د. وفاء الحكيم - تَـعَــاطُــفٌ.. قصة قصيرة

هي عادتُهُ كلَّما جاء إلينا :غاضباً، متجهِّمَاً ،عَبُوسَاً يقذفُ كلماتِ السِّبَابِ كحِمَمٍ بركانيَّةٍ انفجرتْ لتوِّهَا ، بينما تتدفَّقُ الألفاظُ النابيةُ من فمِهِ الَّذي تساقطتْ أسنانُه وامتلأتْ زوايا حوافِّهِ بالتجاعيدِ لتصيبَ كلَّ مَنْ حَوْلَهُ بالصَّمْتِ المُطْبِقِ فلا يستطيعُ أحدُنَا الردَّ عليه . يأتي دائماً ،يداهُ تَقْبِضَانِ بعنفٍ على مِرْفَقِ الفتاةِ الَّتي لم يتجاوزْ عُمْرُها العشرينَ. ومُقَاطِعَاً دائماً لها حين تتكلَّمُ أوْ تَشْكُو لَنَا مِن ضِيقٍ وصُعُوبَةٍ في التَّنَفُّسِ قَدْ أَلَمَّا بها في الَّليالي السابقةِ . كُنَّا نقومُ بإجراءِ كافَّةِ التَّحاليلِ ،نتأمَّلُ صُوَرَ الأشِعَّةِ جيداً ثم نخبرُهُ بِودٍّ وتعاطفٍ بأنَّنا لا نجدُ سبباً عُضْويَّاً لمرضِ ابنتِهِ وشكواهَا المتكرِّرَةِ..!!
كان يقابل ودنا له وتعاطفنا مع شكواها بعدائيه مفرطة ويظل يغمغم بكلمات لا نستبين معناها ؟؟ حتى كانت تلك المرة التي حاول فيها أحدنا ان ينصحه قائلا : اعتني بابنتك جيدا ،الفتاة لا تعاني من مرض عضوي فربما تعاملها بقسوة لا تتحملها رقتها المفرطة !! عندئذ لم يكتفي بصفع الطبيب على وجهه بل أصر على كتابة شكوى قانونية ضده أخذت دورها في التحقيق وانتهت بخصم ثلاثة أيام من راتب الطبيب وفضيحة مدويه عن مغازلته الصريحة لإمرأة أمام زوجها ! وفي المرة التالية وتحسبا لردة فعله العنيفة قمنا بفحصها جميعا كانت شاحبة ،نحيلة البدن كثيراً، وظلت تسعل بعنف وتشتكي من عدم قدرتها على أخذ انفاسها كما اكدت ان نوبتها السابقة من ضيق النفس كادت ان تودي بحياتها !!
اقترحنا حجزها بالمستشفى فاستشاط غضبا وكاد أن يبصق على وجوهنا جميعا . صمتنا تماما ثم قام أحدُنا فأحضرَ له ورقةً قام على مضض بالتوقيع عليها بأنَّه ملتزمٌ بعلاجها على نفقته الخاصة ، بطريقته الخاصة ومتحمِّلا لتبعاتِ كل ما يُتَوَقَعُ أنْ يحدث لها. مضى كعادته ممسكا بمرفقها كطائر يُخشَى عليه من الانفلات بعيداً لكنه عاد بها بعد عدَّة أيامٍ وهى أكثرُ شحوبا وبنفس شكوتها من صعوبة التنفس الحادة !! في هذه المرة لم نقم بفحصها فقد أجمعنا فيما بيننا أنَّ سبب علَّتها عارضٌ نفسيٌّ مزمنٌ وأخبرناه ونحن في منتهى الحذر أن يراجع طبيبا نفسيا ..!!
كنا جميعا في منتهى التعاطف معها، و الخوفِ كثيرا على تلك الرقيقةِ الصموتِ الذي أوقعها سوءُ حظِّها مع رجلٍ متجهِّمٍ مثلِهِ وراح كلُّ واحدٍ منا يصرِّحُ بما جال بخاطره عن نوعية العقاب الذي ستتلقاه المسكينة منه جرَّاءَ نصيحتنا له . وبالفعل حين جاءتنا في المرة التالية همستْ لنا وهى خلفَ ستائر سرير الفحص بينما عيونُها تتلصَّصُ عليه وهو واقف بعيداً بأنه قد جَلَدَهَا عدَّةَ جلداتٍ متتاليةٍ على ظهرها وحاولتْ أن تريَنَا الجروحَ المتناثرةَ على مسامِ جسدِها . لكنها هذه المرة كانت أكثَر مرضا فقد بدت ذابلةً جداً ،منهكة ،ضعيفةً ، تعاني من انخفاضٍ شديدٍ بضغط الدَّمِ نتيجةً لرفضها التام للطعام ثم انفجرت باكيةً تشكو أيضا من صعوبة التنفس أجْمَعْنَا أمرَنَا فيما بيننا على وجوبِ إدخالها المستشفى وإبعادها عنه ولو لعدة أيامٍ تهدأ فيها روحُها و تستردُّ عافيتَها . اجتمعنا بمدير المستشفى وأخبرناه بكل ما نعرفه عن حالتها وقدَّمْنَا له اقتراحاتِنا تجاهَ حالتِها فأبدى هو الآخر تعاطفاً شديداً مع حالتِها ووافقَ على ما انتوينا فعله أعدنا إجراء الفحوصات ، قمنا بعمل عدة إشاعات على الصدر ثم أخبرنا الرجل عن شكوكنا في أنَّ زوجتَه تعاني من مرض خبيث في الصدر وأنهُ لابدَّ من إدخالها المستشفى لاستكمال باقي الفحوصاتِ وللطمأنينةِ عليها..!
جَفَلَ الرجلُ ثم صمت ثم بادَرَ بالقبول على مضضٍ وقد أسقط في يده ولم يستطعْ الفِكاكَ من دائرتنا التي أحكمناها حوله. وفرحنا كثيرا إذ استطعنا أخيرا أن نثأر منه ، و نبعدها عنه .. ولو لبرهة من الوقت تستطيع فيها أن تستريح ، تلتقطُ أنفاسها وتستردُ عافيتَها . وزيادةً في تعاطفنا معها أوصينا أطباء الفترة المسائية والممرضات وحتى العاملات أن يتعاونوا جميعا معها ويهبوا لنجدتها إذا احتاجت شيئا بعدما حكينا لهم تفاصيل قصتها ومدى قسوته عليها فأبدى الجميع تعاطفا شديدا مع حكايتها لدرجة أن أحد العاملين تبرع لإحضار ابنته ترقد بجانبها ،تؤنسُها وتساعدها إن احتاجت شيئا . في الصباح انتظرناه لساعاتٍ طويلةٍ أن يأتي بضجيجه وعبوسِ وجهِهِ وقد تملكنا زهوُ الانتصار عليه لكنه لم يأتِ وعند الظهيرة جاءتنا عَرَبَةُ الشرطةُ ونزل منها الضابطُ ومعاونوه وطالبونا جميعا للإدلاء بشهادتنا فقد وجدوا الرجلَ مقتولاً في بيته ، مطعوناً بعدَّة طعناتٍ في كبده.. !!
وأقسمنا جميعا – دون أن يعترينا شيءٌ من ريبة أو تواطؤ-بأن القتيل قد جاء بها ثم تركها لدينا وانصرف وحيدا ولم نره بعدها وأنها مكثت في المستشفى طوال الوقت فقد كانت حالتها طبقا لما هو مدوَّنٌ بالأوراق الطبية الرسمية اشتباه الإصابة بأحد الأورام الخبيثة وأنها كانت تحت الرعاية الطبية لحين التأكد من الأمر !! وانصرف الجميع دون أن ينظر أحدُهم وراءَه ،غير ملتفتين للبنت الصغيرة التي لم يأخذِ الضابط ُأقوالَها والتي راحت تتجول في الغرفِ وفي يديها تفاحٌ أحمر جميل كانت المرأة قد أعطته لها وهى توصيها أَنْ تبقى في الفراش لا تبرحُهُ لتحرسَ التفاحاتِ ريثما تذهبُ إلى دورة المياه وتعودُ بينما كان هناك شاباً يشيرُ لها بيديه من بعيد بأنْ تسرعَ الخطوَ كثيرا فتخطو صوبَهُ مهرولةً... مخترقةً بعنادٍ وتحفُّزٍ كلَّ البواباتِ الحديدية المتتالية .


د. وفاء الحكيم
عضو النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى