وجدي الأهدل - فرانكو يلقى مصرعه

سمعت (الشخصية المهمة) عن كتاب ألّفهُ مواطن إسباني تتناقل ذكره الأفواه، وما لبث أن قرأه. ثم قال في نفسه «ويلٌ للعالم إن لم يكن للدون كيخوتي مكان فيه». ومن تلك الكلمة بدأ كل شيء.

***

لطالما عُرف (خوان كاليخونتي) بأنه شاب رقيق الطبع، الابتسامة لا تفارق ثغره كمولودٍ ما فتئ يرضع، وإذا رأيته للمرة الأولى في حياتك فستظنُّ أنه لا يصلح لشيء بالطبع.

العارفون ببواطن الأمور يتحدثون عن علاقة وفاء نادرة المثيل تربطه بزوجته، فهو لا يُخالف لها أمراً، ويُطيعها في كل صغيرة وكبيرة. النساء يملن إلى الرأي القائل بأنه يعشقها إلى درجة العبادة، والرجال يهزؤون منه بأنه يخاف منها أكثر من ربه!

في ذلك الأحد الذي سقط سهواً من ذاكرة الشياطين، أوصل زوجته التي تكبره بعشر سنوات إلى منزل خالها المُتبجّح بسعادته وغناه، ثم كان حتماً عليه أن يتسكع من مقهى إلى مقهى ريثما يأزف الوقت.

لكن الوساوس جعلته لا يعرف كيف يُفسّر جملة زوجته المبهمة «تعال في الليل». فهل كانت تقصد أوّله أم آخره؟ فكر أنه إذا ذهب مبكراً فإن عليه أن يعتذر بأدب جمّ عن «العشاء» ويشبك ذراعه بذراع عقيلته وينصرفا مرفوعي الرأس، مُخلّفاً صورة حسنة عن كبرياء آل كاليخونتي. لكن ماذا لو غُلب على أمره واضطر أن يمكث لتناول العشاء؟ حينئذٍ سيبدو بمظهر الطفيلي الذي يتحجّج بزوجته لإشباع نهمه إلى أطباق الطعام الفاخرة! ثم ثبت رأيه على أن يذهب لأخذ زوجته بعد انقضاء موعد الوجبة ومغادرة آخر فرد منهم المائدة.

الخنفساء الأفريقية التي دحرجت الشمس وغيبتها عن ناظريه جعلته يقلق ويطرح على نفسه هذا السؤال الفلسفي العويص: «ولكن متى سوف تنزل الآلهة من عليائها لتناول طعام العشاء؟». لم يكن يعرف، فوقع في حيرة من أمره مجددا. كان يخشى من توبيخ حليلته أو ما هو أدهى، فعزم أن يتصل بها على رقم هاتف منزل الخال.

دخل إلى محل اتصالات وأغلق باب الكابينة على نفسه، وضرب الرقم غيباً من الذاكرة. أسماك الزينة الملونة في الحوض الزجاجي شخصتْ إليه بأبصارها غير مُصدقة، وكأنها أحستْ بالحدث الذي لم يكن له سابقة:

«ألو». هكذا أجابه صوت أجش مُجلجل كأنما يُدوّي في قاعة فارغة.

ابتهج (خوان كاليخونتي) وحسبه صوت (سانشو) خال زوجته الواسع الثراء والنفوذ:

ألو خالي.. كيف حالك؟

خالك! من أنت؟

أ..أ.. أنا خوان.

خوان من؟

خوان كاليخونتي سيدي.

أعرفك.. لقد كلموني عنك وقرأت.. (صمت) ألست أنت الذي تخاف من زوجتك أكثر ممّا تخاف مني؟!

شعر (خوان كاليخونتي) بغصة في حلقه لأن كرامته قد حُطّ من قدرها:

أ..أ.. يعني أنت لست خالي.. كذا؟

ضحك الصوت القادم من الأقاصي بوقار وأغلق الخط.

***

ولأن (خوان كاليخونتي) لا يُخفي شيئاً عن «روسينانتي» فقد أخبرها بما جرى عليه في كابينة الهاتف. ولأن (روسينانتي) لا تُخفي شيئاً عن المجتمع، فقد روت لكل من تلتقيه حادثة اتصال بعلها بتلك الشخصية المهمة.

وما هي إلا أيام معدودات حتى كان ذلك الرقم الذي حصل عليه (خوان كاليخونتي) بالمصادفة منتشراً بين معظم سكان مدينة مدريد. لقد جرّب الملايين من الناس الاتصال بذاك الرقم، لمرات لا تُحصى، يحدوهم الأمل في أن يتجاذبوا أطراف الحديث مع تلك الشخصية المهمة، لكن لم ينجح ولا واحد منهم في نيل الشرف الرفيع الذي يتطلع إليه من أعماق قلبه، ألا وهو أن ترفع الشخصية المهمة سماعة الهاتف لترد على إحدى اتصالاته اللجوجة.

ومن سخرية الأقدار أن (خوان كاليخونتي) قد أضحى هو أيضاً شخصية مهمة! يحرص الكثيرون والكثيرات على الاتصال به لسماع صوته وأخذ الرقم منه شخصياً.

ساور الشك في صحة الرقم عدداً من الملاحدة، الذين أعلنوا أن الرقم الذي وزعه (خوان كاليخونتي) على العامة إنما أتى به من كهف خياله المُجنّح. الصحافيون الموالون للسلطة اتهموه بالكذب وتضليل الشعب، وأنه عميل لتنظيم سري يهدف إلى إثارة البلبلة وزعزعة استقرار إسبانيا. الأكثر خبثاً قالوا إن (خوان كاليخونتي) دجال محتال، اتفق مع شركة الاتصالات الوطنية على فبركة تلك المحادثة الوهمية، وزعموا أن له حصة من الأرباح الخيالية التي تدفّقت على خزائن الشركة.. وما زاد من تأجيج نظرية المؤامرة، أن شركة الاتصالات الوطنية قد لزمت الصمت، ولم تنشر أيّ بيان يوضح الهوية الحقيقية لصاحب ذلك الرقم المثير للجدل.

الغريب في الأمر أن السواد الأعظم من المواطنين الإسبان قد صدّقوا رواية (خوان كاليخونتي) وأيقنوا بإيمان راسخ أن الرقم هو من دون شك يخص (الشخصية المهمة).

دائرة صغيرة من الأكاديميين سفهتْ الحكاية برمّتها، ووزّعتْ منشوراً مضمونه أن (الشخصية المهمة) غير موجودة أصلاً، وأن الذي أوجدها في ضمائر البشر ليس سوى شعورهم الحاد بالعار من تفاهتهم وضآلتهم، ورغبتهم في إضفاء الأهمية على وجودهم الفاني بربط أنفسهم بشيء أكبر منهم.

***

الجنرال العتيد (فرانكو) جنّ جنونه هو الآخر، وانتابته حُمّى (الشخصية المهمة) فجرّب الاتصال بالرقم مئات المرات ولكنه لم يُوفق. كان «الكاوديو» مُحرجاً من فشله الشخصي، رغم أن هذه الفضيحة لم تعلم بها سوى حاشيته المُقرّبة. لقد ضايقه أن يفشل، وهو الذي لم تتعثّر قدمه بهذا الشيء المسمّى «الفشل» منذ عدة عقود. ها هو قد ذاق طعم الفشل الذي كان قد نسيه! الشعور بالحرج والضيق تحوّل دون سابق إنذار إلى نقمة وامتلأت نفسه بالحقد الممزوج بالحسد، فأوعز باعتقال طبيب العيون (خوان كاليخونتي) في أحد مقرات المخابرات.

تحت جنح الظلام تحرك موكب الجنرال (فرانكو) إلى ضاحية نائية شمال مدريد. هناك طلب أن يُحضروا إليه (خوان كاليخونتي) شريطة أن يُلبسوه ملابس تستر عورته! حين رآه ماثلاً أمامه، تأمله بازدراء ولم يفهم لماذا تخدم الأقدار شخصاً أبله مثله. أشار إلى جهاز الهاتف المُستلقي على المكتب وأمره بلهجة عسكرية صلفة أن يجلس ويتصل بالشخصية المهمة.

انصاع (خوان كاليخونتي) للأمر وجلس إلى المكتب مُحدّب الظهر، ضرب الرقم وانتظر، ولكن هاتف الطرف الآخر كان يرنّ ولا أحد يرفع السماعة. كرّر الاتصال ثلاث مرات، ثم أعلن ببراءة الأطفال ألاّ فائدة من الاستمرار في ضرب الرقم لأن صاحبه لن يستجيب.

راح الجنرال (فرانكو) يلفّ ويدور حول الشاب النحيل ناتئ العظام، الذي اصطاده المخبرون في الضحى، مُركزاً عليه أنظاره الجائعة لمجد لا حدود له. انحنى على (خوان كاليخونتي) من الخلف وزعق في أذنه بِغِلٍّ:

ولكن لماذا لا يرد على اتصالنا؟ لماذا لا يتنازل ويرفع السماعة؟ ألا يستوعب من نحن؟ هاه؟

تهيب (خوان كاليخونتي) مجادلته، وتحت إلحاح نظرة الجنرال الجاحظة التي تبرق بالوعيد تكلم محاولاً التغلب على ثقل لسانه الذي يكاد يشله الرعب:

لأنه يعرف أن الذي يتصل به هو حضرتكم وليس أنا.

حكّ الجنرال (فرانكو) وجنته وكأنه يقدح ناراً تتلظى منذ مدة في روحه:

أنا أكثر عظمة منك أيها الخامل الرعديد.. أنا بطل إسبانيا الأوحد على مرّ العصور.. أنا رئيس الدولة وزعيم حزب الفلانخي العظيم فلماذا يتكبّر ولا يردّ عليّ؟

قلب (خوان كاليخونتي) شفته السفلى، وبعد تفكير أعطى جوابه القصير الذي فجّر الموقف:

أظنه يحب الأسماك الصغيرة وأما أنت فلا أظنه يحبك!

شعر «الكاوديو» بصعقة ألم فظيعة في خصيّته الوحيدة، وتذكّر كم هو عقيم عقماً لا براء منه، فرفع الهاتف الثقيل الوزن وضرب به رأس (خوان كاليخونتي) الذي تهاوى على البلاط غارقاً في دمائه النازفة من ناصيته. سحبه أحد الجلادين إلى وسط الحجرة، فانقض عليه الجنرال وبرك على صدره، وكال له عشرات الصفعات بخفة أثارت إعجاب من حوله، وحين انتهى من التنفيس عن غضبه مدركاً أن ضحيته قد فقدت وعيها ولم تعد تشعر بشيء، نهض مترنحاً وقد احمرّت كفاه وهو يُكابد لكيلا يتقيأ رئتيه. أمر أن تُرتّب لـ(خوان كاليخونتي) محاكمة عسكرية بتهمة الخيانة العظمى، وأن يصدر بحقه حكم بالإعدام حرقاً، ثم غادر ووجهه يرشح عرقاً غزيراً برفقة حرّاسه المغاربة.

***

بناءً على مشورة مُنجِّم القصر، شرع الجنرال (فرانكو) في بناء برج للاتصالات، وقرر أن يؤجل إعدام (خوان كاليخونتي) ليتزامن مع حفل الافتتاح.

بعد ثلاث سنين، في الليلة الموقوتة منذ فجر التاريخ، ارتقى الجنرال (فرانكو) وكبار ضباطه إلى قمة البرج الشبيهة بحوض أسماك زجاجي. استقبلتهم حسناوات يظن المرء أنهن قد تنزّلن من الجنة خصيصاً لإضفاء جوّ من المرح على الحفلة، وقمن بتقديم المشروبات الروحية، وأطباق النَّقل. التصق هذا اللفيف من الذكور المتباهين الفخورين بالحوائط الزجاجية السميكة كالذباب، وانبهروا بمشهد مدينة مدريد الممتدة مدّ البصر، التي ورغم ذلك الامتداد تشبه طائراً في قفص.

بعد دقائق لا أكثر ملّوا من المنظر، وانشغلوا بالشرب والأكل ومغازلة النادلات ممشوقات القوام. لم ينتبهوا إلى الغيوم السوداء التي عبرت السماء حثيثاً واستقرّت فوق البرج، وأرسلتْ إشارات تنبئ عن عاصفة تتجشّأ كراهية. ظهرت تقطيبة مريعة على وجه «الكاوديو» حين لاح البرق يكاد يُعمي الأبصار من قوة وميضه والرعد له زئير الأسود.

مع تساقط أولى حبات البرد أخذت البنات بالصراخ والنحيب، فأذن لهنّ الجنرال بمبارحة المكان على مضض. أخذ فخامته المنظار وراح يبحث عن الموقع المُعد لإحراق (خوان كاليخونتي) فلم يتمكن من رؤيته، لقد حجبته زخات المطر الغزير، وطَمستْ الثكنة العسكرية أطنان من الحبر الأسود.

ورغم أن الوقت لا يبدو مناسباً لإجراء أيّ اتصال هاتفي بسبب عواء الذئاب في الأعالي، فإن الجنرال بدا أكثر تصميماً على تنفيذ خطته، فاتجه صوب الطاولة المصنوعة من القصب، حيث وُضع الهاتف المصبوب من الذهب، وطلب الرقم وهو يقف بشموخ واثقاً من نفسه.

نهر «مانثاناريس» غيّر فجأة مجراه، دون أن يشرح لأحد أسبابه، وراح يضرب بقسوة حتى نفذ الماء إلى أعماق التربة أسفل البرج. انقطع التيار الكهربائي وتعطلت المصاعد وحل الظلام الدامس. ارتجف الضباط ودبّ الهلع في أفئدتهم حين أحسوا بميلان البرج ميلاناً خفيفاً وسمعوا أصواتاً مفزعة تشبه ضربات فأس الحطاب. تراجعوا إلى الوسط وكل واحد منهم يصدم الآخر كجيش مهزوم يلوذ بالفرار. تراصوا حول القائد الذي ظل الوحيد من بينهم رابط الجأش.

على حين غرة رفع الطرف الآخر السماعة، فبهت الجنرال (فرانكو) ربما لأن نبوءة المنجم قد تحققت! ولكنه لم يسمع أيّ صوت يصدر من هناك. فقد «الكاوديو» هدوءه الذي حافظ عليه بصعوبة منذ بدء العاصفة الرعدية وزعق بكل قواه: «ألو..ألو..ألو..». توقدت عيناه كجمرتين تشعان لهب الضغينة وخرجت من بين شفتيه أبذأ شتيمة.

يشاع أن الجنرال (فرانكو) قد تبادل بضع كلمات مع (الشخصية المهمة) ثم راح البرج يهوي مُصدراً صريراً كشجرة شاهقة قطعت من جذعها.

لم تمكن معرفة ولا حتى تخمين الكلمات القليلة التي قيلت في الحوار القصير الذي دار بينهما، لأن الجنرال (فرانكو) وأركان نظامه لم ينج منهم أحد، وعُثر عند شروق الشمس على جثثهم متناثرة على ضفاف النهر وهي مُزرقة ومنتفخة. وأما برج الاتصالات فقد ابتلعه التنين «مانثاناريس» ولم يُعثر عليه بعدها أبدا.

في ظهيرة اليوم نفسه، أُطلق سراح (خوان كاليخونتي) فتبادر إلى ذهنه -لجهله بما جرى للجنرال فرانكو وطغمته- أن الشخصية المهمة قد أشفقت عليه أخيراً وأجرت اتصالاً هاتفياً لطلب العفو عنه.



* وجدي الأهدل
كاتب من اليمن
- عن الجديد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى