شهادات خاصة سعود السنعوسي - كيف أصبحتُ كاتبًا؟.. شهادة روائية

* إلى عبدالسادة .. مع التحية


كلما اقتربت من الحديث عن تجربتي، بدايتها أو بدايتي، أنكمش.. أتضاءل.. حتى أكاد أختفي. تجربتي قصيرة جدا، وإن امتدت، بشكل أو بآخر، إلى ولادتي. أهرب دائما من الحديث عنها. ربما لأنني لا أملك ما يستحق الحديث حوله.. أو لأنني أخشى أن أفتح نافذة في عالمي الصغير، يخرج من خلالها الهواء القديم.. تختنق الذكريات، وتموت! أقول ربما.

ماذا عساي أن أقول؟ نشأتي؟ حياتي الخالية إلا من عائلتي؟ أم كيف أصبحت كاتبا؟ حسنا.. من سؤالي الأخير أبدأ. أصبحت كاتبا بعدما فتحت، في مراحل مختلفة من عمري، بوابات ثلاث.. بوابة الخيال.. بوابة القراءة.. بوابة الكتابة.

بوابة الخيال:

وُلدتُ في “البيت العود” بيت العائلة. بيت كبير عموده جدَّة. عمود يستند إليه الكثير من الأبناء، والكثير الكثير من الأحفاد، والكثير الكثير، الكثير من القصص والحكايات. علاقتي بجدّتي وراء كسر حواجز الواقع في مخيلتي والانطلاق إلى عوالم الخيال اللا محدودة. في حضرة جدّتي أكون.. كما أنا دائما، صغيرا.. صباحا، في الوقت الذي ينصرف فيه أفراد العائلة إلى أعمالهم.

في حضرتها تتكلم الحيوانات.. تمشي الأشجار.. تستحيل النساء إلى زواحف أو طيور الزرزور. في حضرتها وحسب كان العالم الذي أحب. استمعتُ إلى حكايات الجنيات. حملتني على بساط ريح. سقتني الماء من “البُرمَهْ”. غسلتني بماء “الحِبْ”، وأطعمتني عشبة الخلود.

في حديقة البيتِ الصغيرة، في أرجوحتي أجلس، تدفعني من الخلف، أطالبها أن تزيد قوة الدفع. تضحك.. تزيد.. تردد: “هذي زيادة”.. أجيب: “كذاب”..

– عبدالسادة..

– كذاب!
– طَلَّق مرته..
– كذاب!
– عاف عياله..
– كذاب!

نفرغ من ترديد الأغنية الشعبية. ألتفتُ إليها: جدَّتي! ما حكاية عبدالسادة؟ تخبرني بظروفه مع زوجته وأولاده. ومنذ ذلك الوقت وأنا أتوق لأن تكون لي قصتي الخاصة يرددها الناس كما يرددون قصة.. عبدالسادة!

بوابة القراءة:

لم يتوقف الأمر على هذا النحو في البدء. ففي البدء كان الكتاب، أوراق تضمها جلدة سميكة، لا أعرف القراءة بعد، قبل دخولي إلى المدرسة. أعجبت بالكتاب شكلا. شكلا وحسب، ففي الكتاب كان كل شيء، الأفكار والحلول والخيال وعوالم لا تنتهي.

لماذا تفتقت تلك الصورة في ذهني حول الكتاب وعالمه السحري وأنا لم أتعلم القراءة بعد؟ قد يبدو الأمر طريفا إن قلت، بكل جدية، إن مرد الأمر إلى بابا سنفور وسنو وايت وطائر البوم الحكيم. في أفلام الكارتون التي كنت أشاهدها صغيرا. كان بابا سنفور يحل مشكلات مملكة السنافر بالعودة إلى مكتبته. الساحرة في سنو وايت تدبر مكائدها بالرجوع إلى كتابها السحري تقرأ الطلاسم والتعويذات. وطائر البوم الحكيم لا يسدي نصيحة قبل أن يتصفح كتابا قديما يحمله تحت أحد جناحيه.

أصبحت أجمع الكتب صغيرا في “البيت العود” حيث أمضيت جل سنوات عمري. كتب المناهج المدرسية التي تحتفظ فيها أمي المعلمة. كتب أعمامي وعماتي المدرسية. نسخ من القرآن الكريم. المجلات. دليل الهاتف ودليل التلفزيون الأسبوعي وما إلى ذلك من مطبوعات ورقية. هيأتُ لي مكتبة صغيرة في صالون البيت تتكون من رفين أو ثلاثة، وأصبحت أقضي وقتا بين كتبي المكدسة/المقدسة، أبتدع المشاكل في مخيلتي الصغيرة وأبحث لها في كتبي عن حلول. أمرر أصبعي الصغيرة على السطور وأنا لا أفقه الكلمات، ولكنني أقرأ ما تمليه عليّ المخيلة.

كنتُ أتحرَّق شوقا لدخول المدرسة. ليصبح لي كتابي الخاص، مثل كتب أبناء عمومتي الذين يكبرونني. أنظر في أول صفحاته إلى جملة أسمعها ولا أتمكن من قراءتها: “مع حمد قلم”. كنت أمسك بكتبهم. أنظر إلى صورة حمدٍ وقلمه، أصبو إلى يوم أقرأه فيه. دخلت المدرسة. الصف الأول ابتدائي. أمسكت بكتاب اللغة العربية أبحث عن حمد، ولكن لا حمد ولا قلم، أصابتني وزارة التربية بخيبة تغيير المنهج، لتلقنني أول جملة لا تمتُّ للقلم بصلة: “أنا آكلُ وأشربُ لأعيش وأكبر”!

أكلتُ كثيرا.. عِشتُ طويلا.. كبرتُ. تعلمت القراءة. أدمنت قصص الأطفال من سلسلة “المكتبة الخضراء” الصادرة عن دار المعارف وسلسلة “ليدي بيرد” ذات العلامة الشهيرة بالدعسوقة المرقطة. تفتق ذهني على عوالم أتمنى استعادتها اليوم، عوالم لا تحدها حدود، سبرت أغوارها في كتب الأطفال وقصص جدتي وحكاياتها. امتلأتُ قراءة مثل شهيق طويل لا بد وأن يتبعه زفير، وكانت الكتابة زفيري. في سن صغيرة بدأت في الكتابة لي.. لأمي وأبي.. أسرتي ووطني. كتابات بسيطة؛ بل وربما ساذجة ولكنها حتما كانت.. صادقة.

بوابة الكتابة:

بدأت في الكتابة، حين وجدت أن لدي شيئا أقوله. ومع تقدّمي في العمر، خرجت من محيطي وذاتيتي في الكتابة حين تنبهت لوجود الآخر، فالحياة ليست أنا وبيت العائلة. الحياة هو.. هي.. أنتم وهُمْ.

لم أنتبه إلى وجود الآخر إلا بعدما وجدتني وحيدا متورطا بأسئلة لست أملك لها إجابات. اكتشفت أن الكتب لا تجيب على الأسئلة، ولا تقدم لنا الحلول كما أوهمني بابا سنفور وساحرة سنو وايت وطائر البوم الحكيم. إنما الكتب تثير المزيد من الأسئلة، وتحفِّز العقل حد الإرهاق للبحث عن تفسير أو يقين.

بدأت في الكتابة إلى الآخر حين عجزت عن إيجاد تفسير لـ.. لأشياء كثيرة، لربما وجدت لديه الحلول، أو.. لألقي عليه شيئا من حملي الثقيل وحسب، أو لأن لديّ ما أقوله له. تطوّر دافع الكتابة لدي، أو تغير، من الكتابة لأن لدي ما أقوله، أو للبحث عن إجابات أرهقني التفكير فيها دون جدوى، إلى الكتابة لأن هناك من يريد أن يقول، ولكنه لا يملك ما أملك من وسيلة تعبيرية، لذا ارتديته.. تقمصته.. أصبحت أنادي بصوته بعدما آمنت بعدالة قضيته.

في الكتابة، كنت أواجهني بي، بشتاتي وتناقضاتي، أتعرَّف إليَّ أكثر، أصفعني، أُفهمني وأَفهمني، أرى بوضوح، ثم يتغيَّر شيءٌ ما لا أعرفه، ولكنني أتخفف من شيءٍ.. شيء لست أدريه. لذا أصبحت أتوق لأن أكرر تجربتي، ولكن، على المتلقي، يقرأ نفسه في أوراقي، أواجهه بتناقضاته، أعرِّفه إليه إكثر، لربما أساعده على رؤية الأشياء بوضوح، ولربما استطعنا، أنا وهو، أن نغيّر بعد أن نتغيَّر.

بحثا عن الحرية

كنت أحدثكم عن الكيفية التي أحالتني كاتبا عبر المرور بالبوابات الثلاث. كيف أصبحت كاتبا. بقي السؤال الأهم، وهو لماذا أصبحت كاتبا؟

أنا أكتب بحثا عن الحرية، والحرية بمفهومي هي أن أكون أنا، وأنا.. بقدر ما أستطيع.. أحاول أن أكون. هي ليست أحجية، وإن بدت بهذه الصورة. حياتنا مجموعة لا نهائية من القيود. قيود الأعراف والقوانين والمجاملات والتخفي وراء أقنعة فرضها الواقع علينا وقبلناها حتى كدنا ننسى ملامحنا. إذن.. أنا أكتب بحثا عن حريتي. بحثا عني، لعلني أجدني ذات يوم وإن كان ذلك، مبدئيا، على الورق. ولأنني لست بمعزل عن الآخر، فحريته جزء أصيل من حريتي، أبحث عنها، من أجله ومن أجلي.

وهنا يأخذني الحديث إلى تجربتي الروائية “ساق البامبو”، حكاية المنبوذ هوزيه أو عيسى، تحررت خلالها من أشياء كثيرة، حين أصبحت هوزيه ميندوزا.. عيسى الطاروف.. أو السنعوسي بصورة أخرى.. أتلقى ردود الأفعال قبولا وتأييدا واستحسانا، أو رفضا قاطعا. أستمع إلى البعض يتساءل: حكاية من هذه؟ حكاية هوزيه أم سعود.. هل قام بتأليفها حقا أم اكتفى بترجمتها.. وأنا أمارس صمتي في.. صمت.

أتابع فضولهم في اكتشاف سرّي والبحث عن حقيقةٍ في صفحات الرواية، وإذ بهم لا يخرجون منها سوى بحقائق مؤلمة، تواجههم بهم، وهذا ما أريد. أقرأ اليوم.. أشاهد وأسمع الحديث عن “ساق البامبو” سلبا أو إيجابا، حبّا أو كراهية، تشجيعا أو…

لا ألتفت كثيرا لكل ما يقال. لا أفكر في شيء سوى أن البعض يتداول ويسأل عن حكاية هوزيه ميندوزا، أو عيسى راشد الطاروف أو حكايتي.. كما كنت صغيرا أردد وأسأل جدّتي عن حكاية:

“عبدالسادة.. طَلَّق مرته.. وعاف عياله”

دار الآثار الإسلامية – الكويت
كانون الأول (ديسمبر) – 2013

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى