أمل الكردفاني- كيف تجني ملايين الدولارات؟

تقدمت سيدة من أحد الناشرين وطلبت نشر كتاب زوجها (كيف تصبح مليونيرا)، وقالت بأن زوجها لا يملك ثمن الطباعة، فطلب منها الناشر أن تطلب من زوجها قراءة كتابه.
وهذه القصة المضحكة، هي قصة قرابة سبع مليارات نسمة، لديهم أحلام عريضة باقتناء الملايين من الدولارات والخيل المسومة (سيارات الآن) والأنعام والحرث، في عالم انتصرت فيه الرأسمالية بحيث (كوّش بضع مئات من الأفراد) على ثروات الشعوب.
كنت قد التقيت بمحامٍ عجوز، لطيف جداً، قال بأنه انتظر ثلاثين عاماً الفرصة الوحيدة التي سيقتنصها ليكون مليارديراً.
لقد انتظر كثيراً، وسينتظر أكثر، وإذا حالفه الحظ فسيقبل العمل مع حكومة من حكومات الصدفة، ويقوم ب(لبعات) كبيرة، كما يحدث الآن. فهناك الآن بعض من أقارب النافذين يمارسون عمليات ابتزاز لمن تعرضوا لقرارات المصادرة غير المشروعة والفوضوية.
قبل أسابيع فقط، فكرت في هذه المسألة كثيراً، وحاولت إيجاد إجابة على سؤالي: هل يمكن ان أصبح الفونير، وليس مليونير، بمعنى ان امتلك بضعة آلاف من الدولارات؟
وبقليل من التفكير (الواقعي جداً)؛ توصلت لنتيجة بسيطة:
أنا لن اصبح ألفونير أبداً.
لم أخلق بعقلية تجارية، ولست (زول سوق)، كما أنني لا أتحمل السرقة من ناحية نفسية، ولو وضعت في موضع مسؤولية (موظف أو مسؤول حكومي) فلن أمارس الفساد وألبع لبعات تنقلني من طبقتي البروليتارية للبرجوازية. ليس ذلك بسبب الدين ولا حتى الأخلاق، ولكن بسبب الجريمة التي وقعت علي حين تمت تربيتي تلك التربية السخيفة بحيث لا يمكنني استغلال الآخرين أو الفرص. مثل شخصيتي هذه ستظل فقيرة دائماً، وهؤلاء هم أغلب أجدادنا من موظفي السودان..
إننا -وبما أننا في عصر الرأسمالية- يجب أن نربي أطفالنا على حقائق عصرنا، فنحن في عصر السوق والتجارة واللبع والقسوة وعدم الرحمة، واقتناص الفرص. حتى لا يقع هؤلاء الأطفال في زمرة السبع مليارات نسمة من المغفلين النافعين.
وعلينا أن نعلمهم المادية الجدلية الماركسية، حيث لا توجد تدخلات إلهية (معجزات) ، بل صراع مادي محض، يجب أن يخوضوه بأهم سلاح وهو الوعي بوجود هذا الصراع نفسه.
في أوج العظمة السوفيتية، كان قادة الحزب الشيوعي يدخنون المارلبورو الأمريكي المستورد، ويمنعونه عن الشعب لأنه ميراث للإمبريالية الرأسمالية. وفي قمة الحقد الأمريكي على الشيوعية، كان القادة الأمريكان يدخنون السيجار الكوبي.
إن كل العالم عبارة عن اكاذيب..لكن لابد للطفل أن يتعلم الأكاذيب ليتمكن من العيش في عالمه.
نعم .. أشخاص مثلنا لا يستطيعون أن يكونوا ألفونيرات، وهذه حقيقة يجب الإيمان بها. ولكن الرأسمالية لا تريدنا أن نؤمن بذلك، حتى لا يفقد السبع مليارات نسمة من المغفلين النافعين إرادة الحياة..الرغبة في العمل والمزيد من العمل الذي في الواقع ليس سوى عمل بلا طائل. لذلك عززت الرأسمالية الأكاذيب عبر الدعاية الإعلامية (الحلم الأمريكي) وهو الحلم الذي لا ولن يتحقق أبداً، ولكنه دفع بثلاثمائة مليون أمريكي للعمل في حين يستحوذ خمسون أمريكيا فقط على ترليونات الدولارات. الحلم الأمريكي الكاذب والذي عبر عنه تينسي ويليامز في مسرحيته (الوحوش الزجاجية)، تم تعزيزه بالعلوم الكاذبة الجديدة، مثل البرمجة اللغوية العصبية، ومثل كتب تكرس الوهم والغباء في تصورات الأفراد مثل كتاب "السر" والحديث عن استدعاء الطاقة واستجابة الكون لك، ومئات الكتب عن "كيف تصبح مليونيراً"، واعلانات اليانصيب، وجوائز وهمية بالملايين، وغزو مستمر للعقل المنطقي، وحشوه بآلاف من التصورات الخاطئة.
يقول الشيوعيون:(لا إله، والحياة مادة، والموت إهمال). وبالتالي لا توجد معجزات، ولكنهم في نفس الوقت يوهمون البسطاء بعالم إشتراكي وهمي، عبر نظريات ساذجة، غير مؤسسة. لقد اعتبر الماركسيون أن الماركسية هي الاشتراكية العلمية، كمقابل للاشتراكية المثالية، مع أننا لو استبعدنا الديالكتيك، فلن نجد أي علمية في إشتراكيتهم، ولو أقحمنا الديالكتيك، فلن نجد أي تأسيس للإشتراكية بقدر التأسيس للصراع فقط. ولكنه الوهم والإيهام..ولا شيء غير ذلك.
تعالوا نرى كيف سرقت السفارة الأمريكية أموال الآلاف من السودانيين المغفلين النافعين، فبالرغم من معرفة السفارة أن ترامب أصدر قراراً منع فيه السودانيين من الاشتراك في قرعة اللوتري او الهجرة العشوائية، قامت امريكا بقبول آلاف طلبات الهجرة للسودانيين، ثم استقبلتهم السفارة الأمريكية وأجرت معهم لقاءات، قيمة اللقاء للسوداني الواحد أربعمائة دولار عداً ونقداً، بمعنى أنه لو كان عدد المقبولين ثلاثة آلاف مضروبين في أربعمائة دولار فإن السفارة الأمريكية تكون قد ربحت قرابة مليون ومائتي ألف دولار. وبعد اللقاء أخبروهم بأن هناك قرار يمنعهم من الدخول في عملية القرعة.
لماذا استلمت منهم السفارة إذاً تلك الملايين، ما دامت أنها كانت تعرف مسبقاً بذلك القرار، ولماذا أجرت معهم الانترفيوهات أساساً.
هل يذكركم هذا بشيء؟
نعم..يذكرنا بحمدوك حين سافر لأمريكا بغرض رفع السودان من لائحة الإرهاب ولكنه عاد محملاً السودان بعشرة مليارات دولار كتعويضات لا سند لها من القانون.
وهكذا تتلاعب الرأسمالية بالمغفلين، تمنحهم حلماً أمريكياً وهمياً ثم تسرق أموالهم، وتتركهم مع أحلامهم وأوهامهم.
لن نكون ألفونيرات، فنحن لم نتهيأ لهذا الصراع منذ الطفولة، ولم نفهم العالم إلا مؤخراً، ومتأخراً جداً.
وإذا كنا لم ولن نصبح ألفونيرات، فمن الأجدر بنا أن نغير طريقة تربيتنا لأطفالنا في المستقبل..أو لا ننجب بائسين جدد لهذا العالم.
في عالمنا هذا، يقف المال كإله، يحيي ويميت.
أحد أصدقائي من المتفلسفة كتب كتاباً فلسفياً راقياً جداً، فرفضت دور النشر طباعته ونشره، ولكنها كانت تقبل نشر روايات من قبل:(أحببته فخانني) أو كتاب بعنوان (كيف تضعين المناكير بطريقة مثالية).. الخ.. فالمعادلة بسيطة جداً:
علم بلا مال= تنطع
إن العالَََم يستغل المعارف المتنوعة ويدجنها لتخدم الرأسمالية أو خدمة البضع عشرات من المستحوذين على ثروات الأمم فعلى سبيل المثال، أصبحت الشركات الكبرى تتبنى كليات علمية محددة ويجد الطالب المتفوق وظيفة مرموقة في تلك الشركة بمجرد تخرجه، لقد اعترض كثير من المثقفين الأمريكيين على تحويل الجامعات لدورة انتاج رأسمالية وتخريج طلبة غير مثقفين، بعض المفكرين في فرنسا انشأوا جامعات ضد السلطوية المعرفية، ولكتهم ووجهوا بمقاومة عنيفة أفضت لفشل تجربتهم تلك...ويتم استغلال جميع الآيدولوجيات (المادية أو الغيبية) لتركيز الثروة في يد قلة، فحتى المنظمات المتطرفة كداعش والقاعدة لعبت دوراً هاماً في تعزيز القوة الرأسمالية عبر سرقة ثروات الشعوب المستغفلة والعاجزة في نفس الوقت. كانت داعش تبيع نفط العراق لتركيا بثمن بخس، وتركيا تبيعه لأمريكا بطريقة غير مباشرة..وظلت أمريكا تدعم داعش وجبهة النصرة بملايين الدولارات ( أي بجزء يسير مما تجنيه من عقود النفط التي أبرمتها مع الحكومات العراقية المتعاقبة منذ سقوط صدام وهي عقود تسرق النفط العراقي بحجة الحماية)، في الوقت الذي كانت تعلن حربها على داعش، ثم أصبحت أمريكا تفاوض روسيا لإجلاء مقاتلي جبهة النصرة من سوريا، وفي ذات الوقت تعتبر أمريكا أن السودان لا زال دولة راعية للإرهاب..(أي خراء عقلي هذا بالله عليكم؟).
وأوروبا نفسها تأوي كل إرهابيي العالم، وتمنحهم كل الفسحة لخطابهم الديني المتطرف لتحقيق أغراض محددة. قريبة أو بعيدة المدى. ولكن كل هذه الأغراض تصب في خانة الثروة، أي المال. أذاً فالمال هو إله هذا العصر. الذي يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
لذلك استسلم صديقي هذا ونشر كتابه نشراً خاصاً وبالتأكيد خسر خسارة فادحة، إذ أن النشر يعتمد على التسويق، والتسويق يعتمد على المال. ولذلك ليس بمستغرب أن تنال أغنية تافهة شهرة واسعة، ويُغمر كتاب رائع تحت وحل التجاهل ثم النسيان.
لن تكون ألفونيراً..
إن جنى المال لا يتم تعلمه بالكتب، بل بتربية النفس على خوض الصراع الإنساني بما هو صراع إنساني، فهو صراع حقيقي، وهو بلا ضمير، وهو لا يتحمل أنصاف الأذكياء.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى