جمال نيازي - ذات الرداء الأزرق.. قصة قصيرة

أما بعد..
تلاحقني فيروز اليوم أينما ذهبت أو لم أذهب.. جارتنا السورية الجديدة المولعة بكل ماهو "فيروزي" بدءاً بطقم القهوة ذي الفناجين الخمسة المرسوم على كل واحد منها صورة فيروز مدون تحتها إسم أغنية من أغانيها ذائعة الصيت.. "سألوني الناس".. "يا مرسال المراسيل".. "حبيتك بالصيف".. "أنا لحبيبي".. و "كيفك إنت".. منذ أتت للسكنى في الدور الأرضي ذي الحديقة الصغيرة الملحقة به استحالت تلك الحديقة التي كانت مهملة فيما قبل إلى صورة مصغرة لحدائق الشام التي كنا نقرأ عنها في كتب الشعر الأموي.. كانت جارتنا تبدأ صباحها بأغنية لفيروز يصل صوتها إلى غرفة نومي التي تعلو شرفتها حديقتها الغناء حتى صرت أستعيض بها عن صوت "المنبه" المزعج الذي أصابني بالتوتر المزمن.. و كانت تختتم ليلتها أيضاً بأغنية لفيروز تخفت بعدها أنوار بيتها و حديقتها إلا من مصباح صغير في ركنها القصي.. كنت أستمع إليها ثم أغمض عيني نائماً رائق البال..
"صار لي شي مية سنة عام ألف عناوين.."
هكذا بدأ اليوم ب "اداش كان في ناس ع المفرق تنطر ناس".. أغنية فيروزية مناسبة لأجواء الشتاء التي استقرت مع بداية العام الجديد و منبئة بيوم ممطر تغسل زخاته الشوارع المتربة.. و الأنفس المنهكة أيضاً..
حين بدأت قيادة سيارتي مسرعاً بها إلى عملي كان البرنامج الحواري المنبعث من مذياعها يتحدث مع مستمعيه حول قضية خفيفة في بداية اليوم.. كلام قديم معاد أُنهك بحثاً حول "الحب من أول نظرة".. تعددت حكايات المستمعين.. كل يحكي تجربته التي تثبت أو تنفي الفكرة من أساسها.. لم أكترث لهذا كله.. ما لفت انتباهي كان أن كل الفواصل الغنائية التي كان يقدمها البرنامج.. كانت فيروزية أيضاً..
يا قلبي لا تتعب قلبك
شو بحبك على طول بحبك
استغرقت معها.. و سافرت بخيالي حتى بعلبك المذكورة في سياق الأغنية..
راجعين يا هوى راجعين
يا زهرة المساكين
راجعين يا هوى
على نار الهوى
على دار الهوى
راجعين
أشفقت عليهم حقاً.. أولئك الذين قرروا أن يعودوا إلى حبهم الأول.. إلى النار التي أخرجوا منها.. يعودون إليها بإرادتهم الحرة المطلقة.. ثم أتت الأغنية التي تثير خيالي في كل مرة أستمع إليها.. "شايف البحر شو كبير".. حين يأتي ذلك المقطع العجيب:
رسمتك على المشاوير
يا هم العمر
يا دمع الزهر
يا مواسم العصافير
في كل مرة أسأل نفسي ذات السؤال.. ما الذي قصدته فيروز حين وصفت حبيبها ب "مواسم العصافير" ؟ .. وصلت إلى عملي و أدركت أنني سوف أفتقد جداً أغنيات فيروز في فواصل البرنامج.. لكنني لن أفتقد فكرته السخيفة .. "الحب من النظرة الأولى".. محض هراء..
كان فستانها الأزرق مبهراً جداً.. ذكرتني رؤيتها مرتدية إياه بتلك الدفقة من البهجة الصافية التي تنتاب طفلاً صغيراً قطع بصحبة أبويه شارعاً طويلاً جداً سيراً على قدميه قبل أن يلوح له البحر بزرقته الصافية و أمواجه المتقافزة على مرمى بصره في نهاية الطريق.. و كانت ابتسامتها شديدة العذوبة.. كأن ذلك البحر الأزرق شديد الصفاء و النقاء خُلق من ماء عذب لا ذرة ملح فيه.. كأنها ما خلقت إلا لتبتسم.. كأن ذلك الوجه الجميل لم ير حزناً أو هماً قط.. مددت يدي و صافحتها و أبلغتني أنها انتظرتني أمس لكنني تغيبت عن الموعد.. لمت نفسي ألف مرة على كسلي بالأمس و فقداني فرصة لقاء مبكر.. رن هاتفها.. ما زالت تلاحقني فيروز..
بعدك على بالي
يا قمر الحلوين
يا زهر بتشرين
يا دهبي الغالي
حين انتهى اللقاء و صافحتها مودعاً لم أكن أذكر حرفاً واحداً مما تحدثنا بشأنه فيما يخص العمل.. كان رأسي مفعماً بكل ما لحن الأخوان رحباني و تغنت به جارة القمر..
أمضيت أمسيتي في شرفة منزلي مغمضاً عيني لا أرى سوى ابتسامتها التي انتزعت قلبي من مكمنه حيث أبقيته حبيس الضلوع طيلة الأعوام التي انقضت.. لم أشعر بمرور الساعات إلا حين أرسلت لي جارتي السورية صوت فيروز مغلفاً في رسالة صوتية منمقة انبعثت من حديقتها الأنيقة..
خايف أقول اللي في قلبي
تتقل و تعند ويايا
ولو داريت
عنك
حبي
تفضحني عيني بهوايا...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى