إبراهيم محمود - النص الأندروجيني

في معايشة النص الأندروجيني، تكاد الرغبات تنطفئ، بما أنها توجُّهٌ إلى الخارج، كونها قائمة في الداخل، فينعدم الاثنان بالتالي. هناك الاكتفاء الذاتي للجسد الذي يلقي بظلاله الاستثنائية على ما عداه، تتوقف الميتافيزيقا ذاتها عن الحضور في بنية نص كهذا. إنما ما النص الأندروجيني؟ إنه القوام المشترك والتفاعلي بين كل من الرجل والمرأة. لأن كلمة " أندروجين " ذاتها هي التي تفيدنا بمثل هذه المعلومة المركَّبة، في منبتها اللغوي اليوناني " androgène"، حيث يتسلسل نصفان: andro، أي " رجل "، و gyne، أي " امرأة " . الحضور المعمَّم هو الذي يميّزهما في وحدتهما.
ثمة المقابل بالعربي، الذي لا يبدو أليفاً، مأخوذاً به دون تحفّظ هنا وهناك " الخنثي ". فلا أعتقد أن شخصاً يقبَل بأن يكون الخنثوي، أو المخنث، أو الخنثى . أتراه في صميمه يتلمس في نعت كهذا سخرية منه، أم أن أحاديته المدشَّنة مذ وجِد الإنسان أحادي الجنس" ذكر أم أنثى " نفسه، وهو يرى معنى له من خلال الآخر، هي التي تحوُل دون ذلك، جرّاء الذهنية الجماعية المسيطِرة ، وأفانين التأديب أو الردع المعتمدة للإبقاء على الفصل مؤبداً ؟
جوليا كريستيفا، تفيض بحيوية المشهد المترجِم لهذه الكلمة / العلامة الجنسانية ( أما الخنثي، فهو وحيد الجنس: إنه في ذاته اثنان ، مستمن ٍ خبير، كلٌّ منغلق، أرض وسماء متداخلتان، انصهار سعيد على قاب قوسين أو أدنى من الكارثة:. إنه لا يحب. يرى نفسه في مرآة الخنثي الآخر كي لا يرى إلا ذاته، مستديراً، دون فجوة، دون آخر. هو انصهار في ذاته، فلا يستطيع حتى أن ينصهر...) "1 "
طبعاً، وقبل المضي في حضرة هذا المفهوم المشكّل عنواناً، يشار إلى أن كريستيفا انطلقت من تصورها الفلسفي الجنساني اللافت من أفلاطون " الذكر " وهو يتحدث بطريقة حكواتية تليدة في محاورته " المأدبة " عن جنس وجِد في زمن ما، كان من هذا القبيل ( كان شكل هؤلاء البشر، دون أي عوز، من قطعة واحدة ..)، وتصور كهذا يعني خرقاً لنظام مرسوم كونياً وبوجود آلهة تتلمس خطورة، فكان ما كان( هذه الكائنات التامة إذ أرادت في ادعائها تسلُّق السماوات للهجوم على الآلأهة، عُقبت، قطعتها الآلهة إلى شطرين، فكان هذا القطع تفريقاً جنسياً، ومن الآن، كلواحد يبحث عن الجزء الذي حُرم منه، وهذا البحث هو المحرك الحقيقي للفعل، كما الحب ..) " 2 "
مغزى الكلام، هو أن كريستيفا تسعى لأن تكون أندروجينية !
حيث يكون التوق إلى الآخر، ليس بالمعيار الذي يكون عليه هذا الكائن الموحَّد، بمقدار ما يكون بالمعيار الثقافي الذي أهّل به كل نوع، في صِلته بالآخر، فيظل الكائن الكامل والمميّز جداً ذاك في حالة غياب أبدية. حتى أفلاطون العتيد نفسه، يعتبَر الداخل في هذا المضمار الجنساني في الجدل الساخن بين الجنسين، وهو في موقفه المتعالي كذكر على المرأة بوصفها الأنثى التي يحتاجها الرجل، دون أن تتساوى به. ألم يقل من بين " شكرياته " للإله، أنه خلِق رجلاً لا امرأة؟
هناك دائماً، ثغرة، صدع، فالق، هوة، أو مسافة لا تُردَم في هذا الجانب السرمدي، حيث إن طبيعة الجسد المتكونة، كما هي عليه الآن، تظل على مبعدة مقدَّرة من تلك الصورة التي لا يعلَم أحد، من كان مسمّياً لها، ومن أين جيء بها، وكيف ومتى توقف العمل بها، شأنها في شأن صور كثيرة من هذا النوع، وهي تعطّل في الإنسان اشتهاءه لما يبقيه.
أليس تناول " الثمرة المحرَّمة " داخلاً في هذا الحيّز الكوكبي، ففي محصّلة المسلك كان الطرد من الجنة، من الأبدية، وبث الشوق والحنين في كل من الجنسين إلى بعضهما بعضاً ؟
أليس مفهوم " برج بابل " ذاته محاولة الصعود بالذات إلى أعلى مما هي عليه حدوداً؟ بلوغ الأولمب الإلهي" سدرة منتهاه "، فكان العقاب الإلهي، أي الحيلولة دون " خرق حرمة الحدود الفضائية للإله- للإله الأوحد " عالياً ؟
يبقى النص الأندروجيني مجازاً ضاغطاً على من يتعامل معه، تحدياً بالنسبة إليه، لكي يحسّن وضعه في رؤية العالم، وقبل ذلك في مكاشفة ما هو عليه ككينونة، وما إذا كان في مقدوره أن يكون متجاوزاً لما هو عليه .
في النص المذكور، يتم خلع الأبواب، الشبابيك، نسف العتبات، تعدّي القواعد التي تؤطّر للكتابة، رمي إطار أي لوحة، أو صورة فنية معينة، تفجير المتن، حتى لا يعود في إمكانه التعريف بذاته سيادياً، أو سلطة فارضة نفسها، وجعل الهامش ملحقاً، أو خدمياً، أو مقلقاً ما بقي حياً، فلا يعود هناك جزء وكل، تابع ومتبوع، حاضر وغائب...الخ، إنما هذا التكوين الكامل الذي يبقي مسمّاه الحي الذي تنتفي فيه الثنائيات أو المتناقضات.
تلك هي الاستحالة الكبرى في أي تصور للموضوع، للذات، لأي موضوع، لله، للإنسان، وجانب النقص المتعالي فيه.
لكن الكتابة في أصلها تأريخ لما كان، ونزوع إليه، ولو بمحاولات عمادها الفشل باستمرار، والعملية تتمثل في تلك الدلالات التي يحرص الإنسان على التعامل معها، ليكون أبعد مما هو عليه، أعمق من سطحه الذي يعتبره مسمّياً قاعه العميق، أبعد من حدود المتاح، حيث تقيم فيه سماوات وأرضين، كائنات وما لا يحصى من اللامسميات .
هنا يكون مفهوم الإقامة في الذات، متعة التفاعل معها، حيث ( القدرة على الاستمتاع بشكل من أشكال الإضلال..لا تقدَّر دائماً حقَّ قدْرها ) " 3 " ، حيث البحث عن هذا الآخر، وزعْم العثور عليه، وزعم الخروج من " القمقم " الجماعي، وزعم اكتشاف الأنا التي لا توصَف غنىً وفيض علامات.. هو الذي يتحفنا بمثل هذه اللقاءات .
لا جوهر في الكتابة، حتى يتم تجنب الوقوع في مطب الوهم الخادع والغاوي، إنما هو فعلها الذي ينحّي الجوهر الذي لا يعرَف عنه إلا باعباره العصي على الامتلاك، أو اكتمال نصاب المعنى في أمر معين. تلك المحاولة القصوى التي يتمناها أي منا لأن يكون هو الفائز بقصب السبق، أن يشار إليه المعترف من خلال هذا الجوهر الأسطوري .
كل كتابة تتوخى لصاحبها خروجاً من نطاقه المرسوم. تبقى الإرادة شاهدة على مدى المقاومة المبذولة، على حقيقة تلك الطاقة " الأندروجينية " التي استنبتها في مسعاه هذا، ومدى أصالة علاقته بموضوعه، بذاته، وغايته.
عربياً، تعلِمنا الأندروجينية، بمقابلها: الخنثوي، بما لا يرغَب في سماعه. ثمة إقلاق للروح، مس بالذات غير مقبول طبعاً، تحوير للموقع الشخصي، تعبيراً عن ثقافة مركَّبة: دينية ودنيوية. في الأندروجينية، بمرجعيتها الأجنبية، يختلف صدى الاسم/ الكلمة، يختلف الإيقاع الدلالي للكلمة ونشأتها الثقافية. كم من حدود ينبغي قطْعها للوصْل بينهما ؟
في الجانب الآخر، وهو المؤثّر هنا بشكل لافت: من السهل متابعة اللائحة الكبرى من الكتابات/ النصوص التي قرّرت في أن تكون، ألا تكون كما كانت، وهي تحاول التخلّي عن ذاكرتها القديمة، الأنا الأعلى الذي لم ىدخر جهداً في إقامة ولائم دموية، أو ممارسة كيديات جماعياً، وإبراز فظاعة زيف الحقيقة التي كان يلوّح بها في استقطاب الآخرين: الجماهير.
راهناً، ومنذ سنوات طوال بمفهومها النفسي والحركي الجارف، هناك انقلابات تترى، نصوص تكتَب من هذا الموقع، حيث يعجز الرقيب السلفي، المعتمَد القضائي، المكلَّف الأمني، الحسيب الفقهي...الخ، عن المتابعة، وعن الملاحقة، لا بل وعن قراءة كل هذا الطوفان الذي ينبىء أحياناً بفلْك نوحي مغاير لنسخته الأولى، حيث مخاض أسماء أخرى لا صِلة لآدم نفسها بها، على وقع الجاري، مهما أشير إليه من إرهاب يتهدد الصغير والكبير. تلك هي طبيعة المنعطفات التاريخية الخطيرة من هذا النوع، إذ يتقابل الليل والنهار، تلكم شهرزاد شهريارها المريع،وتكف عن إمتاعه بالحكايات التي يريد، بصفتها أكثر من كونها فرجين تراتبيين ومأخوذاً بها: الفم الذي يثير ذكره بالخارج منه كلاماً من جنس متعته، والفم السفلي، الذي يثير ذكره بالداخل إليه، ليحصل الامتلاك الأقصوي...
في النص الأندروجيني، ليس هناك، ولا هنا، إنما التحرك الجهوي، الرغبة في الدفع بالذات لأن تميت داخلها طوطمها التاريخي المحتكر من قبل أسلاف غابرين، تبحث المرأة أندروجينياً عما يصعد من شأن جسدها أكثر من كونها فتحة إثم، أو بوابة غواية، أو مستشَرف عالَم ملذات يصبو إليه " ذكرها " وقد امتلكتْ روحها أكثر، وتحررت من صورتها القابضة على أنفاسها وأبعد، بمقدار ما يبحث الرجل أندروجينياً عما ينحّيه كلياً عن هوام قواميته على المرأة، عما يحرّره من كونه " الخليفة " الإلهي المعطى امتيازات لا تحصى مقارنة بتلك المعطاة للمرأة، عما يحرّره من صورة خالقه الذي يتراءى له واهبه ما يشتهي دنيا وآخرة، فيكون نهاية النسخة التي فقدت صلاحية الاعتماد منذ زمان طويل، وبدء الإنسان الآخر، الذي يتموقع بعيداً عنه، اندروجيني العلامة، الإقامة، والحياة ...
إنها فورة خيال، بدعته، على الأقل، لعل في ذلك، بعضاً مما يخفّف من رعب هذا الكائن الذي يستبد بحامله منذ ما قبل تاريخ الكتابة عينها .


إشارات :
1-كريستيفا، جوليا: قصص في الحب، ترجمة: محمود بن جماعة، دار التنوير،بيروت، ط1، 2017، ص 70 .
2- المصدر نفسه، ص69 .
3-رولان بارت بقلم رولان بارت، ترجمة: ناجي العونلي، منشورات الجمل، بغداد- بيروت، 2018، ص 78 .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى