د. وفاء الحكيم - طَـــرِيـقٌ.. قصة قصيرة

"أيها النساجون :أريد كفناً واسعاً لأحلامي "
" محمد الماغوط "


لم تبالِ بما تدثرت به الطرق حولها من نارٍ ، بارودٍ ورَصَاصٍ . كانت تودُّ لو تُمْسِكُ بلحظتِهَا تصعدُ بها أجنحةُ الريح لتعبرَ بها صوب الفضاءاتِ المحرِقَة لشهوةِ الجُموح . مَسَّت بفرشاتِها حُرقةَ اللَّون / وما تفحَّمَ من رؤى الأوَّلين ثم هاتفتْ حبيبَها قائلةً : سأعبرُ الطريقَ الطويلة بعدما جهَّزتُ راحلتي للسفر البعيد . لملمتْ كلَّ ما استطاعتْ يدُها أن تصلَ إليه من أوراقٍ باحتْ فيها الورودُ على أسطرها خجلاً ونَزَقَـاً ، عجَنَتْ من الصمتِ خبزاً ووضعتْهُ على النار ، أحضرتْ بعضَ قطعِ الجُبن الصفراءِ الشاحبةِ زاداً ، وازدادتْ مع انحناء الصَّحَاب عناداً. رسمتْ حواجبَ وجهِهَا اندياحاً لكلِّ الأقواسِ المُسَالمةِ وهَزِأَتْ بالسلام المخاتلِ، والغُبن الضحَّاكِ ، وركَّبَتْ جُمَلَ التَّاريخِ وعلى سَنامِهِ صرخَتْ : كفانا اجتراراً !!
رآها حبيبُها فأقبلَ عليها يعانقُها ،يقبِّلها ويذودُ عن أنّاتِ وجهِهَا الطليقة ، أمسكَ بيديَهْا وقال نجلسُ سوياً فهمستْ : بل نفترشُ السَّحابَ العصيَّ على التوَحُّدِ ، التلاقُحِ ،التثاؤبِ والأمنياتِ البليدةِ "بمهديٍّ منتَظَرٍ" يحل علينا فُتستعاد على يديه البلادُ ، ويعلِن المعتدون توبتَهم وتراجعَهم عند قدميه . جلسا سويا : فأظهرت كتابَها المختبئَ وقالت : هئته لك ! نظر مليا فوجد الكتاب وقد اصفرتْ أوراقُة وأكلتِ الأرَضَةُ كلماتِه ولم يبقَ منه سوى كلمةِ للتَّجَلِّي : "وطنٌ يعانِد قاتِلِيه" كانتْ السماءُ ملبَّدةً بالفراق ، والنجماتُ شريدة ، ومآقي الأحبة من الأهلِ والصحابِ ممتلئةٌ بدخان الأسئلةِ الحائرةِ عن هؤلاء الذين يرتشفونَ الدَّمَ في كؤوسنا فأرجعتْ بصرَهَا إلى الأرض ونظرتْ إليه متسائلةً فأطرق واجماً وراحا سوياً يسعِلان بشدَّةٍ من تلك الرائحةِ التي زَكَمَتْ الأنوفَ . التقطتْ أنفاسَها ،رشفتْ شَرْبَةَ ماءٍ من يَدِهِ ثم رَنَتْ من جديدٍ متأمِّلةً المدى و قالت لحبيبها : انظر هناك إنه طريقٌ ممهَّدٌ ونظيفٌ ليس به ثمَّة ضجيجٌ فتعال نركضْ سويَّاً.. !
نظر حبيبُها إلى حيث أشارت فوجدَ الطريقَ جِدَّ طويلةٍ على جانبيها تعلو أشجارُ السرو الظّليلة وعلى مَدَدِ النظر تلعبُ بنتٌ صغيرةٌ بفستانٍ أبيضَ وجديلةٍ طويلةٍ تبادلا فيما بينهما النظرات ثم ركضا صوب الصغيرةِ واقتربا كانت البنتُ فرحةً تتقافزُ ، الجبينُ شاخصٌ والرؤى محيطاتٌ وبحارٌ، تفرِد البنتُ يديَهْا فرحةً فـتحط ُّعليها الفراشاتُ وتتراشقُ على كفَّـيْها الأمنياتُ : سأصبح شاعرةً وأبث عشقي للوطن في أغانٍ طويلةٍ، سأتزوج وأنجب بناتٍ وبنينَ ! أسرعتِ الخُطى لتقتربَ من الصغيرةِ ولْـتَمُـدَّ يديَها مثلها فـتحط الفراشاتُ على باطن كفيها وتتدثر مستدفئةً بخطِّ العمرِ وخطِّ القلب و خطِّ الحياةِ وخط القَدَرِ الأكثر صِدقَاً دون تمويهٍ بين تعاريجِ يدَيْهَا البضَّةِ الرقيقةِ . تاهتْ بين الخطوط والقمم الممتلئة باللحم عند محور أناملها بينما راح حبيبُها يناديها : تمهِّلي ، اصطبري قليلاً حتى نكملَ حديثَ الوَجْدِ ، ونلملمَ ما افترشناه على الأرض ، ثم ننتظر مرورَ العرباتِ ، ونهدِّئُ قليلاً حتى تنفتحَ إشارات العبور فنعبر سوياً لكنها أسرعتْ دون أن تلتفت، اغتنمتْ فرصتَهَا المواتيةَ ، عبرتْ صَوْبَ الضِّفة الأُخرى، لوَّحتْ له بيديها مودعةً وقد أعطتْهُ ظهرهَا ،وعبَرَتْ فرِحَةً لا تُبالي إلى حيث لُجَّةِ الوجودِ فكشفتْ عن ساقيها لقوس قزح وتركتْ فراشاتِ الأماني لجة الوجود فكشفت عن ساقيها لقوس قزح وتركت فراشات الأماني تركض متقافزةً على جسدها ، وراحت فرِحةً تعانقُ- البنتَ التي تنتظرُها – ضاربةً بعرض الحائط كلَّ ما خَطَّ في مواثيقِ الخوف وكُتُبِهِ - من وصايا . إلى : عهد التميمي..!

د. وفاء الحكيم
عضو النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى