أمل الكردفاني - أنترفيو.. قصة قصيرة

"فرصة عمل.. وظيفة بمرتبٍ عالٍ..للإناث فقط"

مرتب عالي؛ ولا شروط سوى أن تكون أنثى..، هذا جيد. وحين راودتها خواطر عدة، اتجهت نحو المرآة وتطلعت إلى وجهها، ملست شعرها بأصابعها، وكورته إلى الخلف، ثم عادت وفردته وصنعت خصلة منهدلة على الجبهة، تأكدت من انها جميلة، ولكنها مع ذلك تراجعت للخلف لتتمكن من وضع كامل جسدها داخل إطار المرآة.. دارت على جنبها نصف دورة وتأملت مؤخرتها ثم صفعتها، ليست سيئة.. لا .. ليست كبيرة ولكنها متوسطة ومستديرة.. صدرها أيضاً ليس ضخم النهدين.. ودارت في مخيلتها تصورات أخرى لتلك الوظيفة الغامضة، فخلعت ملابسها ووقفت عارية، أغمضت عينيها وبدأت تتأوه بشبق، ثم ضحكت، حين أحست بأن صوتها مثير جداً "أصلح تماماً لتلك المهنة". فخمسة أشهر من العطالة كافية جداً منذ طردها من عملها لسبب تافه..كان السبب فقط هو عدم كتابتها لتقرير حول عمل المؤسسة؛ والذي كان قد طلب منها قبل ثلاثة أيام، هل هذا خطأ جسيم إلى هذا الحد، نعم قابلت صديقتها قبلها بأسبوع في الصباح ثم سافرتا لرحلة يوم واحد دون أن تخطر مديرها بذلك، لكن هل انهارت المؤسسة بسبب غيابها ليوم واحد..واحد فقط؟! طبعا لا؟ وحين نسيت ملف حسابات الوكلاء في عربة النقل هل كان ذلك ذنبها أم ذنب مرتبهم الذي لا يكفي لشراء دراجة نارية ناهيك عن شراء عربة خاصة، وما الخطر الذي ألم بالمؤسسة حينما تركت سجارتها مشتعلة فاحترقت الأوراق وبضعة حواسيب والستائر ما دام لم تصل النيران لأرشيف السجلات ولا المخازن..؟ إنهم يترصدونها ويتصيدون لها الخطأ تلو الآخر... ثم اقالوها بلا سبب تقريباً وليس بسبب تافه كما تصورت في البدء.. السبب هو الحقد عليها فقط..جمال وجهها، ضحكتها المشرقة، جسدها الممشوق، ذكاؤها الحاد... كل تلك أسباب كافية لإثارة الحسد والحقد...
"سأحصل على تلك الوظيفة ذات الأجر العالي" قالت بإصرار.. وارتدت فستانها الذي استعارته من صديقتها الأجنبية ولم ترده إليها مرة أخرى، فهو لا يليق بصديقتها السمينة ذات الأنف المدبب، وكان الفستان من ماركة دولتشي أند غابانا الإيطالية بلون زيتي مطرز تطريزاً يدوياً بزهور منطفئة اللون، بحيث يتناسب مع حذائها ذو الكعب العالي..فتذكرت: "مرتبٌ بأجرٍ عالٍ".... تبرجت والتقطت حقيبتها التركوازية لتغادر إلى حيث العنوان.
جلست على عجلة القيادة، وتذكرت صديقها الأبله، وهو طبيب في الستين من العمر، يعشقها بجنون، نعم هو يعشقها، دون أن تمنحه شيئاً، لكنه حرباء، وصفته بذلك حين تذكرت رفضه -رغم إلحاحها المزمن- أن يكتب لها السيارة بإسمها. وبحسب الخارطة الرقمية استطاعت أن تصل إلى حيث مقابلة العمل. كان العنوان في الجناح القابع في الطابق الحادي عشر من البرج، فاستقلت المصعد المغطى بالزجاج الشفاف من سقفه وحتى أرضيته، راقبت الشاب الذي يجلس في مكتب الاستقبال، ولكنه لم يكن ينظر لها من أسفل.. ضمت ساقيها للضمان.. وأخذ المصعد الزجاجي يرتفع بها إلى الأعلى.
وحين وصلت رأت مجموعات ضخمة من الفتيات من شتى السحنات، سمراوات بيضاوات، قصار طوال، نحيفات، سافرات أو محجبات، ولكنهن يشتركن في شيء واحد، هو أنهن غير أنيقات مثلها، وحتى من يرتدين فساتين من ماركة دولتشي آند غابانا ليسن جميلات مثلها. حنت رأسها للوراء ونفضت شعرها بيديها من فروته ليتبعثر خلف ظهرها، ولاحظت أن الفتيات الباقيات الحاقدات يقلدنها، فحتى حينما أخرجت مساحيقها وأحمر الشفاه رأتهن يفعلن ذلك معها في نفس الوقت. ففتحت شفتيها نصف فتحة وادارت أحمر الشفاه التركوازي عليهما دورتين من أعلى وأسفل، ثم عطرت خلف اذنيها ورقبتها ورأت الفتيات يفعلن ذلك أيضاً، فلوت شفتيها امتعاضاً، والغريب أنهن قلدنها حتى في ذلك.
كان الجو حاراً، "ألا يوجد تكييف؟" همهمت فقالت فتاة تجلس قربها،"منذ نصف ساعة ونحن في هذا الحال..لم يخرج أحدٌ ليخبرنا بشيء، ماهذه المؤسسة الغريبة؟!" قالت لنفسها:"مرتب عالٍ..سأصبر..ليس بالضرورة أن يكون هناك تكييف".. بمجرد استلام أول راتب لها ستقطع علاقتها مع ذلك الطبيب العجوز الأبله. وتشتري سيارتها الخاصة، وستستأجر شقة أوسع، وملابس جديدة، إكفهر وجهها حين تذكرت أنها أقل فتاة تقتني فساتين في هذا العالم، مجرد تسعةٍ وأربعين فستانٍ فقط، وثلاثين حذاء بأشكال وألوان مختلفة.. كم هذا محزن... " أحتاج لعشرة فساتين.. خاصة ذلك الذي رأيته في المول، ذو اللون البني المحروق..." لمعت عيناها وهي تتخيله بين أحضانها.. ومضت ساعة قبل أن ترفع الفتيات رؤوسهن إلى السماء كالزرافات اللاتي كن يشربن من النبع حين شممن رائحة الأسد.. ففي تلك اللحظة، صدرت حشرجة من سماعات على السقف قبل أن يسمعن صوتاً ذكورياً:
" مرحبا سيداتي..مؤسستكم ترحب بكم وسنعمل بجهد ونزاهة على أن يكون إختيار الفائزة بالوظيفة ذات المرتب العالي إختياراً نزيهاً، سيتم فتح عشرين مكتبٍ، وسيتم اللقاء بحسب الترتيب الأبجدي للأسماء، بعد الانترفيو، سيتم إعلان القائمة الطويلة للمرشحات، وسيتم إجراء انترفيو ثانٍ لهن، بعدها سيتم إعلان المرشحات من القائمة القصيرة، ثم إجراء انترفيو ثالث، وأخيراً سيتم اختيار الفائزات بالوظيفة..وإبرام العقود معهن.
شكراً لكُنْ..".
لعنت اسمها في سرها:"وجدان..الحرف قبل الأخير.."..
وبالفعل احتشدت الفتيات وهن يتغالطن حول أسمائهن:"ولكن اسمي الذي ينادونني به هو أمينة.." ..تغالط الفتيات اللائي يبدأ اسمهن بحرف الألف فعلا: "العبرة بالإسم في الوثائق الرسمية.." تقول بعضهن من المخادعات:"هل أنتِ من كتبتِ شروط المؤسسة..المؤسسة لم تضع ذلك الشرط؟"..واستمر الجدل واقترب الوضع من الإنفجار، حيث كل فتاة أخذت تنظر لشعر الأخرى تمهيداً لشده عند ساعة الصفر...ولكن تجدد صوت الرجل من السماعة:
"سيتم الأخذ في الاعتبار الإسم الوارد بالوثيقة الوطنية الرسمية".
وهكذا انتظمت الفتيات بسرعة متناسيات غضبهن قبل لحظات بسرعة بالغة،..أما وجدان، فكانت قد بلغت أصعب حالاتها النفسية والإرهاق الجسدي بعد خمس ساعات من انتظار إسمها، وحين دخلت للغرقة رقم ٣٠٣، وقفت في منتصف دائرة مرسومة على الأرض ومخصصة للوقوف. انغلق الباب خلفها ورأت طاولة خشبية صغيرة كطاولة طلبة المدارس، يجلس وراءها شاب ثلاثيني يدون كتابة ما على مفكرة ورقية..لم يرفع رأسه إليها فظلت واقفة في قلب الدائرة، والإرهاق يرجف ساقيها، كانت كل المساحيق تنصهر بسبب حر الغرفة، والعرق يتصبب من بصيلات شعرها وتحت إبطيها وثدييها، وفخذيها، أنكسر جفناها بيأس حين استمر انتظارها لبدء اللقاء لأكثر من ساعة، لم يكن الشاب متعجلاً، بل يكتب ويكتب ببطء، وفي أحيان ما كانت تراه يحرك قلمه في شكل دائري عبثي، كان يرسم، ماذا يرسم؟..لا يوجد أي تكييف، فتسارعت انفاسها، ولم تعد قادرة على حمل جسمها، "هذا الكلب متى يبدأ"..همست ثم عضت على شفتيها،..ولكن لم يحدث شيء...لم يحاول الشاب رفع رأسه،..أخذت تشتم في سرها ..أفرغت كل ذخيرتها من الألفاظ النابية، ولا شيء يحدث، وأخيراً لم تعد قادرة على التحمل، فتراجعت للخلف وحملت جسدها حملا، لتغادر المكتب، ثم المبنى برمته. وفي الأسفل رأت الفتيات منهارات تماماً.. المساحيق انصهرت، الشعور منفوشة، رائحة العرق تعطن أعطافهن...كان الإختبار صعباً عليهن جميعاً.
بصعوبة بالغة، حركت وجدان رجليها نحو السيارة، ورأت الطبيب العجوز واقفا وهو يقول بشوق:
- وجدان..رأيت السيارة هنا قبل قليل.. فنزلت من سيارتي لأراكِ..لماذا تهربين مني؟
ثم نظر إليها من رأسها وحتى أخمص قدميها وقال:
-ولماذا تبدين بهذه الحالة المزرية؟
القت بجسدها عليه وأجهشت بالبكاء..فاحتضنها وظل صامتاً...وحين قادها بسيارته نحو السيارة، التقطت أنفاسها وغمغمت:
- عبد الحميد...هل تتزوجني؟
فنظر إليها بدهشة بالغة.

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى