نزار حسين راشد - وطنٌ آخر

ساورني شعورٌ غريبٌ بالحنين،ونحن نحزم حقائبنا،عائدين إلى ستوكهولم،وكنت أداري شعوراً خفيّاً بالخجل،أن أحنّ إلى أرضٍ غير فلسطين،أو أكون سعيدة على نحوٍ ما،وأنا أتهيّأ لمغادرتها،وكأنني أرتكب نوعاً من أنواع الخيانةّ!
ولكنّ هذا الحوار السرّي بيني وبين نفسي،لم يدم طويلاً،فانتمائي لزوجي هو امتدادٌ لانتمائي لوطني،إنه طبع الإخلاص الذي فطرت عليه،والذي نما في أحضان فلسطين وبين أفرع زيتونها وتينها،والذي جذب توماس إلي أصلاً،وحدا به أن يعتنق الإسلام،فللحب والصدق طريق واحد،ينبثق من أغوار القلب،ولا يضير في أي اتجاه ذهب،فليس للحب وجهةٌ خاطئة،فقد يذهب في الاتجاهات الأربع،وربما يتعدّى الأرض،ليطوف في أرجاء الكون،ولذا لم يكن غريباً أن يغمرني شعورٌ بالارتياح ونحن نحط على أرض مطار العاصمة ستوكلهم ،وتذكّرت قدومي الأول برفقة توماس،لهذا العالم الذي لم آلفه بعد،ولكنّني الآن وكأنّما أعود إلى وطني،ومتشوقة للقاء غرترود وميشيلا،فلم ألتق بهما منذ غادرتانا آخر مرة من مصر،لقد مضى زمن طويل،لا بد أنهما الآن على أعتاب شيخوخة يجهدان في إخفاء خطوطها في وجهيهما،وتحرصان على طمس بياض الشعر بالصبغة،لا بأس،هذه سنة الحياة،وسيلحظان بدورهما أنني كبرت أنا أيضاً،وستدهشان لرؤية هذا الفرع اليانع الجديد من العائلة،الكونت محمد وريث اللقب،عجيبٌ كيف تقفز العلاقات الإنسانية فوق كل المحددات،بقانون وبغير قانون أحياناً!
استقبلتنا غرترود وميشيلا بفرحٍ بالغ،وشهقتا عجباً وهما تعاينان محمد وتغمرانه بنظراتهما المُخبّة:
-أنت الكونت الجديد إذن؟
يعانقهما محمد وهو لا يدري كيف يستجيب لهذه العاطفة الجيّاشة التي تبديها عمّتان لم يعرفهما من قبل،وتشجعانه بدعاباتهما:
-تحمل اسم نبي ايضاً !آوه!هذه ميزة لم تتوفر لكونت من قبل!
...
استقرّ بنا الأمر إخيراً،وبدأنا في تدارك كل ما فاتنا،لنملأ فجوات الزمن،غرترود تزوجت بيهودي،وميشيلا بقيت عازبة،ربما كان يجب أن يحدث العكس ولكن للقدر تدابيره ومفاجآته التي تفلت من الحسابات البشرية وتسخر منها في أحيان كثيرة!
ستوكهولم نفسها تغيرت،وبدت مزدحمة بالمهاجرين،وخاصة العرب،فلسطينيون ،سوريون، عراقيون،هاربون من جحيم الأوطان،إلى برد أشجار التندرا!
أحزنتني هذه الصورة كثيراً،انا القادمة من فلسطين للتو،إلى حيث يهاجر اليهودي من كل زوايا العالم التي حبته الأمن،إلى جنّة موعودة،بينما نفرّ نحن من جنّات الأوطان ،التي حوّلها الطغاة إلى جحيم،لنلتمس الأمن في كل زوايا العالم،حتى الثورات فشلت عندنا،الفرنسيون اقتحموا الباستيل بحفنة من المتمردين،وأطاح الروس بالقيصر بثلة من الحرس الأحمر سيئة التدريب والتسليح!
طغاتنا الذين ترعبهم أي خشخشة،شردوا الشعوب وبقوا ثابتين على كراسيهم!أحياناً أفكّر ضاحكة! ربما عليهم واقٍ من الله،ولكنهم لا يستحقون مثل هذه النعمة،لا بدّ أن لله حكمة في إبقائهم هناك إلى حين فلله في خلقه شؤون،ولا تحسبّن الله غافلاً عما يعمل الظالمون،إنما يؤخرهم ليومٍ تشخص فيه الأبصار،فهم مجردون من كل فضيلة وموبوؤن بكل رذيلة،فلماذا يبالي الله في أي وادٍ هلكوا؟!
اقترحت غرترود اجتماعاً عائلياً مصغّراً نتعرّف فيه إلى زوجها وتعرفه إلينا،أما الإجتماع الكبير فسيكون أكثر رسمية،حيث سننصّب الكونت الجديد،وأومأت نحو محمد بابتسامة!
جلسنا في الصالون الكبير،وقدّمت غرترود زوجها،ثم أفاضت له حولي بكل التفاصيل،ولم يبد أنه تفاجأ،كان أشيب نحيل الوجه،يضع نظارة لقصر النظر،ودار حديث ذو شجون،لم يلبث أن عرج على فلسطين،وإسرائيل والعرب،والنزاعات الدائرة هناك،وقال صموئيل بغير تحفظ:
-أظن ان ما يجري هناك عبث في عبث،فاليهود خدعتهم الحركة الصهيونية وأوحت لهم أنهم ممثلي الله على الأرض وأنهم يقاتلون باسم الرب،ليقيموا هيكله ودولته!
وهذه كذبة كبيرة،أنا أعرف مؤسسي الحركة الصهيونية جيداً،معظمهم إن لم يكن كلهم ملحدون،لقد قرأت يائيل ديان،تقول أنهم أقاموا وطناً،حسناً ثم ماذا؟جردتموه من كل صفات الوطن! رفضتم العرض الذي لا يمكن لعاقل رفضه!
استعد الفلسطينيون لمقاسمتكم الأرض،ولكن صلفكم هيّأ لكم أنكم تستطيعون إخراجهم إلى التيه وإفراغ الأرض منهم ليخلوا لكم الهيكل!هل يوجد أكبر من هكذا حماقة؟!وزين لكم الشيطان الأمريكي حلم الدولة اليهودية وعاصمتها أورشليم وهيكلها المزعوم،إسحق رابين كان على وشك كشف الكذبة،فقتلتموه!
صموئيل يتحدث إلى اليهود بضمير المخاطب لا الغائب وكأنهم جالسون امامه،أو أنه يحاجج يائيل ديان وكأنه مشتبكٌ معها في سجال!
يلتفت إلي أخيراً ليقول:لم يعد لليهودي قضية أنا رأيت الشباب اليهود،بعد أن ينهوا الخدمة العسكرية يعودون إلى بلدانهم الأصلية :ألمانيا ولندن وحتى بروكلين في أمريكا،لينشؤوا حياة وعائلة،فهم يدركون أن إقامة حياة في إسرائيل هي مهمة مستحيلة!
أنتم الفلسطينيون الآن في وضع دفاع،ولا أحد يكترث بكم،لا الأوروبيون ولا إخوانكم العرب،الكل يصفق لإسرائيل،وهذا التصفيق بالذات سيقود إسرائيل إلى نهايتها،لأنه سيملأ رأسها غروراً،والغرور غالباً ما يقود الإنسان إلى حتفه،لأنه يحدوه إلى التهور والمبالغة والاستهتار بالآخرين،أليس هذا ما يفعله بالضبط هذا الأحمق نتنياهو؟ذو الرأس الكبيرة الفارغة؟
ينهي صموئيل خطابه ويلتفت إلى غرترود مستنجداً
-هل لي بكأسٍ من فضلك!
ثم يلتفت إلي مبتسماً ليقول:
- لم يسبق لك ان سمعت يهودياً يتحدث هكذا!ربما فاجأتك قليلاً ولكنني لا أحب المغالطة!
ويتابع ضاحكاً:
-هل رأيت المتظاهرين الفلاشا اليهود وهم يهتفون الله اكبر مقلدين الفلسطينيين!لا بد أنك رأيتهم!لن يفوتك شيء كهذا!ألم أقل لك أنها كذبة كبيرة،لقد قدموا الدليل بأنفسهم،هم استقدموا الفلاشا باسم الدين ثم اضطهدوهم ونبذوهم،وترمب في الجانب الآخر من العالم يقوم بخنق السود!ماذا تسمين هذا؟إنها بذاءة فقط !هذا ما يمكن ان نطلق عليها!
يختم صموئيل حديثه ،يمد ساقيه ويسترخي،ويشرع في احتساء كأسه الذي قدمته له غرترود،ويظل على صمته،ونلتقط نحن خيط الحديث ونديره في كل اتجاه يحلو لنا،مستمتعين بذلك الجو العائلي،الذي افتقدناه طويلاً!
نزار حسين راشد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى