د. السيد إبراهيم أحمد - "يوسف الحسيني" الذي رحل شاعرًا..

رحمة الله تتنزل على الصديق والشاعر الكبير يوسف الحسيني، جمعتنا أماكن كثيرة ولم نجتمع في صورة واحدة معا، وكنا سنلتقي على منصة واحدة في ندوة من ندوات نادي أدب السويس يتولى هو تقديم الأمسية الشعرية وتخلف لمرضه، غير أن المكالمات الهاتفية لم تكن تنقطع بيننا على غير انتظام، وآخرها عندما هاتفني قبل سفره لإجراء العملية الأخيرة بيوم واحد وأوصاني بأن أرثيه عند وفاته، غير أنني هدأت من تلك الظنون التي يحسها من سيلحق بركب السابقين من الأموات، وأخبرته أنني لن أوصي أحد بذلك عند مماتي.

تواعدنا على أن أخاطبه في الغد عند العودة من القاهرة سالما، واتصلت به ولم يرد، وعاودت الاتصال، وكتبت له على صفحته متمنيا له السلامة علَّه يتصل بي. وذهب الحسيني الإنسان ليبقى بيننا شاعرا سويسيا له صوته المتفرد، وقاموسه الشعري الإنساني الصادق المنفعل، وكان هناك وعد بيننا أن أكتب له تقدمة ديوانه عند الصدور حين يتمه، وكان يعرض عليَّ كل ما يكتبه في مشروع شعري تاريخي تتجلى فيه طاقته الشعرية، وثقافته التاريخية، ورؤيته الذاتية عن كل شخصية يتناولها، وكان كلما تأخر عني اتصلت به مستفسرا عن ديوانه هذا فكان يتعلل أحيانا بالتعب الذي يأتيه على غير انتظار، وانقطاع طائر الشعر أن يهبط بساحة إلهامه متمنعا عليه، فأشجعه بأن يعطي بعض الوقت لطائره حتى يسترضيه.

كان ـ رحمة الله عليه ـ على قدر اعتزازه بصداقتي ـ كما يحب أن يذكر ذلك في مكالماتنا الأخيرة ـ يعتز بصداقة الدكتور عادل معاطي أيضا ويعرض عليه شعره، وكان يسود شعره الالتزام وتتحكم فيه رقابته الذاتية لكلماته وتعبيراته وأهدافه الشعرية؛ فلم يشغل نفسه بالتجديد في التعبيرات الشعرية التصويرية بيد أنه كان مجددًا في موضوعات قصائده التي تدور في فلك الاجتماعيات، والإنسانيات، والهم العربي، والبعد الأخلاقي، غير أن غياب نصوصه المكتوبة بيننا هو الذي جعل يد النقد مغلولة عن أن تصل إلى منتوجه الإبداعي وليس له منه إلا النقد الشفاهي بعد إلقائه الشفاهي أيضا، وهو ما يوجب على العائلة أن تجمع قصائده المكتوبة لديه وتصدرها في عمل مجموع يضم معه كلمات عنه من كل الذين عاصروا إبداعه من السويس وخارجها.

لعل من تابعوه من محبي شعره في ندوات السويس والقاهرة وغيرهما سيجدون قصيدته عن الطلاق وما فيها من تعددية صوتية وحوارية داخلية ينتقل فيها الشاعر برشاقة دون تعسف للفكرة على حساب النص أو انحياز للنص الشعري على حساب القص، وكلماته عن الهوية وتبدل حال الفلاح بين زمنين، زمنُ مضى على فلاح صاحب قضية وهوية، وفلاح في زمن العولمة باع الأرض والهوية والقضية، ونصه الرائع عن الحاوي وربطه بالتطورات الاجتماعية دون أن يوغل في اتخاذ موقف يتسم بالعدائية من الدولة أو النظام أو يتكلم بوصفه سياسي أو برداء حزبي.

إن أهم ما يميز الشاعر يوسف الحسيني ثقافته المخبوءة تحت إهاب شطرات قصيدته التي يكتبها بانفعال، وكان كثيرا ما يمزق القصائد في رأسه قبل أن يلقيها مخافة عدم الإجادة فيها، ولهذا كان يسارع كلما انتهى من قصيدة أن يهاتفني وكنت أبدي إعجابا كبيرا بذلك الشأو الذي بلغه في اقتناص المعنى أو الفكرة الإنسانية الراقية كرقي خلقه في التعامل مع من حوله؛ فقد كان صوته في الإلقاء هو صوته في الحديث، لا يحب أن يتصدر المشهد الثقافي إلا بما أبدع، يلقي قصيدته ثم ينسل إلى مقعده وقد أحس بأنه ألقى حجرا ثقيلا من فوق كاهله، فظنه أن قصيدته رسالة ربما تصل إلى هدفها فتصلح معوجا، أو تقيم أود كسير القلب من فعل الأيام.

يوسف الحسيني.. الذي غادرنا شاعرا، وأًحتفي به شاعرا في يوم رحيله، ستظل شاعرا فينا.. فالشعراء لا يموتون يا صديقي.. لأننا مازلنا نتمثل بأشعار من سبقونا في العصر الجاهلي، ومن شعراء الإسلام والغرب والمعاصرين.

سامحني أيها الصديق العزيز: لن أرثيك كما طلبت مني؛ فلم أحس بغيابك أو رحيلك .. وسأتوهم أنك مازلت تعاني مرضا كما أعاني، وأن الشواغل قد أخذتك مني مثلما شغلتني عنك بعض العِلل، وكنت تعاتبني فأعتذر.. وها أنا اليوم وغدا سأقبل اعتذارك عن التأخير حتى نتقابل ونستكمل ما كنا نتحدث بشأنه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى