البروفيسور عادل الاسطة - قراءة واحدة... قراءات متعددة ونصوص مربكة

في شباط الماضي طلب مني الشاعر مراد السوداني أن أشارك في ندوة عن الشاعر معين بسيسو بمناسبة مرور ٣٦ عاما على رحيله .
وكان علي أن أعيد قراءة بعض أعماله ، فالذاكرة خداعة ولا بد من التأكد من بعض المعلومات ، وهكذا أعدت قراءة أجزاء من سيرته " دفاتر فلسطينية " ومقدمة " نماذج من الرواية الإسرائيلية المعاصرة " .
بعد ثلاثة أشهر طلبت مني سوسن قاعود أن أشارك في تصوير حلقة عن جبرا ابراهيم جبرا لبرنامج " خارج النص " الذي تبثه " الجزيرة " القطرية ، وعندما أنجزت اللقاء طلبت مني أن أقترح عليها أسماء نقاد وأدباء ليتحدثوا عن معين بسيسو ، فاقترحت وليد أبو بكر ومحمود شقير .
لم يمر أسبوع حتى اتصلت بي سوسن وأصرت على أن أتحدث ، فالأديبان اعتذرا ؛ الأول بسبب أوضاعه الصحية والثاني لعدم رغبته في التنقل . ولقد اعتذرت لأسباب عديدة منها أن محاورتي لم تقرأ أعمال الشاعر ، فاقترحت أن يحاورني زميلان لها ، عبر السكايب ، من الأردن اتصل أحدهما بي ، وأخيرا خضعت لإلحاحها وإلحاحه ، ومن جديد أخذت أنظر في بعض أعمال معين .
في أثناء إعادة القراءة التفت إلى سطر بدا لي مربكا حول عودة الكاتب علي عاشور من المعتقل المصري ، في العام ١٩٤٨ ، إلى حيفا " ثم جاء الإسرائيليون و أخذوه إلى حيفا " ، فكتبت على صفحة الفيس بوك فقرة توجهت بالخطاب فيها إلى الشيوعيين القدامى ليوضحوا السطر لي . وقد انشغل به القاص محمد علي طه شهرا وكتب مقالا نشره ، قبل أسبوعين ، في " الحياة الجديدة " وأعاد نشره في " الاتحاد " الحيفاوية .
الفقرة التي كتبتها انتبهت إليها سهام داوود متأخرا ، وكتبت فقرة حولها أثارت ضجة نالني في الردود عليها من الاتهامات ما نالني ، وما بين أخذ ورد طلب مني القاص محمود شقير ، بناء على اقتراح من سهام ، أن أنهي الجدل والكتابة .
لم ألتق بالكاتب علي عاشور ولم يكن بيني وبينه مناكفات أو خصومة ، ولم أتعامل مع اسمه تعاملا فيه تورية " الحكي عن الجارة واسمعي يا كنة " ، وكل ما في الأمر هو أنني قرأت سطرا قرأته من قبل ولم ألتفت إلى إرباكه ، وفي أثناء القراءة الجديدة بدا لي كما لم يبد في القراءات الأولى ، ما دفعني إلى التوجه إلى الشيوعيين ليوضحوه .
ما حدث معي هو في جوهر نظرية التلقي الألمانية " نظرية الاستقبال " التي من أبرز أعلامها ( هانز روبرت ياوس ) و ( فولفجانج ايزر ) ومن أبرز مقولاتهما مقولة اختلاف قراءة النص الواحد في زمنين مختلفين ، واختلاف قراءته من قراء مختلفين ؛ فالقراء متعددون وهم أنواع ، وعليه ليست هناك قراءة واحدة لنص . هناك قراءات متعددة منها البريء والخبيث والواعي والدقيق والقراءة الكفء و .. و ..
وما حدث معي هو أيضا ما تذهب إليه " التفكيكية " التي ترى أن كل قراءة هي إساءة قراءة ، وأنه ليست هناك قراءة نهائية لنص ، ومرة نشرت في جريدة " الأيام " مقالا عنوانه " القراءة وإساءة القراءة " تركز حول مقطع من " جدارية " محمود درويش ، كنت أسأت قراءته وعندما قرأته في زمن لاحق اكتشفت غير ما رأيته في قراءتي الأولى فوجب التصويب .
هنا أشير إلى نظرية السياق أيضا ، فقد قرأت سطر معين في ضوء حديثه عن رفيقيين شيوعيين ذمهما معين وهما فتحي شراب وفهمي السلفيتي .
ما جرى من جدل حول السطر أعادني إلى نصوص مربكة أثارت ضجة كبيرة ؛ فلسطينية وغير فلسطينية ، ومن الأولى قصيدة درويش " عابرون في كلام عابر " وقصيدة الروائي الألماني ( غونتر غراس ) " ما يجب أن يقال " .
في ١٩٨٨ نشر درويش قصيدته فأثارت ردود أفعال عنيفة داخل الاستشراق الإسرائيلي وترجمت إلى العبرية ترجمات عديدة لم تتطابق فيها اثنتان ، فقد ترجمها المترجمون كل حسب فهمه ومواقفه السياسية ، وكتبت الصحف العبرية حولها الكثير لدرجة أن ( اسحق شامير ) رئيس الوزراء قرأها في ( الكنيست ) قائلا :
- انظروا ماذا يكتب شاعر فلسطيني يعده اليسار الإسرائيلي شاعرا معتدلا .
وتوقف الدارسون أمام أسطر عديدة مربكة ، مثل " اخرجوا من برنا من بحرنا " و" خذوا جثثكم وارحلوا " ... إلخ .. إلخ .
قبل أعوام قليلة نشر ( غراس ) قصيدته فثارت في إسرائيل زوبعة بلغت حد تحريم السماح له بدخول الدولة الإسرائيلية ، وقد نقلت القصيدة إلى العربية من غير مترجم وتعدد فهم بعض أسطر منها بحسب قراءات المترجمين .
هل قلت ردود أفعال المعقبين على الفقرة التي كتبتها الشاعرة داوود على صفحتها عن الردود على القصيدتين ؟
للأسف فإن كثيرا من ذوي الشأن الثقافي في فلسطين ما زالوا أسرى القراءة الواحدة وهذا ببساطة لأن صلتهم بالمدارس النقدية ما زالت أسيرة فترة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين .

الجمعة والسبت
١٠ و١١ تموز ٢٠٢٠

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى