إبراهيم محمود - الجسد النّسوي بوصفه فرْجاً

لطالما تخيلت مداخل الجنة " الإسلامية"، من خلال أدبياتها المتعوية، كما سُطّرت من قبل كتّابها الفقهاء وخلافهم، أمثال القرطبي، ابن قيم الجوزية، والسيوطي، وهي عالية وجليَّة بمساحاتها اللافتة للنظر، وهي مزدانة بنسائها " حور عينها بالتأكيد" وهن بأجسادهن على هيئة فروج غاية في الإثارة، ورجال جنتيّين، وهم يُبرزون ذكرانها المنتصبة بالمقابل!

أتحدث هنا عن تجربة قراءة موسَّعة لما كتِب عن الرجال تاريخاً ونصوصاً فقهية وحتى في نطاق ما يُنشَر اليوم - بالذات- وحتى من قبل نسبة هائلة من النساء في نطاق الأدب: الروائي، الشعري، القصصي، وتنظيرات فكرية...الخ، من زاوية " تحررية"، وما يترتب على ذلك، من وجهة نظري طبعاً، عن مدى وقوع المرأة في فخ أهواء الرجل الفحولية.

لقد أعياني النظر، جرّاء تحرّيات واستقصاءات مختلفة، وأنا أحاول العثور على جسد المرأة، كما تكون المرأة، باعتبارها جسداً إنسانياً، وأن الفرج الذي يشكّل- أساساً- قاسماً مشتركاً بينها وبين الرجل، يأتي لغرض وظيفي" إنسالي " وأن المتعة أو اللذة المتداخلة معها، التي تنسَّب فرجوياً، للأسف، ليس أكثر من عضو منتم ٍ إلى جغرافية الجسد عموماً، وليس إيجازاً له خصوصاً، وأن تساق اللذة أو المتعة في نطاق الممر الفرجوي، لا يعدو ذلك أن تكون تعبيراً مرعباً عن الوهم الكبير، المزمن والمدن الذي " أصيب " به الرجل تاريخياً، وأُلحِقت به المرأة.

هل من مكاشفة أوضح دلالة وإحالة نصية وواقعية في هذا المضمار؟

أرى أن لا أكثر ولا أيسر من ذلك !

في مجمل الأدبيات التي يتم فيها وصف المرأة، من منظور جسدي، تكون الجنسانية في رأس اللائحة الوصفية. هنا لا نكون إزاء متعة/ لذة النص، بتعبير بيو-إيروسي، لبارت، وإنما نص المتعة/ اللذة المعروضة، إنه سطح النسيج " تذكيراً بمفهوم النص أجنبياً " texte"، وليس العمق العميق والمركَّب. ذلك ما تعلِمنا به لغة الرجل كتابةً كشاهدة عيان بليغة، لغة الرجل التي تتحدثها المرأة بالذات لأنها مقوعدة قضيبية مشرعنة، باسمه ومتعالية، لا ينبغي لمسها، حيث المنشود والمرغوب من وراء هذه اللغة القائمة، كيفية بلوغ المرام : لقاء الفرْج متعوياً، الفرْج الذي هو هبَة مرسومة دينياً، ولا زال هذا المرسوم ساري المفعول، للرجل، باسمه، عنه، منه، إليه كذلك، وكأني بهذه النصوص الضخمة، في تنوع موادها، في اختلاف مشاربها ومساربها ومذاهبها، وهي صراعية بالمقابل، ذات خميرة " فرجوية" : كيفية تزكية جسد المرأة، الذي هو جسم هنا، فرجاً لا يُخلَص من " أمره" وهي عقدة الرجل: الذكَر المأهول بالفحولة الممتدة به إلى ما وراء الغيب " يموت وفي روحه حسرة من الفرج الذي يتملك عليه خياله وتفكيره"، وهو يجد نفسه دون القوة المتصوَّرة والمرغوبة مقابل الجسد: الجسم الفرْج الذي " لا يُهزَم" بما أنه، وامتداداً لديمومة خياله المرضي المستفحل فيه وكتاباته، يتراءى متحدياً له!

هناك ما هو خطير، كما أزعم، يترجم هذه العلاقة اليومية بالذات: وراء الثياب المصمَّمة، وعروضها الجسدية أساساً، وراء الأطعمة المركَّبة، وراء الأشربة ذات الصلة، يتسلل عنصر وحيد، في كل مشاهدة، مكاشفة تذوقية، إلى الذاكرة المجنسة فحولياً لدى الرجل: كيفية إثارته، إيقاظ شبقه وبلوغه النعظ من خلال: الفرج المنتظَر !

في مثال، ربما يصدم وعي المتحفظ على " تسريبات " أمثولية من هذا النوع، وطرحها في واجهة القول، يخص المعتبَرة " البغي، العاهرة، بائعة الهوى "، وما يعايَن في مشاهد " بورنوية " وما أكثرها، كثيراً ما يشار إلى مدى وقاحة المرأة من النوع المذكور، إلى صفاقتها، باختصار، إلى نزعها لكل صيغ الحياة، وهي تكشف عن فرجها، وهي تستعرضه، أي وهي تري الرجل: الذكَر المقبل عليها من خلاله، وليس العكس، كما لو أنها تقول له: هي ذي أنا، أرني فحولتك!؟

وحيدة بمفردها، تستطيع امرأة من هذا القبيل أن تنزع عنها ملابسها، أن تخلعها، أن تتجرد من كلا شيء، وتستدير من الجهات كافة، كما لو أنها مخلوق دائري، فقط للوصول إلى قطبها، إلى مركز الدائرة، ما يتمحور كامل كيانها العضوي: الجسمي حوله: فرجها.

ما يصل بالمرأة إلى نقطة التجرد من كل شيء، يتمثّل في تلك " البؤرة " التوترية، المثيرة، المقلقة للرجل إجمالاً، هو في لحظة بلوغها من خلال فرجها. ما أن يتم التمكن منه، لا تعود المرأة أكثر من كونها فرجاً مجسَّماً، وعياً فرجوياً، مقاماً فرجوياً، مشهداً مثبتاً: فرجوياً، معايشة فرجوية. ذلك ما تقوله التجربة العيانية. تقاوم المرأة قدْر استطاعتها، وهي بذلك تترجم سلوكية تاريخية مرعبة: كيفية الحفاظ على شخصيتها، على ذاتها، على أنها جسد كامل، وحين تُقهَر، حين يُنال منها، حين تُنتهَك " الخرْق، الهتْك، الوطء، مقولات متوارثة لها تاريخ طويل في ذلك "، لا تعود تبذل أي مقاومة تذكَر، طالما أن " دفاعاتها " قد ذُلّلت، أن الآخر: الرجل، الذي نال منها، أو حتى في علاقة " شرعية " مع الزمن، لا تعود تعبأ بمفهوم " الحشمة ": عن أي حشمة، وقد " اُخترقت "، أو انكشف فيها، ما تعرَف به، أو ما تم بلوغه في علاقة " شرعية "؟ حيث إن فعل المواقعة: إكراهاً، أو قسراً، أو بعد ممانعة، يعني نوعاً من الاستيلاء المطلق، نوعاً من تجريد المرأة هنا من كل اعتبار يخص شخصيتها، ومن خلال تصورات ثقافية ، تاريخية، ودينية قائمة.

في الأدبيات الفنية " الغربية " ما أكثر اللوحات الفنية التي تظهِر أجساداً نسوية، وهي تفيض أنوثة. إنها تثير في المشاهد " السوي " خيالات جمة، لا تخلو من إثارة جنسية، لكنها لن تكون الوحيدة، المعمَّمة، وإنما ما يرفع من شأن المرئي، حيث يقول الفن " هناك " كلمته. عرْي مرسوم، يمنح الجسد الفني بعداً ماورائياً يدفع بالناظر إلى التمتع بما هو أبعد من المرئي، كما لو أن الإيروس نفسه يتعلم متعة المعايشة البصرية بعيداً عن وساطة فاليكية " قضيبية "، وما في ذلك من تهذيب للجسد المكاشِف والمكشوف نفسه، كما لو أن العري لباس بالغ الفتنة، لكنها فتنة توسّع في المدارك النفسية.

بهذا الصدد، أسمّي ما ليس هامشاً هنا: حتى الآن، ورغم مئات المفردات التي تحمل دلالات جنسانية عما يميّز الرجل والمرأة، لا توجد مفردة واحدة، ولا مفردة، في قاموس اللغة العربية إطلاقاً، رغم الثراء الهائل في بنية المفردات هذه " كما تابعتها في كتابي: الشبق المحرَّم: أنطولوجيا النصوص الممنوعة، بيروت، ط1، 2002، القاهرة، ط2، 2016 " تسمّي عضو الرجل الذكَري، أو عضو المرأة الأنثوي، كما نقول " اليد- القدَم.."، فجمهرة المفردات تلك، وكما تحفل بها القواميس اللغوية العربية " لسان العرب، نموذجاً " هي أوصاف هيئات وحالات، وما في ذلك من دلالة لغوية، أبعد من كونها لغوية في التقدير الثقافي الرمزي!

أن يكون الجسد المعرى مأثرة فنية، عتبة كشف واكتشاف، لم يبلغها المأخوذ بالذكورة الفحلية" المستفحلة، طالما أن هناك جنساً يتمثل في اعتبار فرجي، يصل ما بين الدنيا والآخرة، وأنه بمقدار ما يجري الحديث عن الحياء، والشرف الذي يُسمى من جهة الرجل، وينظَر إلى المرأة جسداً معلقاً ببؤرة محددة: الفرج، يكون الفن مؤجلاً دون وعد معلوم.

في الأدبيات العربية الحديثة والمعاصرة، وفي الرواية بالذات، تنافساً مع كتابات مختلفة، وفي الواجهة: الشعر، تسلل هذا النوع " الفرجي " والذي تعلِن فيه المرأة عن وعي تحرري، وهي لا تدَّخر جهداً في سرد مشاهد، أو طرح مشاهد من هذا القبيل: عبارات تفيض بأوصاف إيروسية، دالة على أن الكاتبة هذه: في شعرها ونثرها، لم تعد في خوف على نفسها، إنما تضاهي الرجل في اللغة الواصفة، الكاشفة، السافرة عما كان يعتبَر " لا مفكَّر فيه " حتى الأمس القريب.

يا للفخ الكبير الذي أوقعت المرأة نفسها" كلّية " جسدها فيه مجدداً، وهي تظهِر عروضاً إيروسية: فرجوية، متحدية الرجل وهو متنشط، ومتحرك بجانب ذكورته: هأنتذا، وهأنذا، لنر من يقهر الآخر! ربما هكذا تتم الترجمة الصراعية المزعومة!

واقعاً، جرى، ويجري ابتذال المرأة أكثر من ذي قبل، في بنية المستجدات القائمة، فقيمومة الذكورة سافرة، لا يمكن التنكر لوجودها وطابعها المسيطِر " السيادي " بأكثر من معنى.

للرجل هذا وهو في تعميمية نوعه، على أكثر من صعيد، دور تاريخي في ذلك: أن يكون ذكراً، أعني به ذكورة، فحولة، وأن يكون " مسخرة " جسد متمثل في عضو يتقدمه وهو يشغل عليه تفكيره، وأن يكون جسد المرأة، كما علَّمته نصوص مشرعنة، مصاغاً فرجوياً، وهو يملأ عليه وعيه النفسي، ويشغل قواه النفسية، وما يحيط جسد تلك، أو ما يحاط به من ملابسات " شرانية " مصوَّرة " ألم تصوَّر المرأة في هيئة شيطان دينياً ؟ " وهو تصوير تليد غيبي. أوليست مباشرة المرأة تتم في العُرف الديني، وفي أدبيات النكاح الإسلامية " بالعوذلة والبسملة "، كما لو أن هذا التوأم الإلهي المتردَّد رقْية ذكورية، تعويذة مصمَّمة في لوح محفوظ، خشية أن يكون جسد المرأة الفرجوي تلخيصا أُكالاً " كانيبالاً أنثوي الطابع ضارياً، نهماً " مفترساً " مشتهياً بنوع من العدوى المؤبدة ثقافياً، التهام قضيب الرجل: علامة وجوده هنا وهناك".

تتحرك المرأة حتى الآن على عتبة الثقافة العليا، الأكثر نخبوية، الأكثر تعبيراً عما هو فني: رسماً، غناء، أدباً ومزاعِم فكر، عتبة محرَّرة باسم الرجل، في ظل سلطة ذكورية، وما أشير إليه، يفصح عن وهمها الكبير، وهي تتخيل نفسها امرأة لها سلطانها الروحي، وسلطتها الرمزية المميّزة لكينونتها. إنما هل فكَّرت في المستجدات من حولها، وأمعنت النظر في بنيتها، ورؤية موقعها في كل ذلك، وما إذا كانت بلغت جسدها الإنساني، ولم تعد مجرَّد " فرج " ليس إلا؟!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى