرتبط بمعاني الذنب والإثم والتحريم والإقصاء دون تردد نتيجة التجرُؤ بارتكاب مالا يُقبل، كأن المذْنب به وباء قاتل لا يبقي ولا يذر. أمَّا الأوبئة، فعدواها هي الدلالة البيولوجية المباشرة لما تسببه، يفر منها الناس فرار السليم من الأجرب. وليس أقرب إلى توضيح ذلك من وقائع كورونا التي دعت إلى الانعزال والتجنُب بالطريقة نفسها.

في آفاق الإنسانية، أتت دلالةُ الخطيئة بوجوه عدةٍ، فقد كانت تأصيلية بمفهوم الدين المسيحي حيث تتشبع بها كل تفاصيل الحياة دون توقُف، وتعد التصور الأساسي لكل من الصلب والفداء وحتى عودة المسيح. وهي الخطيئة المتوارثة منذ أنْ رأى الإنسان(بوصفه انساناً) أرضَ الحياة. لأنَّ تكوينها(الخطيئة) من جنس الخَلْق الإنساني، وهي تعادل كونه كذلك حيث يترك أثراً حين يعمل (نحن كائنات بشرية نُخطئ لأننا بشر وأبناء آدم).

الخطيئة هنا عبارة عن قابلية ذاتية أنطولوجية للوقوع في شِرَاكِّها المنصوب دوماً. وينطوي الإنسان على إمكانيتها حتى ولو لم يفْعل قصْداً، لأنَّ إرادتنا ليست حرةً في كل الأحوال. الخطيئة تحدث نتيجة العجز عن وجودٍ ما يلبي نداءَ الحرية بشكلٍّ أصيل. ولأننا (أدم) الذي خُلق منذ بداية الوجود ووقع بالخطيئة، فهو(أي آدم) نحن بالجنس العام(أبناء آدم) لا بالجوهر الفرد. نحن آدم وآدم نحن(بلغة الإسلام: كلكم لآدم وآدم من تراب).

ولذلك كان تاريخ المسيحية يتعامل مع الأوبئة من جنس الخطيئة، بمعنى أنهما (الخطيئة والأوبئة) كانتا تلتقيان في الباقي( الجانب السليم والصحيح) منهما لصالح العدوى, فالمريض كم جرى الاعتقاد السائد إزاءه أنه ممسوس نتيجة علةٍ غير مرئية من مادة الأمراض نفسها. أي قوة غامضة (روحية وجسمية) تتلاعب به وتسوقه إلى مجاهل الخبل. وكان الشرط المسيحي للتخلص من الأوبئة هو اعادة الاعتبار لفهم الخطيئة والخلاص، وكشف الأسباب القديمة بشكل لاهوتي. والأمر من تلك الزاوية نوع من الإلحاق الميتافيزيقي للشرور والأمراض تجاه قوة الرب.

ليس مصادفةً أنْ تأتي مقولة نبي الاسلام اجابةً عن أحد الأسئلة بمثل هذه الظواهر: ما النجاة؟! قال.. " امْسك عليْك لسانك ... وليسَعُك بيتُك وابكِ على خطيئتك...".. الاقتران بين البيت والخطيئة هو المعالجة غير المباشرة لوباء قد يمس الآخرين. كأنَّه يذكِّر البشر بما فيهم من خطاياً، ونحن بالحال هؤلاء الخطَّاؤون الموجودون بين الناس فيما نقول ونفعل، كما يتردد اسلامياً على نحو عام: "كل ابن آدم خطّاء وخيرُ الخطَّاؤون التوابُون". إذن شكل العزلة الراهن لم يعد يهم إلاَّ بوجه خاصٍ إزاء كل الناس. وإلاَّ لسُميت أيةُ عُزلة اجتماعية بالتباعد... وهذا لم يحدث في حال الأوبئة إلاَّ بشروط إنسانيةٍ. فالتباعد هو قدرتنا للمحافظة على المسافة التي تسمح بصيانة حياتنا وحياة الآخرين.

الخطيئة والأوبئة تستدعيان بمعناها المسيحي والإسلامي مفهوم( النجاة)، وإنْ كانت الكلمة مثقلة بدلالات لاهوتية، فقد جعلها الفيروس تمرينا بيتياً. النجاة ليست فقط لاهوتية هذه المرة بل صحية بذات الدرجة. لأن المنقذ من الموت سواء أن معنوياً أم بيولوجيا قد لا يميز بين دلالة الكلمات لكنه يمد يد العون للإنسان. فيروس كورونا كرَّس وضعاً مشحوناً بالتعالي الخاص والتوحُد بالذات والانفراد بالروح والإقامة مع الصمت. تكاد هذه المعاني أن تمثل طقوساً يومية، وليست مظاهر خارجية يلجأ إليها الإنسان عنوةً.

لقد ارتبط طقس الانعزال بوضع البيولوجي والنفسي معاً، وهو ما يشابه شعائر الديانات. إذ بدت العزلة نوعاً من النجاة غير اللاهوتية فقط بملء الكلمةِ. والظلال الميتافيزيقية فيه ناتجةٌ عن قوة الاحتمال والايمان بالحفاظ على الباقي الآمن( بخلاف ما في الخطيئة والأوبئة). أي تحديد خطوط العدوى والابتعاد الخفي (السري) عنها، وليس هناك منقذٌ خاص سوى هذه البقاع المضيئة من التحرك الذاتي داخل البيت. وهو ما نقل النجاة من كونها أمراً جمعياً قد لا يحدث إلى خلاص شخصي بتدابير وقائية.

النجاة– اللسان:
التقت النجاة في عرف الاسلام مع المسيحية، في إيقاف آلة الصخب البشري. فقد قال القرآن عن السيدة العذراء(.. فأما ترين من البشر أحداً فقولي إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً). فالبشر ( الجانب البشري البيولوجي والغريزي) هو مصدر العدوى والخطايا والإنس هو ما يؤنس إليه لكنه قد ينتهي إلى حالة العدوى. إذن الانقطاع عن البشر هو انقطاع عن الكلام، هذا الصخب الجمعي الذي تغوص فيه الجماعات طوال الوقت. لأنَّ قوةَ الأوبئة لن تقهرها الأصوات العالية، لكن يجب الذهاب إلى الانعزال الصامت.

وإذا كان الصمت في المسيحية مرتبطاً بما تم توارثه وظل سارياً في جنبات البشر، فالكلام الثرثار هو الأخر يجتر البلاهة وضعف العقل. اللسان الصاخب هو الخطاب الذي يتجاهل قدرتنا على المعرفة والوعي بما يجري. لأنَّ الخطيئة قد تكون بسبب الجهل والأوبئة تحتاج معرفة وتقنيات. كلُّ لسانٍ هو ممارسةٌ إزاء أحداث تقتضي اتخاذ موقف. والإمساك عن الكلام موقف وجودي لا يُعني هروباً بقدر ما يعد ضرباً من التفكير. وبالتأكيد كلُّ الإنسانية أمسكت عليها لسانها الآن، وظل ضخ الأخبار الافتراضية وارداً من هنا وهناك فقط.

لقد عُلّقت الإنسانية من لسانها على ناصية كوكب الأرض انتظاراً للمجهول بكل لحظةٍ. هذا الخطر الذي يربط أيَّ كلام ويعقد الألسن من فورها. وقد حدث ويحدث ذلك يومياً. لم يكن الفيروس ليتسبب في إسالةِ الكلمات، لأنَّ الوعي أخذَ يُدقِّق بما يُقال، ففيروسات الموت جاثمةٌ كالكلب العقور على أنوف الآخرين عطساً وسعالاً!! ولن يفلت من عدواها كل متكلم أو مستمع، فالكلاب( الفيروسات) لن تتوقف عن النباح المتبادل على أنوفنا ونحن الضحايا بالنهاية.

إن اللسان يرتبط عادة بالنفس، التنفس، خُروج الهواء( الشهيق والزفير)، أي النُطق بالكلمات. وقد يكون إمساك اللسان تجنيباً لخروج العدوى، فأيُّ فعلٍّ يعقدُ اللسان عن النطق هو اغلاق للفم كجهاز للكلام. وهذا يسد باب التنفس وخروج الفيروسات لتصيب القريب منها. والمسيحية تعتبر الرب داخل الإنسان لا خارجه، أي هو يقطُن في الأنفاس الشاهدة على الرُوح القدس. المسيحي يتنفس الإله ويتوحد به من حيث أنه بمثابة انفاس الحياة.

وسْعُ البيت:
ربما الوسع والبيت قد يدلان على شيء آخر غير العزل المخيف( كالاعتقال، التوقيف الأمني)، لأننا ندخل إلى البيت وقد ارتضينا بُعداً عن العدوى(الخطيئة والأوبئة). وهذا ما يجعل أي بيت مكاناً للوسع، الفَسْح، الاتساع الذي نقبله دون تذمر. والبيت هو المجال الذي يخصنا تلقائياً دون الاحتكاك بالأخرين، إنه مكان للخصوصية. البيت أمام الفيروسات غدا اختياراً آمناً لا مفر منه، وهو نفسه موضِّع الإمساك عن ارتكاب الفواحش ومجاراة الآخرين. لقد عاد الإنسان مهرولاً إلى حيث يسكُن، وكأن السُكنى هي الإقامة الأخيرة. ولأن الوباء ينتصب بالباب وفوق الأنف أمام الآخر، فالبيت يعني الحد الفاصل بين الحياة والموت. كما لو أنه يقول عند حدودي تنتهي الحياة الآمنة، هذا الباقي الآمن( الذي تحدثنا عنه سلفاً) من الخطيئة والأوبئة. أما لو خرج الإنسانُ عما يحدده، فلن يكون إلاَّ التيه والاحتمالات المجهولة.

وتلك المجازفة هي التي تربط الوسع بالبيتِ في مقصود القول الديني والوقائي (الطبي). بحيث يبدو البيت بمثابة الذات الشفاف الذي تماهى مع المكان حجماً بحجمٍ. البيت هو العالم نفسه لا البديل له. لأنَّ كامل الرضى والوسع هما المؤكدان للمعنى. وليس عالمنا يحدده من هم بالخارج دائماً، إنما قد يبقيه الإنسان ولو بمساحة ضيقةٍ جداً، وبالتالي لن يكون هناك قيد بمعناه الحقيقي. فرغم أن البيت بيتنا ولكنه لن يكن سجننا بحال، لأنه اختيار لممارسة الخصوصية. وهذه قد تكون قمعاً، لكنها في تلك الحالة تبدو نوعاً من الحرص الحميم. حيث بإمكانها ترميم علاقتانا بكياننا، وهذا ما يفعله التجدد الداخلي لكل نفس ثرية تنطلق تحت عيونها غير المباشرة.

فلو اعترضت قوةُ أو سلطة أو جماعة طريقاً للذات، فما على الأخير سوى دخول البيت(العودة إليه بلغة الكورونا) واغلاق الباب. ورغم أنَّ بقايا وجودنا يظل بالخارج، لكن لا يهم، فالظلال لا تلحق بالذات ولا تنال منه، بالضبط مثلما لا يُعاقَّب على الخطيئة إلاَّ من ارتكبها ولا ينال الفيروس منه سوى من أصابته العدوى. والبيت ليس غريباً عنا ولا نحن غرباء عنه بالوقت عينه، وجه الألفة يقوى مناعتنا الفردية توطئة لحياة جديدة.

البكاء على الخطيئة:
هو دائرة النجاة التي تُغلَّق على الإنسان بتجنب أسباب الخطيئة والعدوى. في بيوتات الحجر الصحي هناك تأمل متواصل فيما آلت لها الأحوال. البكاء قد لا يكون هذا المظهر الدامع للعيون، لكنه الصمت والهُدوء والسكينة حيث تتساوى الخيارات. وإذا تم ترجيح إحداها فليس أفضل من المكوث بمنأى عن المرضى. والبكاء شجن ومراجعة وراء تصاعد الأحداث حتى استحضرت لاهوتا طبياً بالخلفية لإنقاذ البشر(هل من منقذٍ، هل من مخلص؟.. سؤال المسيحية والإسلام باختلاف الاجابة).

والبكاء ليس موقفاً ضعيفاً مهوَّشاً، بل لا تبكي إلاَّ الجبال الشامخة، هذه القوة المهولة التي تنتظر نفسها في الغد، كل بكاء هو أمل في تحقيق حياة أفضل، إنه موقف وجودي وروحي خاص. لا أحد يبكي بدلاً عن الإنسان إلا خداعاً ولو فعل آلاف المرات. لكن البكاء الحقيقي مراجعة وتقوية للإرادة وفحص الزمن برهة برهة. والبكاء ليس ندماً يزول بزول أسبابه أو ينشد استعطافاً ما، لكنه تجربة عودة لها أصالة الفعل. وهو كذلك يختلف عن دموع الزيف وعن دموع التماسيح، إنه قد يكون دموع الرجاء والاعتراف.

وقد أطلق البعض مع العزل الصحي دعوةً إلى إفراد أكبر مساحة للتأمل، فالإنسان كائن عاقل والتأمل يعطيه فسحة لتدارك ذاته كنوع من العلاج. وبخاصة أنَّ فنون التأمل والتفكير الحر وإعادة الاعتبار إلى الذات أشياء قد تنضو عنا بقايا القهر خارج البيت. والمدهش أن هذه الدلالات تمت في البيئات العلمانية مثلما حدثت في غيرها المتدينة. وهذا وضع يترك ظلال اللاهوتي فيما هو طبيعي ومدني والعكس. يبدو أن تاريخ الإنسانية يتأرجح حتى في عقر دار العلماني بين الجانبين. حيث يتعذر فصلهما بسهولة دون فصل الإنسان عن تاريخه الذي لم يعد يجثم بالباب مع الأوبئة والخطايا بل دخل إلى البيت– الذات.

ومع وجود الموت والحياة في هذا الداخل، تظهر اشكالية الدين والحياة مرة بعد مرةٍ. لكنها اشكالية تأتي عارية من النقطة الأضعف في البشر(الذات). لأنَّ الموت ليس له تفسير إنساني ولن يكون. وهو ما عجزت كل الحداثات الغربية والشرقية في التغلب عليه، لقد اعتبرته سرديةً في سياق تاريخي من باب النهاية المبشرة ببداية ما. والسردية تقول الموت بلغة الأمل والتطور والتقدم والتطلع إلى حياة أفضل. وفي أحسن الأحوال إذا وجدت الحداثة للموت شِروحاً إجرائية، فلن تكون إلاَّ بأوراق الوفاة التي تقول: فلاناً قد ماتَ بسبب كذا وكذا ليس أكثر. وهذا يطرح أسئلة من نوع: هل إقامة الإنسان في ذاته تثير فكرة المصير رغم الاعتقاد بأن مصيراً جمعياً بالخارج؟! هل الانفراد بالذات انفراد بيولوجي ميتافيزيقي بموجب حفظ الحياة المجهولة؟!

بالطبع ليست الفكرة تأسيس الطبيعة على أكتاف اللاهوت أو ارجاع الفيروسات إلى مؤامرة ميتافيزيقية، لكنها نوع من المفارقات التي تظهر حال الكوارث، إذ يصبح الإنسان هو محور الانتقال من حياة إلى حياة أخرى، وتتداخل التصنيفات التي كانت فارزةً لمجالات المعرفة والاعتقاد. فالمكوث بالبيت أشبه بالخلوة الروحية، لكنها ليست كذلك فقط، إنما هي "إجراء وقاية"، انفراد بالذات تحت مراقبة صحيةٍ. لياقة التعامل مع الطارئ والخطير إلى درجة الأزمة. فهي عمل استثنائي بملء الكلمة، لا تجري في فراغٍ، إنها تقْطع وتيرة الحياة الاعتيادية تحت جلد اليومي والمعيش والمؤقت.

والاجابات التي ربما تُطرح على الأسئلة السابقة قد تكون عملية ويومية بالمثل وإنْ كانت تحرك التراث الديني والبيولوجي الطبي. وبخاصة أن مفاهيم: الحماية، التحصين، المنع، الحظر، الانعزال، مفاهيم تشتغل بهذا التراث. فالتدين كان لوناً من الحماية، الوقاية ضد الخطايا والأفعال المشينة، أنْ يحفظ الإنسان ذاتَّه( الذي بين جنبيه) مصُوناً ضد ما يتهدد سلامته الخلقية والاعتقادية. وذلك يفرض الوجه الوبائي حظراً على التواصل الجسدي منعاً للعدوى. والجانبان تعاملت معهما المجتمعات المعاصرة بشكل دنيوي لم يحُل دون ظهور اللاهوت وسط الأحداث الكونية.
(نُشر هذا النص بموقع الأوان 16-6-2020)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى