إبراهيم محمود - والغريب في " حصة الغريب" في الموقف من الترجمة

ما يمكن قوله هنا في بدء هذا المقال، وحتى التأكيد عليه، هو الموقف من الآخر: المترجِم، وحقه في الحضور وليس الغياب، طالما أن هناك حضوراً لاسمه ونصه المترجَم، وما يجعل هذا التغييب، أو التجاهل أكثر من كونه إشكالاً، يقلّل من جماليات الترجمة، يقصي الترجمة بوصفها عملاً مفتوحاً، حيث إن كل من ينتسب إليها، من خلال إسهامات معينة، لها وزنها الثقافي، يسجَّل اسمه في الحال. في ضوء ذلك، هناك نقاط على تماس مباشر بهذا الجانب الترجمي، دفعت بي إلى تثبيتها:
بهذا الصدد، لا أخفي أنني فرحت عندما أبصرت كتاباً ترجمياً تحت عنوان " فصول منتزعة " وهو عبارة عن مختارات من كتابات جاك دريدا، وهو ترجمة ثلاثية لكل من " عبدالعزيز العيّادي، ناجي العونلّي، معز المديوني "، ومن تحرير " ناجي العونلي "، والصادر عن دار " الجمل – 2015 ".
والذي يهمني التذكير به، هو أنني أهتم كثيراً بمقدمة الكتاب، أي كتاب، أو تقديمه، لأن في ذلك تقديماً لفكر الكاتب أو المترجم، ومسلكيته ليس في التعامل مع النص المترجم، وإنما مع الآخرين من زملائه في هذا المضمار.
قبل ذلك، هناك تعريف بالمترجمين الثلاثة، وبداية بالمترجم والباحث الفلسفي التونسي : العونلي، وقد أثارني تقديمه للكتاب، لدريدا وطبيعة أفكاره في التفكيك. إنما هناك مشكل يرتبط بأخلاقية الترجمة بالذات، حيث إن المحرّر هنا لم يشر أي إشارة إلى ترجمة سابقة لبعض من المقالات المنشورة في الكتاب، وأعني بذلك ما قام به الشاعر والباحث والمترجم العراقي الكبير كاظم جهاد، كما في " الكتابة والاختلاف " والذي ضم العديد من المقالات المختارة لدريدا، والذي سبق كتاب " فصول منتزعة " بعقد زمني " وصدرت طبعته الثانية أيضاً وعن دار " توبقال " نفسها سنة 2000، والمقالات المنشورة هنا منشورة هناك عموماً، باستثناء نص حوار مع دريدا، ومقدمة إضائية لدريدا ومنهجية التفكيك لديه تعدت العشرين صفحة، في كتاب المحرر العونلي، وهناك أضيف نص " صيدلية أفلاطون " الذي ترجمه كاظم جهاد " قبل أكثر من عقدين من الزمن بالمقابل.
ماالذي كان يضير المحرّر الباحث العونلي لو أشار إلى ترجمة كاظم جهاد، ولو إشارة عابرة ؟ وجهاد يستحق ليس التذكير به فقط، وإنما التنويه إلى أهمية ترجماته عن الفرنسية بالذات بالنسبة إلى " دريدا " وغيره. لم أعثر على مبرّر لهذا التجاهل الذي يسيء إلى مكانة الباحث- المترجم، كما لو أن الآخر غير موجود، حتى وهو يوضح تالياً سبب اختياره، أو اختيارهم " ثلاثتهم " لعنوان " عقاقيرية أفلاطون " وليس " صيدلية أفلاطون " وفي صفحة كاملة تسبق النص المترجم " ص 143 ". هذا ليس غبناً بحق الآخر، وإنما بحق الترجمة بالذات، تعالياً " ينزع " عن المترجم هذا النوع المؤسس لأخلاقية الترجمة، وجماليات التذكير بالآخر، وهو حاضر بإسهاماته. يا للحق المهدور ثقافياً !
وإذا كنت قد توقفت عند العونلي في النقاط الآنفة الذكر، ربما بالطريقة عينها يستوقفني كاظم جهاد، في تقديمه لكتابه " حصة الغريب: شعرية الترجمة وترجمة الشعر عند العرب "، والمترجم إلى العربية من قبل محمد آيت حنّا، والمنشور عن دار " الجمل " سنة 2011.
ولمن لا يعرف، فإن كاظم جهاد له حضوره في ترجماته المختلفة، لدريدا، رامبو، وعمله الترجمي الكبير: الكوميديا الإلهية، لدانتي....الخ، وكونه يكتب بالفرنسية كذلك.
مقدمة جهاد شيّقة، حيث إنها تخص مهام الترجمة، وإشكالاتها، عبر نماذج يختارها، وهو يورد بعضاً من هذه العناوين ذات الصلة، ومن ثم يتوقف عند الذين لهم بصمتهم في هذا المضمار: بسام حجار، عبدالسلام بنعبدالعالي، عبدالفتاح كيليطو " الذي تحدث في إشكاليات الترجمة "، ومن ثم أخيراً موسى وهبه وإسهامه في الترجمة الفكرية"ص8".
طبعاً، تاريخياً، كان ينبغي الحديث عنه قبل الآخرين، نظراً لأٌقدميته، حيث عاش بين عامي " 1941-2017 "، وهذا لم يحصل .
ماالذي يمكن إثارته بالمقابل، إزاء تقديم جهاد؟ هناك أيضاً ما أشير إليه جهة جماليات الترجمة وأخلاقياتها.
إذ كما نوهّت إلى هذه الثغرة " البغيضة " لدى توضيحات العونلي، بصدد حق جهاد المهدور، ربما بالطريقة ذاتها يساءل جهاد عن هذا الحق المهدور لآخرين سبقوه كثيراً في هذا المضمار، وبالنسبة لترجماتهم عن الفرنسية، أو إسهاماتهم في هذا الجانب، وانطلاقاً مما أثاره من نقاط ترجمية، وعن مترجمين عرب في الأدب والفكر .
أشير هنا إلى المفكر والمترجم اللبناني الراحل حسن قبيسي " 1941-2006 " وترجماته اللافتة لشتراوس، بريتشارد، ميرسيا إلياد، وجاك لومبارد...الخ.
ويبقى الباحث والمفكر والمترجم السوري الكبير، الراحل جورج طرابيشي مؤثّراً حقاً، وكان يستحق التركيز عليه في القائمة الضخمة لترجماته " أعمال هامة لفرويد، لإميل برهييه، وسارتر...الخ ".
وهناك المفكر والمترجم اللبناني المعروف جورج زيناتي، والذي يذكّرنا في الحال بترجمته لأعمال بول ريكور: الذات عينها كآخر، وكذلك:الذاكرة، التاريخ، النسيان..الخ، إذ إن ترجمة كل كتاب من هذين، يشكّل حدثاً ثقافياً بالفعل .
إلى جانب التأكيد على الدور الكبير الذي برزت فيه " المنظمة العربية للترجمة " من خلال عشرات الكتب المهمة، وفي ميادين مختلفة، وكان لها حضورها في الساحة الثقافية العربية .
وللباحث والمترجم السوري منذ عياشي " 1945-..." إسهاماته الكبرى في النقل عن الفرنسية، من خلال مؤلفات لكل من جيرو، بارت، تودوروف، جاك دريدا، وجاك بيرك...الخ .. ذلك ما لا يمكن اعتباره سهواً، أو مطلباً صعباً للتذكير به، وذلك مقارنة بمن تم ذكرهم، وفي إطار الترجمة عن الفرنسية بالذات.
وهناك نقطة أخرى، وأراها مهمة جداً، وهي الأعمال الترجمية التي أصدرها " مركز الإنماء القومي " الذي كان يديره الكاتب والمفكر والمترجم السوري الراحل مطاع صفدي " 1929-2016 "، وتحديداً من خلال أعمال مهمة جداً لميشيل فوكو" الكلمات والأشياء " و" أركيولوجيا المعرفة " و" تاريخ الجنسانية "...الخ ، ومؤلفات مهمة أخرى .
لعلّي لا أجانب الصواب إن قلت إن موقفاً إيديولوجياً في المسألة، هو الذي يقصي من ذكرت، وأركّز هنا على صفدي ومشروعه في الترجمة، وحتى مركزه. كان ذلك وارداً عند الإشارة إليه، إنما دون إغفال إسهامه الكبير في هذا المجال، إلى جانب تلك النصوص المميزة التي حفلت بها مجلة المركز المذكور" العرب والفكر العالمي ".
أترانا إزاء مقولة " الغريب " التي تستدعي مقاربة نفسية وفكرية وتاريخية، تجاه ما أشير إليه في متن المقال، وهو الغريب الذي يضيء ماوراء المسطور، ويكاشف عنفاً خفياً له رصيده الاعتباري في التعريف بالمترجم مسلكياً، وقبل ضلوعه في أي عمل كتابي، وترجمي بالذات ...!!!؟؟؟ *
*-ملاحظة، إن اختياري عنوان كتاب كاظم جهاد، عنواناً لمقالي، في المجمل، تأكيد لأهميته، ولدلالته بالمقابل، وليس لأن المقال يتركز حصراً على مسلك جهاد في التقديم، إنما لأن العنوان ومتضمنات الكتاب لهما دور في اقتباس العنوان ذاته، ولهذا، فإنه بمقدار ما أبرزت ملاحظات نقدية لي على محتوى التقديم للترجمة العربية، ثمة اعتراف بدَين له علي كذلك .
وإذا تحدثت من زاوية شخصية مباشرة، فيمكنني القول أن ما تلمسته في كاظم جهاد حين تشاركنا معاً في ندوة" أدب الرحلات واكتشاف العالم" في " عجمان: ألإمارات العربية المتحدة " في نيسان 2010، هو الود والتواضع ودماثة الخلُق، وربما من هذا المنطلق، أثرت تلك النقاط ذات الصلة بتقديمه لكتابه المترجَم إلى العربية .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى