محمد فيض خالد - الدَّرويش..

أنا الدرويش لا أهوى سوى اللهِ وليس لي في... - الحلاج - Al Hallaj ...

مدد.. مدد على طول المدد.. مكتوب على بابك الفرج يا عمي يا شيخ العرب.. نظرة ومددين المدد.

هذه العبارات كفيلةٌ بإخراجِ نساء القرية من بيوتهن المتواضعة في غمضةِ عينٍ، تهرع الواحدة كالمسحورةِ، فتدسّ يدها في صدرها، وتُخرج من طيّاتِ ملابسها، قطعة الفضة من فئة الخمسة صاغ، وتتقدم منشرحةَ الصّدر مطمئنة الخاطر، وفي سكينةٍ وخشوع تقترب من صاحبِ الصّوتِ، الذي توسّط الدّرب، ممسكا بين يديهِ جريدة النّخلِ اليابسة، وعليها عُلِّقت خِرق وخيوط ومسابيح من كُلّ لونٍ، ناهيك عن الأقراطِ النحاس وحلقات الحديد ، ما إن يقف صاحبنا أمام الأعتابِ، ويدّك الأرضَ بتلك الجريدة المُحمّلة بأثقالها، حتى تُحدث صلصلةً عالية، وجلبةً قوية، مصحوبة بعباراتهِ الرّنانة تلك، ومسحة وجهه الغريبة التي كساها الغموض، فلحيتهِ الطويلة المُرسَلة في فوضى. وشعر رأسه المُهدّل الذي طال حتى تبرّمت أطرافه واتسخ وتلبّد، كفيلة بأن تجمع نساء البيوت من حوله.

توحي هيئته الغامضة في نفوسِ الدُّهماء من فلاحاتِ القريةِ من أولِ مرةٍ، أن صاحبنا من أهلِ الخطوة والكرامة، مُستجاب الدعوة، بينه وبين ربهِ عمار.

تقف الواحدة منهن في خشوعٍ أمام الجريدة، تتحسس ما اشتملت عليه في تضرع، ثم تبدأ تتمتم بفاتحةِ الكتاب، تُرسل من بعدها توسلاتها المُبكية، للأقطاب والأسيادِ أصحاب الغوث والمدد: بركاتك يا طاهرة يا أم هاشم.. ستنا نفيسة يا رئيسة الديوان.. نظرة يا شيخ العرب تكفي.

ثم تمسح وجهها المُبلّل بدموعها بالخرقِ الرّثة المُدّلاة من الجريدةِ.

ينتظر مقدم الدرويش في العادة جمهوره ومريديه، من أصحابِ الحوائج الذين قلّت حيلتهم، فمنهم المريض الذي عجزَ عنه دواء الطبيب، والقعيد الذي حملوه فطافوا به أعتاب الأولياء الصالحين بلا فائدة، والعانس التي فاتها قطار الزواج، فبقيت في بيتِ أبيها تتلوى في حبال حسرتها، و تصطلي بنيران كمدها حتى ذبلت، وضاق بها من في البيتِ ولا حيلةَ معها إلا بركات سيدنا الدرويش المبروك.

في مراتٍ كثيرة لا يكفى مسح الجريدة ولا تعفير الوجوه بخرِقها، بل يتجلى مولانا فيضع يده الشريفة فوق رأس الحالة، عندها تأخذه الجلالة، ويستولي عليه الفيض الرباني، وينتفض ويهذي بكلامٍ غير مفهوم، يهتز معها كالمحمومِ، يُقلِّب بياض عينيه في السّماءِ، ثم يهوي عندها بيده بعد أن جمع قبضته، ويضرب من فوق صدرها، ويقول: روحي يا بت.. مصلحتك مقضية.. وعينك مرضية.. عقدك محلولة ببركة الأوليا.

على الفورِ تُقبّل يده، وتدخل يدها في كيسهِ المُعلّق في رقبتهِ، وتترك له المعلوم.

اعتمد الدرويش بعد أن ضعف بصره، وذهبت صحته على شابٍ فقير، عطف عليه وضمّه إليه، بعد أن انقطعت به السبّل عقب موت أبيه، تزوّجت والدته فألقاه زوجها الجديد في الشارع ليصارع المجهول، التقطه مولانا واستخلصه لنفسهِ، فأصبحَ من ساعتها مساعده وذراعه الأيمن، يمسك بلجامِ الحمار ويسير أمامه، يتلقى ما تجود به يد القوم من نُذورَ وهبات متنوعة، تكون في أغلبها إما من ( أكوازِ) الذرة، والقمح والحلبة، أو الثوم والبصل والتمر اليابس، أو حتى البيض، وبعد الانتهاء من تطوافه، يحمل سيده فيُركبه ظهر حمارهِ، ثم يسير إلى جانبه وفي ذراعه (سبت) البيض، حتى يصل البيت.

ظلّ أهل القرى في الزّمامِ يعتقدوا الصلاح في الدرويش العجوز، يروا في رقيته الشفاء، وفي أحجبته وبخوره البركة، وفي أكياس التراب التي أوهمهم أنهّا كُناسة قبر النبي محمد صلى الله عليه وسلم عِلاجا لكُلّ داء، حتى في ضربةِ يده فوقَ صدورهم مُفرِّجة لما استعصى من المشاكلِ ، وفي جريدته بخرقها المتّسخة وخيوطها المتشابكة، وحلقاتها الصدئة حرزا للنجاةِ لهم ولأولادهم.

أصبح صاحبنا عندهم الواسطة والطريق، الذي لابد وأن يمرّ عليه أصحاب الحاجات، تراهم وهم يرددوا في ثقة: دا سره باتع..

فعلاقته بالأولياء والأسياد، ورجال الله موصوله المدد.

تعود الفتى الشاب أن يرى من حولهِ ما استفز فيهِ شهوة الشّباب، وهيّج معه مكامن الفتوة منه، وهو يُشاهد الدرويش العجوز يمدّ يده فيتحسّس رقاب الحسناوات، ويُخلل بأصابعهِ اليابسة شعور الفاتنات ساعة يدهنه بزيتٍ خبأّه في زجاجةٍ سوداء، أوهمهم أنها من زيت قنديل أم هاشم.

يترك صاحبنا محله، ويقترب خِلسةً كالكلب الجائع، يُطالِع ما يجري بين سيده والنسوة، وقد دلَق لسانه، وسَالَ لعابه، واضطرب قلبه، وتحرّكت فيهِ نوازع الشباب وغريزة البهائم؛ فلا يرده إلى صوابهِ إلا صوت الدرويش بعد أن أحسّ به: عود مكانك.. والزم حدودك.. يا إنسان الرب ساتر والقدر مكتوب.. حي.

يرجع مكانه خائبا، يُبرطم بكلامٍ، يلعنه فيه ويلعن أيامه، كم تمنى _ ساعتئذ ٍ_هلاكه أن يغمض عينيه ويفتحهما فلا يراه، لكنّه يؤوب سريعا إلى رشده ؛ ويستغفر لذنبهِ، فهذا الدرويش المسخ، هو من كفله وفتح له بيته وآواه، ونجّاه من الضياع، أو المبيت مع كلاب السِّكك، ولابد أن يكافئ معروفه.

ها هي الأيام تمرّ؛ لكنها تبخل عليه وتضن أن يهنأ بالحياةِ، استكثرت على بطنه أن يشبع بالعيشِ.

تردّت حالة الدرويش، تنكّبته العلل وتنتاوشته الأوجاع. تسوء صحته يوما بعد يوم، لم يعد يقوى على القيام ولا الحركة، نظر للعجوزِ والدّمع ينهمرُ من عينيه، بعد أن أشفق على نفسهِ من مصيرها المجهول، استغرق في تفكيرٍ عميق وهو يُقلِّب الأمرَ ويعيد حساباته، ماذا أمامه لو مات العجوز؟ كيف سيجد اللقمة يسدّ بها جوعه؟

نظر إليه المريض المُسجّى في ثياب موته، وقال مشفقا: يا بركات يا ابني.. أنا عندي عيله.. عيال ومره في بلد بعيد.. وحالي ومحتالي بعته لهم.

انتفض عندها من هول المفاجأة التي لم تخطر له على بال. مرر يده فوق جبهته، وقال منزعجا: طيب وأنا يا مولانا.. هتسيبني لمين بعدك..؟

تهلّل وجه العجوز وهو يغالب أوجاعه، وقال: سبت لك اللي هو أحسن من الفلوس يا عبيط..

عاود البشِر وجه الفتى ثانية، وإن كان لا يزال في اضطرابه. ابتلع ريقه، أقبل على العجوزِ متسائلا: إيه دا يا مولانا؟

أشار الرجل بيدهِ ناحية الجريدة التي أسندها بزاويةِ الغرفة، وقال: دي عِدة الشغل.. دي إللي هتأكلك الشهد.

عاوده الانزعاج ثانية، صرخَ بصوتٍ مكلوم: دي.. ودي هاعمل بيها إيه..؟!

نهنه العجوز نهنهةً ضعيفة، وردّ عليهِ بتهالك: يا عبيط.. دي إللي هتفتح لك السكك المقفولة.. انت عارف إني ورثتها من سيدنا الشيخ جعفر الأعور.

وبعد أيامٍ ودّع الدرويش الحياة، لم يجد بركات بدا، إلا أن يستمع لنصيحةِ الرجل، فيمضي في طريقه. أمسك بالجريدةِ يهزها في غبطةٍ، بعد أن ألقى على جسدهِ شملة قديمة للدّرويشِ. سرح بحمارهِ بين القرى والنجوع. وهو يردد: مدد.. مدد على طول المدد.. مدد يا أهل البركات.. يا أهل الله مدد.

استغرب الناس لمرآه، وعلى الفورِ تساءلوا عن خبر سيده.. أخبرهم وهو يبكي بحرقة أن الرجل قد مات، بعد أن أوكل إليهِ مهام الطريق من بعدهِ،وأخذ عليه العهد.

عاد الناس إلى سيرتهم الأولى، يلتمسون البركة من الجريدة، ومن تُرابِ زجاجات الدَّرويش الشاب وزيته؛ لكن صاحبنا عادت إليه نزغات شيطانه القديمة، والتي طالما كبتها وتحاشى غوايتها. لم يستطع مقاومتها وهو يرى من حولهِ تكالب الفتيات الحِسان، والنساء الفاتنات يلثمن الجريدة بشفاههن التي تنطق بالفتنة، ويعفرن وجوههن الوضاءة بخرقها.

نسي نفسه ذات مرة. وإنقادا لشهوته، متغافلا عن هيئتهِ الجديدة، وفي ساعةٍ غابَ فيها عقله، مدّ يده وتحسسّ جسد فتاةٍ ناهد.. صرخت عندها لفظاعةِ المنظر.. لم تصدق ما أقدم عليهِ الدرويش صاحب الأفضال، قالت بعلوِ الصّوت: يا راجل يا ناقص إيه إللي عملته دا..

وفي لمح البصر، تجمّع النسوة من حولهِ، ليوسعوه ضربا، وقبل أن يتكالب رجال القرية عليه، انشقت الأرض فظهرَ من ينجده، شابٌ من وجهاء المكان ، حجّز بينه وبين الجموع الغاضبة، فلولاه لأصبح عبرة و لمن خلفهِ آية.

اصطحبه إلى دارهِ، وهناك قدّم له الطعام، وأوسع له في الترحابِ، ، نظرَ إليهِ في ثقة، وقال: مش عيب يا سيدنا الشيخ إللي يجرى منك؟

جاوبه مضطربا: والله كذب وافت....

وقبل أن يكمل، باغته بضحكةٍ مجلجلةٍ، ثم حدّق في عينيهِ ،قائلا: بالنص..

بُهِت صاحبنا، بعد أن ألقى اللّقمةَ من يدهِ، وقال فزِعا: إيه هو إللي بالنص يا سيدنا؟!

جاوبه صاحبه وهو يشعل سيجارة ويضعها في فمهِ: من الوقت ورايح، انت اسمك الشيخ درديري مجذوب من أهل الله، هاعمل لك عمة كبيرة، وافصل لك جلابية خضرا.. وتلبس (بلغة) صفرا.. وتسرح في ناحيةٍ تانية.. واللي يرزقك بيه الكريم بالنص.. قلت إيه؟

تناول بركات اللّقمة ثانيةً، ودسّها في فمه، وهو يردد: وما له.. بالنص بالنص..

وغاب الاثنان بعدها في ضحكٍ طويل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى