إبراهيم محمود - تجنيس الكلب بين عبدالفتاح كيليطو والعادل خضر

يعلَم أهل الكتابة أن النص يُسمّي صاحبه، بوصفه كاتبه، وربما لا يُسمّيه عند قراءته أصالةً، إنما يشير إلى نوع من الشراكة النصّية في الكتابة، أي بوجود كاتب آخر أو أكثر في تحرير هذا النص، ومفهوم " التملُّك "، وربما لا يُسمّيه، رغم أنه يحمل اسمه، بمقدار ما يُسمّي كاتباً آخر أو أكثر، عند الاستعانة بالذاكرة القرائية، لتبيّن العلاقة بينهما.

التجنيس إبراز شهادة ولادة نص. هذا ليس كافياً! يتدخل المحلّلون " الجينالوجيون" في حالات لازمة، عند الربط بين " المولود " النص" وما إذا كان هناك من شبه بين سيمائه و" الأب أو الأم "، أو كليهما، أو أبعد في نطاق القرابة. يتحدد نوع الإبداع، صفة الكتابة وكاتبها، على أكثر من صعيد: تأثراً،اقتباساً تقليداً، تناصاً، أو....نقلاً، وربما بعض انتحال وتناسي " المالك " النصي بالمقابل، سوى أن الكتابة بخاصيتها التاريخية المسجَّلة ومأثرة التذكير بالمقابل، لا تتكتم على هذا الغفل من التسمية أو الإحالة المرجعية.

ما أردتُه من هذا العنوان الذي قد يبدو لافتاً بمحتواه، هو هذا المشكِل المركَّب والمتعلق بالكتابة، أي كتابة، وحقوق الكاتب حدوداً وصِلات وصل، وكيفية تحديد علاقة النص بكاتبه، باعتبارها قضية شائكة شغلت أذهان المعنيين بها على مدى العصور.

وما أردته من العنوان، وكما هو في كامله، هو هذا الضرْب من العلاقة بالأصل المقرَّر، ولدي مثال حي، يسمّي كاتبيْن، وهما باحثان لهما بصمتها في تناول موضوعات شائقة، ومثيرة للقراءة، كاتبان حداثيان تماماً، مع فارق التجنيس الدقيق للكتابة ومرجعيتها، حيث يشغلهما معاً ما هو تراثي، وللحداثي كمرجع تننويري حضور لا يخفي، وهو ما يتجلى في قراءة أعمالهما في التأليف، كما لو أن بينهما تبارياً، أو حلبة كتابة واحدة، يواجه أحدهما الآخر.

عبدالفتاح كيليطو، الباحث المغربي المعروف بكتاباته ذات الإمضاءة اللافتة بجدّتها، والمعروف بالفرنسية – ربما- أكثر، وهو الجامع بين لغتين هنا: الكتابة بالفرنسية وبالعربية، والمزاوجة بينهما.

والدكتور العادل خضر، الباحث التونسي " الجار الجغرافي "، الذي يعرَف بدراساته السيميائية والتأويلية، وخاصية الخطاب النقدية، ويكتب بالعربية، سوى أن مرجعياته بالفرنسية إجمالاً، ومنها يمتح أفكاراً، ويثير أفكاراً كثيراة في بحوثه.

وقد استوقفني هذه المرة في مقال له، يحفّز الذاكرة القرائية كثيراً، جهة المحتوى، وصِفة التجنيس، وأعني به " المستنبح والنابح من بيان الكلب إلى حيوانية الجنون ". إن أي قارىء متابع لحركية العنوان، لا بد أن يمضي في قراءته، مثلما استوقفني بحث آخر سابقاً "1".

ما الذي يستوقف القارىء " لأقل يستوقفني هنا "؟ في العنوان ومحتواه، وما هو أبعد من حدود التناص طبعاً "2".

في الجانب الآخر، هناك مقال آخر، لعبدالفتاح كيليطو، يستوقف القارىء " فلأقل هنا أيضاً: يستوقفني بمحتواه مجدداً "، غفْل من العنوان كلّياً، ويثير أكثر من قوة نفسية لدى قارئه" لديّ " حيث يأتي تحت عنوان " خاتمة " ولم أتبين أي مسوّغ لعنوان ليس عنواناً في حقيقة أمره. إنه لا يشير إلى فصول سابقة، عناوين ماضية في الكتاب، إنما إلى اعتباره مقالاً بذاته "3".

موضوعه نفسه يتمحور حول الكلب، حول الإنسان الذي " يتكالب: التعبير لكيليطو " حين يستعين بالكلب في نباحه، فيصبح نابحاً، مستنبحاً، لأمر جلل يعنيه أمره، وهو في الليل البهيم، وليس أمره سوى هذا " الانتحال " الصوتي الذي يعني الكثير. إذ يتخلى عن بشريته، عن كونه بشرياً، والدخول في نوع من المسخية " ربما من هذا المنطلق ، تقدَّر تسمية كيليطو، للفقرة الأولى من " خاتمة " بـ " المسخ ". ص 114 "، لا مناص من اعتماد المسخية وعن وعي، ليحقق نسخيته البشرية تالياً، حيث الليل البهيم، وفي الصحراء يُسمي الكلب، وصلة الكلب بأهل البادية، أو حتى بالمواطن المسكونة، والذي لا يتردد في إصدار نباحه الكلبيّ" لغته الوحيدة الدالة عليه " على من " ينبح " بوصفه كلباً " من جنسه، وهو هنا يستنبح، وليس من شرح أو توضيح أو تبيّن فيما إذا كان الكلب بنباحه يردُّ على " نباح " هو ليس نباحاً، إنما استنباحاً، وخدعة تمثيل الصوت، أم أنه ينبح استجابة للصوت، دون " السؤال " عن حقيقته، تعبيراً عن حيوانيته " المحببة " ومعرفته بتلك الصفة الملازمة له من جهة المتعاملين به: الوفاء للآخر، والحب الغريزي لانقاذه..ذلك بحث آخر.

تاريخياً، كُتِب مقال كيليطو، وضمّن كتابه منذ عقود من الزمن، كما هو مشار في هامشه، أما مقال خضر فهو حديث العهد تماماً. التأريخ ضروري جداً ، في أي عملية مقارنة.

وما أكتبه هنا، لا يدخل في نطاق " السرقات الأدبية، أو الفكرية " إطلاقاً، إنما لفْت النظر إلى المسمى بـ" المؤلف " وكيف ومتى يكون أو يصبح مؤلّف ما يكتبه، ونسبة حق التأليف في ذلك.

تجاوز العتبة :

في مقال خضر، هناك مزج بين هذه الحيوانية والجنون: الظلام جنون، والكلب داخل في الجنون، للكلب تاريخ عريق في مضمار السلوك الليلي وصلة الإنسان به، وفي هذا المقال هناك تشعبات، حيث " الضيافة" تشكل العتبة الكبرى في النص وإدارة شئونه، وما يجعل منها إشكالاً، ومن خلال فوكو أساساً" ص 33-43 "، تالياً يأتي دريدا، و" عدوى الأرشيف" كتابه العتيد، ومفهوم " الأرخيون" أو " الأرك: الأركيولوجيا"، إن الأرخيون موقع اعتباري سياسي ومرجعي" ص 34". هذا من جهته يشير إلى حركية المؤلف، إلى أرخنته، حقيقة الأصل فيما يُنسَب إليه.

بعد عدة صفحات نصل إلى " النباح " حيث الضيافة في انتظارنا، أي ما يجعل التائه ضيفاً عند مروره بعتبة " الاستنباح " كما سظهر. حيث يقول( إن قتران الجنون بالضيافة والدَّين قد جرى بواسطة تجربة النباح من خلال مشهدي المستنبح والنابح الواردين في كتاب الحيوان لأبي عثمان الجاحظ. وليس النبّاح في هذه التجربة صوت الكلب العاوي، هذا الصوت الكلبي الخالص المتأصل في كلبيته، وإنما الصوت البشري الذي بحكايته، أو محاكاته لعواء الكلاب يستثير القوى البهيمية. ص 41).

ماالذي يحصل جرّاء هذا المسلك/ الإجراء؟( يجرّد النباح الإنسان النابح المستنبح إلى حين أو دون رجعة من اللغة، ويطرده من فضاء اللوغوس ليزجَّ به في فضاء الوحش حيث الوحشة والعزلة وصحراء الكلام...ص 42).

لدى كيليطو، ثمة شفافية، وضوح شاعري، وملهِم، وإثارة في طرح الفكرة، وتحفيز على التفاعل معه، وهو يتحدث عن التائه في الليل البهيم، واستراتيجية المسلك بغية النجاة من هلاك محتم دونها( ولعل المسافر يتوفر على عينين حادتين ثاقبتين، ولكنهما ليستا عينيّ هر. فما عساه يفعل؟ سيلجأ إلى طريقة قد لا تخطر ببال، ولكنها حقيقية: إنه سيأخذ في النباح. المستنبح، كما يقول الجاحظ، " يعوي وينبح لتجيبه الكلاب". يسري المسافر إذن وهو ينبح، فإذا كانت بالجوار كلاب، فإنها ستأخذ في النباح دلالة على وجود ديار وناس يقطنونها. حتى يهتدي المرء إلى طريقه، لا مفر له من النباح. لكي يعود إنساناً، ينبغي أن يتحول كلباً . ص 115).

المقال في عمومه يدور حول ميكانيزم النباح والاستنباح، في نوع من تبادل الأدوار، وتداعيات اللعبة، وما يطرأ على النابح المستنبح من تغيرات دلالية، مما هو لغوي، لا تعود فيها اللغة قائمة، وإنما مرجأة، فهناك ما هو بهيمي يستيقظ في الإنسان الساري ليلاً، والبهيمية، كما يُلاحَظ قائمة في الإنسان، تُستدعى أو تستثمَر عند اللزوم، وكيليطو، حقيقة يقارب الإبداع في إضاءة هذه العلاقة المركَّبة، كما لو أن الليل هو مسرح عمليات إنسانية بهيمية: كلبية " كما في " فالليل، كما نعلم، مأوى الأشباح والشياطين. ولا عجب أن يتحول المستنبح إلى نابح، فينسى اللعبة، وينسى ذاته. للتقليد ثمنه: فكم من لاعبين تقاتلوا!... ص 116).

طبعاً، يمكن الاعتراض على صفة " نسيان الذات " والقول بأن الساري ليلاً وفي مسلكه الطارىء في أوج وعي الذات، والإجراء القويم الذي ينبغي عليه استدعاؤه وتمثله: النباح، الاستنباح، إنه يعرف نفسه وطبقاتها، يعرف الكلب وليس العكس، إنه لا ينسى لغته، إنما يتناساها، والنباح نفسه يصبح عنده لغة رمزية، ليأمن شر الضياح. والليل في بنيته لا يظهِر الآخر، إنما يغيّبه داخله، فيعوم في الظلام، ولججه، إن جاز التعبير، والنباح الوسيلة الأمثل لبلوغ " بر الأمان".

لا مجال للنقاش هنا، حيث مسار البحث يتطلب مثل الحصْر، والموضوع يتحمل نقاشات جمة، إنما هو في الربط بين مقالين، ومن يكون الناطق تأليفاً. إن الباحث خضر، الذي يشعّب مقاله، لا يغفل خاصية النباح، الاستنباح أبداً، فهي بوصلة الهداية إجمالاً في مقاله.

المشكل أنه لا يشير إلى كيليطو، لا من قريب أو بعيد، إنما إلى مقال له، شارك به في إحدى الندوات باسم " الكلب الأعمى "، وما أثاره في الندوة تلك " ص 45 "، ويعتمد كلام الجاحظ نفسه والوارد لدى كيليطو " ص 43".

يتحدث خضر عن الكلبية والكلبيين متناً وهامشاً " ص 36 "، وهو ما نجد له أثراً لافتاً لدى كيليطو "4".

يفيض في العلاقة بين الجنون، والكلبية ونسيان اللغة بتعمد، من خلال مفهوم " جنون الليل " وحضور الكلب بامتداد المقال، ليكون أثر دريدا التفكيكي هو الأكثر حضوراً بعلاماته، وليس فوكو حقيقة، ومن خلال كيليطو بالذات، والذي يحتفظ بأكثر من حق لافت في أساس التأليف، أي بصفته " مؤلفاً".

يتجنس الكلب كيليطوياً أكثر، بينما لدى خضر، فيقل التجنيس كثيراً، والذي يبعث على الاستغراب، هو في التجاهل لمقال كيليطو، والسؤال عن مغزى الإحالة على مقاله " الكلب الأعمى " وليس الوارد في " خاتمة " وهو من حيث الدقة" النابح المستنبح "، كما أسلفت "5".

وكما أشرتُ إلى ذلك سابقاً، فإن من إحدى الإشكاليات الكبرى في الكتابة، هو مدى الارتباط القاعدي بالمكتوب، وكيفية توصيف المؤلف، في نسبة التأليف إليه. ربما أمكن الحديث عن " مكر الكاتب " في مساعيه، وكيفية إدخال عناوين أخرى، ومرجعيات أخرى " كما في حال فوكو " بينما يظل صوت كيليطو، رغم متاهة الكتابة وغابيتها لدى خضر، هو الذي يشدنا إليه، إنه ما يحدد جنسية النابح والمستنبِح، بعمقه البحثي، ونباهة الوعي وحِرفيته المؤُثّرة.



إشارات:

1-أعني بذلك كتابه: نسيان ما لا ينسى " أو صورة الأصل في الأدب "،دار مسكيلياني، تونس، ط1، 2013، والذي تعرضت له في مقال نقدي، نشِر في أحد المواقع الالكترونية العربية الثقافية" الأوان " حينها، وضمَّنته كتابي: الجسد البغيض للمرأة " دراسة " دار الحوار، اللاذقية، ط1، 2013، صص143-156.

وقد أشرت في الكتاب " ص 209 " إلى تقديري لجهود الباحث الخضر في هذا المضمار، حيث التقيت به في معرض الكتاب العربي بأربيل " إقليم كردستان العراق " بتاريخ 10-4/ 2013، وتحادثنا معاً لبعض الوقت، وكان ممتعاً ذلك اللقاء الهامشي والمفيد، إنما دون أن أخفي نقدي لأصول كتاباته، ومن خلال نماذج بحثية.

2- يُنظَر في المقال المذكور، ضمن كتابه: الجاحظ والبيان الآخر " بحوث سيميائية تأويلية "، دار مسكيلياني، تونس، ط1، 2017 ، ويشكل الفصل الأول للكتاب هذا، صص 31-64، وكل الإحالات التي تخص هذا المقال في المتن، عائدة إلى هذه الطبعة .

3-ينظَر، عبدالفتاح كيليطو: الكتابة والتناسخ " مفهوم المؤلف في الثقافة العربية "، ترجمة: عبدالسلام بنعبدالعالي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1،1985 ، صص114-123، والإحالات المرجعية تخص هذه الطبعة، حيث ترِد أرقام صفحاتها في متن الكتاب.

4-ينظَر إسهام كيليطو: الكلب الأعمى، في : لقاء الرباط مع جاك دريدا" لغات وتفكيكات في الثقافة العربية " ترجمة: عبدالكبير الشرقاوي، دار توبقال، الدار البيضاء، ط1، 1998، ص141، في الهامش الثالث.

5-أشير هنا إلى نقطة أخرى تخص عملية الإحالة، وكيف يورد القول" الاقتباس "، مثلاً بين قوسين، أو مزدوجتين، أو دونهما، أو كما هو في نصه الأصلي. حيث يتجاهل خضر ذلك.

كما في حديثه عن الكلام وصلته بالليل واستحضار الكلب( فالكلام نوع من العمى الرائي. ويوجد الكلام كلما انعدمت الرؤية. والشاعر هو الأعمى الذي يجسّم نظرية العمى التي يتقلب فيها الكلام إلى عصا بها تتحقق الإبانة ويكون البيان . ص 44 ).وفي الإحالة المرجعية " هامش 1 في الصفحة ذاتها، ليس سوى هذه الإحالة إلى كتاب لدريدا بالفرنسية وهو " ذكريات المكفوفين " وتداعيات القول " ص 44- 45 ". في الندوة المذكورة، وفي إطار تعليقات دريدا، يردُ الكلام الذي سطّره خضر آنفاً، وبحذافيره تقريباً " ص 210-211 ". أتحدث هنا عن مدى الإخلاص للآخر، بوصفه الحاضر في المتن، وليس الهامش، لا بل، والمشارك في التأليف، عند النظر فيه، وأحياناً، يكون هو مالك المتن، والكاتب في الهامش وأبعد ...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى