د. نجاح إبراهيم - الرقة

وأنا بصدد كتابة روايتي الجديدة، وتأملي لحيز المكان فيها، كانت /الرقة/ في كل مؤلفاتي..
حفرت عميقا كما سعد الوراق الشاعر الذي عشق دير زكا وما حوله بسبب غلام.. أما أنا فعشقتها لأنها المكان الوحيد الذي التصقت به عقودا وشهد على مراحل عديدة من مسيرتي.
ما بين اسمها القديم "قالينيقوس" ، واسمها الجديد "الرّقة" ،يمتدّ نسغُ الثقافة في الزّمكان.
أليس الزّمان بأهله ، والمكان بمقوّماته من أحجار ومبان وأنهار وجبال و ....الخ ؟ فأيّ منهما يعود الإبداع إليه ؟
يقال : " إنّ الزّمان يُضفي عبقريته على المكان ، فتتحوّل هذه الجمادات إلى شخوص ناطقة ، تخاطبُ في أهل المكان عبقريتهم ، فتُخرج أفضل ما فيها لتتخلق العبقرية الحقيقية للزّمكان .
ثمّة أمكنة حين يمرّ بها المرءُ تتركُ أثراً في نفسه ، وتحفرُ عميقاً في وجدانه ، فتأخذ حيزاً من ذاكرته وقلبه ، أمّا إذا كان مُبدعاً فإنّها تلهمه وتشعل بنات أفكاره فيخلدها بمنجزٍ أدبيّ ، فكريّ .
ولا يغيبُ عنّا كيف اتّخذ الرّوائي " ايفو أندريتش "الجسر كمكان ، وجعله بطلاً في روايته " جسر على نهر درينا "، وكيف اتخذت مدينة بيروت بطلاً لأكثر من رواية ،وكذلك مدينة دمشق سواء في الرّواية أم في القصّة أم في الشعر ؟
الرّقة ، مدينة سورية تعدّ من أهمّ مدن الجزيرة الفراتية ، وإحدى المدن الهامّة في وادي الفرات ، وتعني –حسب ياقوت الحموي في معجم البلدان – كلّ أرض إلى جانب وادٍ ينبسط ُعليها الماء ، وجمعها رقاق ، والرّقاق الأرض اللينة ، قال الأصمعي فيها :
كأنّها بين الرّقاق والخمر
إذ تبارين شآبيب مطرِ
أما موقعها الهام،هو من جعل منها محطة تجارية بين الجزيرة الفراتية والشام والعراق وأرمينية وآسيا الصّغرى والبحر المتوسط ، وامتداد أراضيها الخصبة ، وغزارة المياه التي فيها ، إذ يمرّ نهر الفرات فيها. لهذا اعتبرت مدينة تاريخية.
والمدن التاريخية هي التي تتكوّن على ضفاف الأنهار ، والفرات يُعدّ من الأنهار الكبيرة والمقدّسة، إذ ذكر في القرآن، والأساطير ،على رُقم طينية ، وله شهرة واسعة في العصور القديمة ، إذ يُعدّ طريقاً مائياً هامّاً سلكته السّفن باتجاه أصقاع شتى ، لهذا بُنيت القلاع منذ القديم على ضفتيه لحماية طرقه ومدنه وقراه ، فهو ما يزال يفاخر بتلك الممالك القديمة والقلاع، وآثار وبقايا عناصر الحياة التي كانت ، من حمّامات وأبراج جنائزية ، وصوامع وأديرة وحصون وكهوف ومدافن وقصور ورجوم وزقورات ومنارات ..فقد تركت الأزمان التي تعاقبت على هذه المدينة الكثير من الآثار سواء آثار العصر الحجري، أو عصر البرونز، أو آثار الإغريق والرّومان وكذلك آثار العرب عبر دولهم والعصور التي مرّوا بها .
كلّ هذا شكّل لوحة رائعة رسمها الإله ووهبها للمكان ، فأثرت قديماً وحديثاً في نفوس المبدعين سواء كانوا شعراء أم كتاباً أم مفكرين .
الرّقة قديماً :
كانت عبارة عن إمارة آرامية تدعى بيت آدين، وعاصمتها تل برسيب، ثم سُميت في العهد الإغريقي باسم نيكفوريوم، ويقال إنّ سلوقس الأوّل بناها ثمّ جدّد بناءها قالينيقوس وهو أحد قواد الإسكندر المقدوني ،وأطلق عليها اسم (قالينيقوس) باسمه، وقد سُميت بعدئذٍ بأسماء عديدة، إلاّ أنّ اسمها الأخير والقديم غلب عليها جميعاً.
فتحها العرب (حسب ياقوت الحموي) سنة17 للهجرة، وقد قال سهيل بن عدي القائد الذي كان في جيش عياض بن غنم ، الذي أرسله عمر بن الخطاب لفتحها:
وصادفنا الفراتَ غداة سرنا
إلى أهلِ الجزيرة بالعوالي
أخذنا الرّقة البيضاء لمّا
رأينا الشهر لوّح بالهلال
وقد أمر الخليفة المنصور ابنه المهدي ليبني الرّافقة، على طراز بناء بغداد، قريباً من الرّقة البيزنطية ،فبُنيت أسوارها على هيئة أسوار بغداد، كما جاءت بيوتها وأبوابها تشبه بيوت بغداد وأبوابها.
وجعل للمدينة ثلاثة أبواب، سمي الأول باب بغداد، والثاني باب الجنان، وهما من الآجر، وباب ثالث سمي بباب أورفة، إذ يصل آسيا الصغرى ،وفي عهد هارون الرشيد بنى فيها قصراً أسماه (قصر السلام)، وقد أصبح مهوى قلوب الشعراء، ومحط أنظار العلماء والمفكرين. ونالت الرّقة منه اهتماماً وحظوة، وأورقت علماً وأدباً وعمراناً وثراءً، والرّقة منذ فتح العرب لها، كانت عبارة عن عدّة رقات متصلة، هي الرّقة البيضاء ،والرّقة السوداء "السمراء"، وتقع على مقربة من الأولى تجاه الشرق.
وعلى الضفة الغربية توجد رقة واسط، بناها الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك ،وبنى فيها قصرين ،كان ينزلُ فيهما أثناء ذهابه إلى مدينة الرّصافة الأثرية فسميت باسم رصافة هشام .
وقد ذكر الرّقتين الشاعر الأموي عبيد الله بن قيس الرقيات، حين نزل الرقة سنة 70هـ إذ قال:
ذكرتك إنْ فاض الفراتُ بأرضنا
وجاش بأعلى الرّقتين بحارها
كما زارها الخليفة علي بن أبي طالب ،وقد طلب من أهلها أن يمدّوا له جسراً من السّفن على الفرات ليعبر إلى طريق الشام.
ومنذ القديم عُرفت الرّقة بأماكنها الأثرية، كالرّصافة التي أقام فيها القديس "سرجيس" الذي استشهد من أجل نصرانيته ،وأقيم دير فيها سمي بدير الرّصافة ، أشار إليه الشاعر أبو نواس بشعره حين حلّ بالمكان، وكذلك اشتهرت بقلعة جعبر ، التي تعود إلى ما قبل الإسلام وفيها منارة عالية، مبنية من الآجر، وكان الفرات يمرّ من تحتها ،غير أنّه ابتعد عنها والتحق بمجراه القديم، وقد سُميت القلعة بهذا الإسم نسبة إلى الأمير جعبر الملقب بـ سابق الدين القشيري، وقد كانت حاضرة قديمة، وما تزال تسهم في إبداع المارّين بها، والمندهشين بموقعها وسط المياه.
كما اشتهرت الرّقة بأديرتها ،إذ كانت مركز أسقفية ،وبقربها ديرٌ عظيم هو دير "زكّى" يقع شرقي باب بغداد على نحو ثلاث كيلو مترات من الرّقة على تل يُعرف بتل البيعة وهذا الدّير كان موحياً ومُلهماً لعدد كبير من الشعراء، منهم الشاعر عبد الله بن طاهر، الذي مرّ به مع أخيه ،ذاهبين إلى مصر، فمات أخوه هناك وعاد الشاعر ينزلُ في الدّير وتذكر، فأنشد:
أيا سروتي بستان زكى سلمتما
ومن لكما أن تسلما بضمان
ويا سروتي بستان زكى سلمتما
وغال ابن أمي نائب الحدثان
ويقال: إنّ الملوك والسلاطين إذا مرّوا بدير زكى نزلوا فيه ،وبقوا أياماً لما يتمتع به من حسن العمارة وإيحاء المكان وطيبه، ووفرة الماء والمأكل وأسباب الرّاحة والهناءة ، وقد وصفه الشابشتي، في كتابه "الديّارات" قائلاً:
( .....ليس يخلو من المتطربين، لطيبه، سيما أيام الرّبيع، فإنّ له في ذلك الوقت منظراً عجيباً.)
وقد قال فيه الشاعر سعد الوراق قصيدة حزينة يدمج المكان بعشقه لغلام ترهّب في الدّير ولم يعد يراه، فذهب إلى هناك والتصق بباب الدّير وبكى حتى فطر قلبه وقتل من قبل الرّهبان:
بحقك يا حمامة دير زكى
وبالإنجيل عندك والصّليبِ
قفي واحملي مني سلاماً
إلى قمرٍ على غصنٍ رطيبِ
حماه جماعة الرّهبان عني
فقلبي ما يقرّ من الوجيبِ
وقولي سعدك المسكين يشكو
لهيب جوى أحرّ من اللهيبِ
كما كان الدّير مصدر إلهامٍ، ومُحركاً لمشاعر الصنوبري، وهو أحد شعراء سيف الدولة الحمداني ملك حلب، فكتب عدّة قصائد قائلاً في إحداها:
حبّذا المرج ،حبّذا العمر لا بل
حبّذا الدير، حبّذا السّروتان
قد تجلى الربيعُ من حلل الزهر
وصاغ الحمام طيب الأغاني
وقال أيضاً :
أراق سجاله بالرّقتين
جنوبي صخوب الجانبين
تضاحكها الفرات بكلّ فجّ
فتضحك عن نضار أو لجين
كأنّ عناق نهري دير زكى
إذا اعتنقا عناق متيمين
كما أغرم بالمكان الشاعر أبو المعوج ، فقال متأثراً بجماله :
لو رآه النعمان شقّ عليه
ما يرى من شقائق النعمانِ
ومن الشعراء الذين ولدوا في الرّقة ودفنوا فيها ، شاعرها أبو زبيد الطائي، الذي كان نديماً للوليد بن عقبة والي الرّقة ،وقد قال في مدينته قصائد كثيرة .
ومن الشعراء الذين استلهموا من المكان الرقيّ وأثر بهم ، الشاعر الأمويّ جرير يقول :
شققتُ من الفرات مباركات
جواري قد بلغن كما تريد
بها زيتون في غلل ومالت
عناقيد الكروم فهن سود
كما أعجب بها الشاعر الأمويّ الأخطل، فدار في أسواقها ، وأذهله كثرة العطارين في السوق فقال :
إذا الرّقة البيضاء لاحت بروجها
فدى كلّ عطار بها أم مريم
وكذلك قال عنها الشاعر ربيعة الرّقي ، إذ يعدّ من الشعراء المجيدين في ذلك العصر :
حبّذا الرّقة داراً وبلد
بلد ساكنه ممن يود
ما رأينا بلدة تعدلها لا
ولا أحد أخبرنا عنها أحد
إنها برية بحرية
سورها بحر وسور في الجدد
تسمع الصلصل في أشجارها
هدهد البر ومكاء غرد
لم تضمّن بلدة ما ضمنت
من جمال في قريش وأسد
وقد ألهمت شاعراً كان ينزل فيها، ولشدّة تعلقه بها تملك ضياعاً كثيرة، هو اسحق بن سماعة المعيطي. كما زارها الشاعر أبو تمام أثناء خلافة المعتصم.
وقد نشأ في الرّقة عدد من الكتاب والمفكرين والعلماء ، حيث زوّدهم المكان بما يفيد ، ومنهم : عبد الحميد الكاتب، الذي يُضرب به المثل بالبلاغة ، وقد أطلق عليه اسم عبد الحميد الأكبر ، وقد تميّزت كتاباته بطريقة مغايرة وجديدة في الكتابة ، وتعدّ رسائله من الأدب الفراتي. ومن علمائها، عالم الفلك البتاني إذ بدأ تجاربه في مرصد الرّقة واستمرّ في عمله 42 سنة ، وقد كان أشهر الفلكيين برصد الكواكب .
ومن فلاسفتها فيلسوف يهودي يدعى وهب بن يعيش الرّقي ، وقد ذكره أبو حيان التوحيدي في كتابه ( الإمتاع والمؤانسة ) ومن كبار الصّوفية فيها إبراهيم القصار ، وعبد الله بن علي الرقيّ وهو إمام في اللغة العربية ، وعيسى الرّقي المعروف بالتفليسي وهو طبيب مشهور .
الرّقة حديثاً :
أما الرّقة الآن؟
على صغر مساحتها ، بيد أنها زاخرة بالمبدعين ، ولكن بجنس أدبيّ آخر ، هو فنّ القصة والرّواية ، حتى قيل عنها إنها عاصمة القصة القصيرة ، فهي منجم ثرّ تختزنُ ثقافة عفوية المكان، ثقافة مليئة بكنوز الماضي من حضارات قديمة.
فثمّة مكان ملهم لهؤلاء ، وثمّة نفوس مترفة بالأحاسيس الجمالية ، والمبدعون فيها يحملون وثائق ممهورة بأزمان غابرة ، يحملون مراسلات بينهم وبين العصور السالفة ، كان المكان قيماً على ذلك فترات طويلة ليبعث في كتاباتهم نسغاً جديداً متميزاً ، لهذا يكاد لا يخلو نصّ قصصيّ من تأثير البيئة الفراتية ، خاصة ذلك السّراد الأعظم نهر الفرات، وما يشكله من قيمة في حياة الناس ، لهذا فالشعب الرّقي سرّاد بالضرورة ، يعرفُ كيف يسرد الحكايات ويروي الخرافات .
لعلنا نبدأ بشيخ الأدباء ورائدهم، الدكتور عبد السلام العجيلي، الذي استغرق في المكان ( بلدته )ومنها وصل إلى العربية، فالعالمية، لقد كان كغيره من الأدباء الذين تشبثوا ببيئتهم وأعطوها كما أعطتهم .وقد كان نهر الفرات حاضراً في معظم أعماله التي تزيد على الأربعين، فقصة النهر سلطان ، قصّة طفل غرق فيه أمام عينيّ أبيه ، وحين قدم خبراء سوريون وسوفييت ظنّ أنهم سيقضون على النهر، وذهل حين قالوا له سنقوم بترويضه، فرضي وقرت عينه. وكذلك كان حضور الفرات والبيئة الفراتية في رواية "المغمورون "وبقية أعماله ، وفي ديوانه الوحيد الليالي والنجوم إذ قال:
والنهر من تحت النجوم الزهر ملقى كالشعاع
غاف على كتف الرمال البيض مبسوط الذراع
في لقاء له قال : " لقد كتبت الكثير عن طبيعة الحياة الفراتية ، حتى في مؤلفاتي التي تدور أحداثها بعيداً عن هنا ، خارج القطر ، مثل أوربا مثلاً ، تحسُّ بها ببيئة الفرات ، فتجد انعكاس الحياة الفراتية بعاداتها وتقاليدها .."
وكذلك نلمسُ تأثير المكان في قصائد الشاعر فيصل البليبل ، يمتدح زميلاً معلماً قد تقاعد ، ولم يستطع إلاّ أن يطعّم القصيدة بمفردات ومعان من البيئة :
يا فرقد في الرّقتين به اهتدى
زحف له فوق الخلود قواعد
تلك الرّياض سقيتها ورعيتها
يا زارع الرّيحان إنك حاصد
وفي قصيدة أخرى :
عادت الرّقة في شرخ الصّبا
أيّها التاريخ قم كيما تراها
أما الشاعر مصطفى الحسّون فقد قال :
وقفت على طلول الرّقتين
فهاج الحزنُ في قلبي وعيني
وشط بي الخيال إلى عهود
سرت نغماتها في الخافقين
لا نستطيع في هذه الدراسة، أن نرصد ما كان من تأثير المكان على بقية الشعراء ، بيد أنني سأذكر بعض كتّاب القصة والرّواية ، الذين خلدوا ذلك في نتاجاتهم الأدبية ومنهم : الرّوائي إبراهيم الخليل ، وذلك في روايتيه "الهدس "وسودوم " ومعظم قصصه ، والقاص خليل جاسم الحميدي في كلّ مجموعاته القصصيّة وكذلك القاص سامي حمزة ، و نجاح إبراهيم في روايتيها عطش الإسفيدار ، و إيمار. وكما حظي المكان الرّقي في معظم مجموعاتها القصصية ، وأيضاً القاص صبحي الدسوقي ، والكاتب المسرحي الكبير حمدي موصللي ، والرّوائي الصحفي محمد الحميدي في روايته شمس الدين ، والقاص عمر الحمود ، وكذلك مؤلفات الباحثين إذ لم تخلُ من هذا التأثير، ومنهم الباحث الكبير الدكتور علي الشعيبي، والباحث منير الحافظ ، والباحث عبد الحميد الحمد ،والباحث محمد الجدوع ، والباحث عيد الدرويش ، والباحث المتميز عبد السلام الحياني وكثيرين ، ناهيك عن حضور المكان ومدّه بالثقافة لعدد غير قليل من الفنانين التشكيليين ، وكذلك الفنانين الشعبيين..
مقالتي عن الرقة وتأثيرها على المبدعين. نشرت في مجلة دبي الثقافية، وتضمنها كتابي (كن صوتي، اكون صداك)




https://www.facebook.com/photo.php?...fYriRha7PXkhG8ioVrS8YqUH_cU6fqoJw-j_b2kzQFVCQ

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى