مريم القحطاني - في الطريق الى صنعاء

بعد مشادة كلامية جمعت عدداً لا بأس به من الناس حول بيت جابر، إنصرف هذا الأخير حاملاً ابنه معه. فهرعت رحمة زوجته إلى الشباك لتكمل ماعندها، ثم إلى الباب، وعندما رأت أن كلماتها لا تصل مسامعه، هرولت إلى سطح المنزل، فبعثت مثالب الأصل والجدود، ومرت بالموتى واحداً واحد، ثم الأحياء دون أي استثناء لتتوقف عنده. فأمطرته بوابلٍ من الكلمات النابية التي تعرفها والتي لا تعرفها بصوت يشق الصخر، لعل وعسى ينقشع بعض الغيظ والغضب عن نفسها.
وكنت أنا ولسوء حظي السيء أساساً، أشهد الحدث، يتجاذبني الذهول والخوف رغم أن أيامي لا تخلو أبداً من سخط امرأة.
كنتُ مذهولاً من السيدة الضئيلة التي قذفت بقنابل كلامية عظيمة لم أسمع لها مثيلاً، وخائف من ردة فعل جابر المحتملة: هل يضربها، أم أنه سيطلقها؟ ماذا سيفعل؟ لكن جابر لم يكن قد سمع شيئاً على الإطلاق. هكذا قالت تقاسيم وجهه البارد وهو منشغل بكيس رمادي شفاف علقه فوق جنبيته المربوطة حول خصره. قال جابر برتابة ونبرة آمرة: "إركب ياخي.."
فركبت وانطلقنا نحن الثلاثة ـ أنا وهو وابنه ـ إلى صنعاء بسيارة أقل مايقال عنها إنها كانت لعنة ذاك اليوم علينا، إلا أن هذه الحقيقة التي لا مجال للشك فيها، لم تمنع جابر من ممارسة عادته الأزلية المقيتة:
"هذي السيارة تسوى عشر سيارات من سيارات هذي الأيام ـ ثم أردف في إصرار ـ أي والله!" يخبط الطبلون.
لم أجادله، فالجدال معه حفر في الماء. اكتفيت بهز رأسي والتحديق فيه وقد إنشغل بتمجيد غصن قات يسر ناظريَه، وبدا قانعا راضيا رغم سوء يومه.
*
السيارة تبتلع الطريق ببطء مضنٍ، جابر مستمر في تمجيد أغصانه ومضغها بعناية منقطعة النظير محاولاً الإستمتاع بكل تفاصيله، ابنه في الخلف يقاوم الحمّى التي هجمت عليه قبل أن يتشاجر والداه، وأنا في الأمام أطل برأسي من خلال النافذة طمعاً في نسمة ريح باردة آمنت أنها لن تأتي بعد أن شهدتُ تربع الشمس على عرش السماء في استبدادية مطلقة.
كل شيء شبه هالك كأنه في انتظار الموت، والناس وكأنهم يساقون الى حتفهم. كل الأمور حولك تثبت ذلك ورغم ذلك، رغم ذلك كله.…ترى الناس يبتسمون. نعم يبتسمون. إبتسامات منزوعة من أعماق أعماق الوجع. لكنهم “في نعمة” ويحمدون الله فيراهم الله . لا يشتكون إلا إن أوشك أحدهم على الموت أو أصيب، فإن مات أو عاش معلولا تنهدوا الصعداء وحمدوا الله ثانية على اللطف في قضائه. والويل كل الويل لك إن جاهرت بشفقتك عليهم، فمن أنت حتى تفهم حكمة القدر، ومن هم حتى يستحقوا حياة ثانية.
حتى هذا المخلوق المنسي ـ جابر ـ الغارق في جهله وفاقته يؤمن بما يؤمنون، ولا يطمع في شيء من هذه الدنيا، وقصص المغتربين والثروات التي يحصدونها لا تهز شعرة واحدة من رأسه، أو حتى لحيته التي أكلتْ نصف وجهه. فالأرض عنده وإن كانت قاعاً صفصفاً، والسيارة اللعنة بكل عيوبها، تشكلان الثروة الأعظم.
"تصدق إن الرئيس يخزن من هذا القات؟".
يقولها منتشياً، بل في قمة نشوة وسعادة تتمايل وتتراقص على أوتار "أيوب" المنبعثة من الراديو الذي يعمل جراء معجزة ما. مازلت لا أعرف كيف تعرفت على جابر، وكيف أصبح صديقي:
• مَلي ايش من رئيس
• يجيب مؤنبا: الله المستعان! يفكر قليلا: أو انت حوثي يا أمين؟
• قلّك حوثي!
• كان انفصالي؟ صورتك انفصالي أمانة . - يضحك
• انفصالي اشتراكي جنوبي وانكشاحي حوثي زيدي …با توصلنا يا خي؟!
يضحك بشدة “أنا فدا للصورة” ويعود ليكمل سيمفونية النشاز المرحة مع أيوب.
وقد كنت أكره أيوب طارش، وفيصل علوي وفؤاد الكبسي وكل المطربين الشعبيين، إلا أنّ أغنيته وألحانه كانت مختلفة هذه المرة، رغم أنها الأغنية الرثة المحتضرة نفسها. كان لها وقع على النفس لا يمكن إنكاره:
"بالله عليك وا مُسافر لا لاقيت الحبيب بلغ سلامي إليه و قله كم با تغيب" .
رحلت بي الى أيام الماضي، إلى فتاة أعطيتها كثيراً من حبي في وقت كنتُ فيه أحوج الناس إلى الحب. فتاة كانت عبارة عن ملخّص جميل لريفنا. كنت أحبها دونما سبب واضح، وكانت تعرف أني أحبها، وكنتُ أعرف أنها تعرف، لكني لم أقل لها ذلك أبداً، لم أصارحها بحبي ...وكأنني كنت أخاف أن أبدو ضعيفا ليناً أمامها، أو أن تتلاشى تلك الهيبة الرجولية المصطنعة، فأخسر عينيها المنكسرتين أمام حضوري الذي أقسمت أنه يثير في نفسها مشاعر متناقضة لا تفهمها. وكدت أن أفضحها أمام نفسها وأقول إنه الحب، لكني قلت بغباء لم يعرفني إلا ذاك اليوم: هذا لأني ابن شيخ! واختفت بعدها، ولم تعد تراني "صدفة" خلف العيون، وعلمت لاحقاً من مصدر غير موثوقٍ به أنها تزوجت شيخ قبيلة كهل من قرية أكثر خضرة من قريتنا.
“أي حين عنزوجك؟” وكأن جابر كان يتلصص على أفكاري.
“أي حين با تزوجني؟ أونت وهابي يا جابر؟ هذه اللحية لأيش؟” أحاول أن أجاري مَكره.
يقول معاتباً “أمانة إن انت نزغة أمانة..” يسكت ثم يكمل في سهوم: “مابش ما! أنا بس خايف يقولوا ارهابي ما ندري الا وقد أمريكا تقصف *الديمة حقنا”
نضحك، وقد كان الأجدر أن نبكي.
"أبـه....أنا *ظامي!"
أتى صوته من الخلف متوسلاً، سرعان ما نهرهه جابر حتى حسبته مترقبا لهذه اللحظة: “يا ابني أسكت! حتى الماء *تشتي تشربه علينا؟”
أشفقت على الولد “يا جابر حرام عليك! الدنيا *حما! وابنك فيه حُمى، ظامي….اسقيه”
صمت جابر لبرهة وكأنه يفاوض نفسه ويحسب حسبة ما. همّ باشعال سيجارة لكنه تذكر أنه لا يدخن. لابد له أن يتأنى قليلا قبل أن يقرر فالماء مهم، خاصة وأنه يخزن القات..
فعرفت ما مر بذهنه وقلت بخبث حميد: ياخي زيادة الماء تضيع التكييفة.
فكر جابر ثم قال بخجل كمن يدفع الإهانة: “مشو على التكييفة! ياخي ضروري نوفر، مابش لا ما ولا غذا الناس ميتين جوع! لو ما يصبرش اليوم كيف عيصبر غدوه؟ مابلا يقع رجال!”
إلا أنني تحايلت عليه حتى أخذ بنصيحتي، وأعطى ولده قليلاً من الماء وكأنه ينتزع شيئاً من نفسه. وكان ذلك الموقف كفيلاً باسترجاع صورة زوجته وهي تثور على ذاك النحو الرهيب.
واستمرينا في طريقنا إلى صنعاء، وجابر ما زال منتشياً يمجد القات ساعة وساعة يهذر دونما مرمى، وأنا إلى جواره هائم بين الماضي والحاضر، بين الحرب وما قبلها، والولد في الخلف يعارك الحمى، وأيوب طارش يدندن، وماهي الا لحظات قصيرة حتى انقطع صوت أيوب، وتوقف جابر عن التمجيد والهذر، وهمد الجسد في الخلف وحاصرني الحاضر ورحل الماضي. ولم يعد ينبض سوى أنين السيارة البائسة. فتوقف جابر عن القيادة وخرج ليصلح عجلة السيارة بهدوء، دون انفعال يذكر. ربما هو الحزن وربما هو القات، لستُ أعرف.
" أبه أنا ظامي!"
كانت هذه الكلمة كفيلة باثارة زوابع الغضب داخل جابر، فقال بمنٍ وأذى:
“يا ابني أسكت..والله لو جمعت فلوس علاجك كان اني باني قصر!”
فسكت الإبن ولم يطلب بعدها، وانشغل جابر ثانية بالعجلة أو بالمكنة، وندمت أنا على مرافقتي لهم. يقول جابر بعد أن صمت قليلا وجمع بعضا من أفكاره : “ياخي انت قاري ومتعلم، ما رأيك، هذه الحرب عتتنتهي أو مه؟”.
لا أجيب ولا يعلق. لكن سؤال جابر لم يكن مجرد سؤال، كان يحاول فقط أن ينفي شكه بأن الحرب لن تنتهي. هذا ما كان يفكر به جابر طوال الوقت، ولعل علته أشد من علة ولده.
وبعد أن استمتعت الشمس بسلخ ماظهر ومابطن من جلودنا لساعتين أو ثلاث، قال جابر معلنا انتصاره الساحق: "هيا إركب يا دكتور! اركبوا!”
لم أكن دكتوراً، ولم أكن حتى على وشك "الدكترة" ..بل أن لا علاقة لي بالطب أصلاً.
وقبل أن نركب، توجه إلى ولده حاملاً الماء بطيب خاطر ليكافئه على صموده الطويل. هزه مرة. هزه مرتين، أربع، عشر…”سعيد....سعيد" وبدأ الذعر يمتد على مساحات وجهه "سعيد؟ سعيد!" حتى شعرت بقلبي يهوي.
كان الابن الصابر قد فارقنا تماماً، قد انتقل من بين الظمأ والجوع والحمى إلى العالم الآخر. ليس هنا إلا جسد يهزه جابر هزا عنيفا كمن يحاول ايقاظه من نوم ثقيل:
"سعيد مات! سعيد مات يا أمين! يا أمين ابني مات!" .
جابر مصدوم، تائه، رغم أنه عاش طوال عمره ينتظر موت ابنه المريض منذ أن ولد.
سار جابر بخطى طفل منكسر تركته أمه وحيدا، ووجد لنفسه مكاناً. قعد جابر وبكى. بكى جابر بصوت حادٍ رفيع دون دموع، وأخذ يضرب بكفيه على رأسه كما تفعل الأرامل. كان نادماً محتقراً لنفسه.
أما أنا فقد كانت صدمتي أكبر وهلعي أعظم، فلم أعد أنطق أو أتحرك وكأن لعنة ما قد أصابتني، فجمعت قواي وصرت أبحث في نفسي عن قوة أواجه بها ذاك الإحساس الشنيع بوطأة الموت، “كيف تركتنا فجأة هكذا يا سعيد..”
هامش
تشتي: تريد
يخزن: يمضغ القات
أمانة: حقا/ فعلا
حما: حرّ
ظامي: ظمآن
الديمة: المطبخ اليمني التقليدي في معظم مناطق الشمال
نزغة: حاذق أو ماكر.



* كاتبة يمنية / أميركية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى