جمال نيازي - فرح عابر

للانتحار " بروتوكول" لابد من استيفائه جيداً.. هذا حدث جلل لا يتكرر كل يوم في حياة من اتخذ قراره به ثم أقدم على تنفيذه لينهي حياة حافلة في نظر البعض أو لا قيمة لها في نظر آخرين.. تقول كتابات الأقدمين " تعددت الأسباب و الموت واحد" .. ماذا يضير المرء لو أن حياته قد انتهت اليوم أو تأجلت النهاية للغد أو للشهر القادم أوحتى للسنة القادمة.. فالنهاية آتية لا محالة.. و تقول الأمثال الشعبية " وقوع البلا ولا انتظاره".. بيد أن الحمقى والجهلاء قد صوروا لنا الموت على أنه بلاء.. و لم نفكر لحظة واحدة كيف أنهم تصوروه كذلك و لا يعرف أحد منا ماذا ينتظره بعد الموت.. أكاد أزعم أن الحياة نفسها هي البلاء العظيم و أن ما بعد الموت راحة أبدية من كل الشرور و الآلام.. قديماً قال الفلاسفة أن كل إنسان يصل إلى الحقيقة يأتيه ملك الموت من فوره ليقبض روحه قبل أن يبلغ أحداً بما رآه و عرفه.. فغاية الإنسان هي الوصول إلى الحقيقة ووسيلته هي السعي حتى يصل إليها ثم يكون الانتقال إلى عالم الأبدية الذي لا يعلم عنه أحد إلا محض الخيالات فكيف يكون هذا بلاءً إلا في نظر الحمقى و الجهلاء..
أمضيت حياة حافلة بمعايشة اللحظة الأخيرة في حياة كثير من الناس.. لحظة الوصول إلى الحقيقة.. تلك اللحظة التي كنت أنتظر فيها مواجهة ملك الموت و هو يحاول انتزاع الروح من الجسد بينما أحاول تعطيل عمله قدر استطاعتي كطبيب متمرس على إبقاء من لم يصلوا إلى قلب الحقيقة بعد على قيد الحياة.. هزمني في مواضع كثيرة و أجلت مهمته في مواضع أخرى حتى أدركت أنه لم يكن لي دور كبير في ذلك بل كان الأمر كله أن الشخص الذي تصورت إنقاذه لم يكن قد وصل إلى الحقيقة الكاملة بعد..
أما و قد وصلت أنا الآن إليها.. أمضيت رحلتي وحيداً متفرداً بذاتي.. عزفت عن الزواج أو تناسيته.. و تساقط الناس من حولي كأوراق الشجر في خريف عجوز.. و أدركت ما بعد هذه الحياة و كُشف عن بصري غطاؤه.. فأنا الآن الذي أستدعي ملك الموت حتى يأتي فينجز مهمته السهلة دون أي مقاومة مني هذه المرة..
لكن لا بد للاحتفال أن يليق بمن وقف على أعتاب النهاية ناظراً باستخفاف و سخرية لاذعة للعابرين في الطرقات آملين أن يأتوا في غدهم بما لم ينجحوا في إتيانه طوال عمرهم.. لكنه الأمل الزائف..
أتيت إلى المقهى الذي اعتدت الجلوس فيه وحيداً طوال عشرين عاماً مضت.. أعرف زبائنه جيداً و يعرفني صاحبهو "صبيانه" واحداً إثر آخر يطرده صاحب المقهى أو يترقى أو يتركه بإرادته.. يعرفون نوع قهوتي و عدد ذرات السكر فيها.. و يعرفون لون الشاي المفضل لي و عدد وريقات النعناع التي تعطي النكهة التي أحبها.. أحضرت معي عشرين قرصاً من دواء شديد المفعول و سريعه أيضاً.. أبتلعهم مع رشفتين من كوب الشاي دون أن يلحظ أحد الأمر ثم أجلس مسترخياً.. لن يأخذ الأمر كله أكثر من دقائق خمس أسقط بعدها من فوق الكرسي الخشبي جاحظ العينين متوقف القلب.. سوف يتجمع الناس حول جسدي و تبدأ الحوقلات و الترحمات.. ثم يستدعون سيارة الإسعاف و ينتهي كل شئ.. هكذا يصبح موتي مدهشاً و حافلاً كمشهد النهاية في فيلم سينمائي.. نظرت إلىالجهة المقابلة من الشارع و خُيل إليّ أن ملك الموت واقف ينظر إلي بابتسامة بدت لي ساخرة جداً حين توقفت سيارة بها رجل و زوجته و فُتح بابها الخلفي فنزلت منه ابنتهما ذات التسعة أعوام و مدت يدها إلى أبيها آخذة منه ورقة من النقود قائلاً لها "بصي يمين و شمال قبل ما تعدي الشارع و عدي بالراحة من غير جري و هاتي الشوكولاته اللي عايزاها و هاتي الباقي" ..
أضاءت ابتسامتها ذلك النهار الاستثنائي من بداية الخريف و زاد من جمالها ثقتها بنفسها التي منحها لها أبواها حين أعطياها النقود و سمحا لها بعبور الشارع بمفردها..
نظرة إلى اليمين و نصف نظرة إلى الشمال في منتصف الطريق أغفلت سيارة طائشة مسرعة ارتطمت بالفتاة العابرة و أسقطتها أرضاً مضرجة في دمائها..
صيحة هادرة من أب مكلوم و صرخة مدوية من أم ملتاعة " فرح.. فرح"
أسرع الجميع إلى حيث ترقد الفتاة على الأسفلت.. و أسرعت معهم صائحاً رغماً عني "وسعولي لو سمحتوا أنا دكتور"
كان لا يزال قلبها ينبض لكن وقعه كان واهناً و سريعاً جراء ما تفقده من الدماء..
صحت فيهم: " اتصلوا بالإسعاف بسرعة لازم تروح المستشفى و تنقل دم"
دقائق و كانت سيارة الإسعاف واقفة في نفس المكان المقدر لها أن تقف فيه حسبما تخيلتها منذ ساعة واحدة.. ركبت سيارة الإسعاف.. ليس بصفتي ميتاً كما كنت أخطط.. بل بصفتي المعتادة كطبيب.. نظرت إلى الفتاة الشاحبة و تلفت حولي في سيارة الإسعاف أبحث عن ملك الموت الذي أكاد أقسم أني رأيته ينظر لي بسخرية لاذعة قبيل نزول الطفلة من سيارة أبيها.. هل أدركت هذه الطفلة البريئة الحقيقة فحان وقت سلب روحها !! أيفكرة حمقاء تلك!! و أي حقيقة يمكن إدراكها في هذه السن الصغيرة يتحتم معها انتزاع الروح من فرح عابر ..
تواصلت عمليات الإنقاذ في المستشفى.. و كان لابد من نقل دم.. فصيلة نادرة.. "ب سالب".. أعرفها جيداً فلسنا كثيرين من تجري في دمائهم هذه الفصيلة
" أنا فصيلتي بي نيجاتيف".. أحييت لديهم الأمل.. و أحييت لديها فرصة أخرى للحياة..
....
بعد أسبوع..
زيارتي السابعة لغرفة "فرح" بعد أن تخطت مرحلة الخطر و عادت ابتسامتها العذبة تضئ وجه الحياة.. واظبتعلى زيارتها كل يوم.. غمرني أبواها و أهلها بعبارات الامتنان و العرفان التي لا تنتهي
-حمد الله على سلامتك يا فرح
-حمد الله على سلامتك إنت يا عمو
بدهشة بالغة : سلامتي أنا !!!
تذكرت للمرة الأولى منذ أسبوع ما كنت عازماً عليه حين ذهبت إلى المقهى حاملاً معي أدوات انتحاري.. ثم تذكرتحماقتي حين ظننت أنني قد وصلت إلى باب الحقيقة المطلقة و أنه لم يتبق لي سوى فتحه على مصراعيه حتى أخطو إلى عالم الأبدية المبهم فإذا بالباب يحمل لافتة مكتوب عليها " ممنوع الدخول.. لم يحن موعد الفتح بعد"
ردت بصوت لم يزل واهناً : بابا قالي إن حضرتك اتبرعتلي بالدم و أنا عارفة إن فصيلتي نادرة
قبلت يدها و ربت على كتفها.. أعطيت والدها رقم هاتفي "لو لا قدر الله احتاجت فصيلة بي نيجاتيف تاني لأيحد كلمني على طول"
رد بامتنان بالغ " ربنا يبارك في عمرك و حياتك يا دكتور"
في اليوم التالي جلست في مكاني المعتاد في المقهى حين جاءني أحد العاملين به حاملاً معه شريطي دواء : "يادكتور حضرتك نسيت الشريطين دول على ترابيزتك يوم حادثة البنت فرح و شايلهوملك من ساعتها"
نظرت إليه مبتسماً ثم نظرت إلى الجهة الأخرى من الشارع فخيّل إليّ ثانية أنني أرى ملك الموت واقفاً مبتسماً ابتسامته الساخرة..
"إرميهم يا طارق صلاحيتهم انتهت"

تمت
الإسكندرية في ٤ يوليو ٢٠٢٠

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى