حازم خيري - مشكلة الموت في الثقافة العربية.. ( 2 )

"فكرة أن الحياة ليست شيئاً دائماً
ساعدتني على تنوير ذهني،
إننا لسنا سجناء إلى الأبد
خلف سياج الحقائق المُتحجرة!"
طاغور


في دراسته لـ "مشكلة الموت"، خلص العملاق بدوي إلى النتائج التالية:
• الموت إشكالية، من الناحية الوجودية، ومن ناحية المعرفة.
• يكون الموت مشكلة حينما يشعر الإنسان أي إنسان شعوراً قوياً واضحاً بإشكال الموت، وحينما يحيا هذا الإشكال في نفسه بطريقة عميقة، وحينما ينظر إلى الموت كما هو ومن حيث إشكاليته هذه. ويحاول أن ينفذ إلى معناه من حيث ذاته المستقلة. يقتضي هذا كله أشياء من الناحية الذاتية (الحرية/الشخصية/الخطيئة)، وكذلك من الناحية الموضوعية.
• ثمة حاجة لإقامة مذهب فلسفي عام على أساس مشكلة الموت، ينقسم إلى الأقسام التقليدية للفلسفة، فيتناول: 1 الناحية الفلسفية بعنوان "ظاهريات الموت". 2 الناحية التقويمية بعنوان" تقويمية الموت". 3 الناحية الإلهية بعنوان "إلهيات الموت". 4 الناحية الوجودية بعنوان "وجوديات الموت".
نتائج عديدة ومهمة لدراسة بدوي، ملت إنتظار من يحرص على تثمينها!
بالنسبة لي، أكتفي هنا بتطبيق بعض مقولات دراسة بدوي على مجتمعاتنا، بغية التعرف على مدى قوة ووضوح شعورها بإشكال الموت، وهل يحيا هذا الإشكال في نفوس أبنائها بطريقة عميقة، وهل ينظرون إلى الموت كما هو ومن حيث إشكاليته هذه. وهل يحاولون النفاذ إلى معنى الموت من حيث ذاته المستقلة.
من مقولات دراسة بدوي انه كلما كان الشعور بالشخصية أقوى وأوضح، كان الانسان أقدر على إدراك الموت! وكل إضعاف للشخصية يُشوه حقيقة الموت!
تخلف شعوبنا وضعف شخصيتها، لابد إذن وأن يُشوه ادراكها للموت!
فكرة الشخصية تقتضي بدورها فكرة الحرية، فلا شخصية حيث لا حرية، ولا حرية حيث لا شخصية. وذلك من ناحيتين: 1 أنه لا وجود للشخصية إذن إلا مع الحرية. 2 أن الحرية هي الاختيار، ولا اختيار إلا بالنسبة إلى شخصية تميز. من هذا الارتباط بين الموت والحرية، نستطيع أن نستنتج أن كل المجتمعات، ومنها مجتمعاتنا المتخلفة، التي تكتفي شعوبها بالحرية الموضوعية، دون الذاتية، لم يكن حظها أن تُدرك مشكلة الموت على نحو حقيقي غير مشوه.
في مقالتي الأخيرة(9): "أبطال عظماء أم باعة لصكوك الحرية"، أوضحت كيف أن الانسان الشرقي عموماً، والانسان العربي على وجه الخصوص، ينظر إلى الأوامر والقوانين على أنها شيء ثابت مُحدد ومُجرد، يخضع له في عبودية مطلقة، وأنه لا يتعين أن تلبي هذه القوانين أمانيه، وبالتالي فإن المواطنين يكونون للأسف أشبه بالأطفال الذين يُطيعون آباءهم بغير إرادتهم أو بصيرتهم الخاصة!
الحرية عندنا موضوعية لا ذاتية! الدولة هي الحياة الروحية الكلية التي يرتبط معها الأفراد بمولدهم بعلاقة ثقة ويعتادونها ويتمثل وجودهم وواقعهم الحقيقي فيها. العربي يفتقر إلى البصيرة، والإرادة، والشخصية. إنه يفتقر إلى الحرية الذاتية، التي لا تتحقق إلا في الفرد، ولا تتجسد إلا في وعيه بحرية عقله وقلبه. إنه حر بقدر ما يُسمح له، ولا يجرؤ على الدخول المُنفرد لملكوت الحرية.
مجتمعاتنا المتخلفة لا تعرف من الحرية إلا حرية الحاكم، أي حرية القوى الحاكمة! أبناء أمتنا لديهم قناعة راسخة انه انما ينهض بالأمة مستبد عادل، يتمتع هو وحده بالحرية الذاتية، بينما يُسمح لبقية أفراد المجتمع بالحرية الموضوعية.
الحالمون بالمُستبد العادل يفتقرون دوماً إلى البصيرة والإرادة والشخصية وينفرون ممن يسعى لاضاءة عقولهم وقلوبهم بمصابيح الحرية. الحالمون بالمستبد العادل/البطل المُخلص في أوطاننا لا يدخلون، بل لا يجرؤن حتى على مجرد التفكير في دخول ملكوت الحرية، دون اذن! البطل العربي بائع لصكوك الحرية!
فهم مُخنث كهذا للبطولة والحرية لابد وأن يقترن بادراك مشوه للموت!
الحرية هي القدرة على فعل الخير والشر بالنسبة إلى الإنسان الفرد. بمعنى آخر، لابد للحرية أن تكون قدرة على فعل الشر وإلا فإنها لن تكون حينئذ حرية.
من هنا جاء الارتباط الوثيق بين الحرية وبين الخطيئة: فحيث لا توجد الخطيئة لا توجد الحرية، وحيث توجد الحرية توجد الخطيئة بالضرورة. وعن طريق هذا الارتباط بين الحرية والموت من جهة، وبين الحرية والخطيئة من جهة أخرى، كان الارتباط بين الخطيئة وبين الموت. والارتباط بين الخطيئة وبين الموت قد بلغ أول درجة عليا من درجات التعبير عنه في المسيحية، وصُور أصرح تصوير في عبارة القديس بولس: "بواسطة إنسان نفذت الخطيئة إلى العالم، وعن طريق الخطيئة نفذ الموت". فهذه العبارة تدلنا على أن المسيحية نظرت إلى الموت على أساس أن مصدره الخطيئة، أى أنها أدركت منذ ابتدائها ما هنالك من صلة وثيقة جداً، هي هنا صلة العلة بالمعلول، بين الموت وبين الخطيئة.
هي أيضاً قد ربطت بينهما عن طريق فكرة الحرية الفردية، خصوصاً إذا لاحظنا أن الحرية الفردية وبحسب دراسة بدوي تحتل مقاماً عالياً في الفكر المسيحي، ومصدر هذا ارتباط الحرية بالخطيئة: فإذا كانت فكرة الخطيئة تلعب الدور الأكبر في الحياة الروحية المسيحية، كان لابد إذاً من القول بالحرية الفردية بل وتوكيدها، ما دامت هي مصدر الخطيئة. وهكذا نرى أن الناحية الذاتية كان من شأنها أن تهيئ للمسيحية أن تضع مشكلة الموت وضعاً حقيقياً، إن توافرت الناحية الموضوعية إلى جانب الناحية الذاتية، ونعني بها الشخصية، والحرية، والموت.
قارئي الكريم، لن أتطرق هنا للعلاقة بين الخطيئة والموت في ثقاقتنا العربية، لأنه ومقارنة بالمجتمعات الغربية مثلاً ثمة غموض نسبي يكتنف هذه العلاقة، يزيد من حدته إحجام "فلاسفة الضرار" عن تعهده بالبحث الفلسفي!
قلنا سلفاً إن الانسان في مجتمعاتنا المتخلفة يفتقر إلى البصيرة، والإرادة، والشخصية. قلنا أيضاً إنه يفتقر إلى الحرية الذاتية، التي لا تتحقق إلا في الفرد، ولا تتجسد إلا في وعيه بحرية عقله وقلبه. إنه حر بقدر ما يُسمح له، ولا يجرؤ على الدخول المُنفرد لملكوت الحرية. إنه في انتظار أبدي لباعة صكوك الحرية!
وهكذا، ومادامت الحرية الذاتية، والتى هي مصدر الخطيئة أو هي القدرة على فعل الخير والشر بالنسبة إلى الإنسان الفرد، مهيضة الجناح في ثقافتنا العربية إلى هذا الحد المُتطرف، فلابد إذن وأن يتشح إدراك مجتمعاتنا للموت بالتشوه! صفوة القول ان ضعف الناحية الذاتية في ثقافتنا، وأعني بها الشخصية والحرية والخطيئة، ينال بشدة من قدرتنا على وضع مشكلة الموت وضعاً حقيقياً!
من مقولات دراسة بدوي أيضاً ما يتعلق بالناحية الموضوعية: انه لكي تكون النظرة إلى الموت صحيحة، يجب أولاً أن تجعل الموت جزءا من الحياة، وإلا فلن يكون له مكان داخل نظرة الانسان إلى الوجود، وإنما سيكون شيئاً عرضياً يمكن إغفاله! ويجب ثانياً ألا تجعل الموت مُضاداً للحياة، على نحو ما تفعل المسيحية!
ثقافتنا العربية وكما هو واضح استطاعت أن تضع الموت وضعاً حقيقياً من حيث أنه مشكلة فحسب. القرآن يقول(10): "كل نقس ذائقة الموت".
ثقافتنا العربية نفسها، حينما أرادت أن تُعرف هذا الموت من حيث ماهيته اتسمت نظرتها للموت بتشوه مُرعب، يجد المرء اثاره في كل زاوية من حياتنا!
ولمن لا يستسيغ كثيراً زعمنا بوجود ارتباط وثيق بين انحطاط مجتمعاتنا العربية وبين تشوه نظرتها للموت، أقول: ليست الفكرة مجرد معنى ذهني، ولكنها تحتوي في ذاتها على قوة دينامية قادرة على أن تحرك الأفراد، والشعوب، وتدفعهم إلى الاتجاه لتحقيق غايات بعينها، وخلق الأنظمة التى تساعد على ذلك.
أنظر إلى مجتمعاتنا العربية مثلاً، تجد هرماً من الأفكار الحاكمة وفي مقدمتها نظرتنا للموت ، يُتهم في شرفه وكرامته من يتصدى لنقده وتطويره، كونه مُحاطاً بسياج مُخيف من الاجلال والتوقير، رغم تأثيره الشديد على حياة أمتنا وصياغة مستقبلها، وتحديد علائقها الاجتماعية. والسؤال الذى يفرض نفسه: هل من الحكمة أن تُترك هذه الأفكار الحاكمة ليبثها فينا من يشاء ويُبلورها في ضمائرنا من يشاء؟ أم أن الحكمة أن يُخلى بين مُحبي الحقيقة عندنا، وبين هذه الأفكار(التى يمتزج فيها الشعور باللاشعور وما هو غيبي بما هو واقع..الخ).
مواطن التشوه في النظرة العربية للموت:
إنه لأمر طبيعي أن ترسخ في وجدان كل فرد نظرة الموت العامة السائدة في مجتمعه. فإذا ما طبق الفرد هذه النظرة السائدة على زواله شخصياً، لاعتنق كإنسان وجهة النظر عينها. وهذا ما يفعله غالبية الناس بنجاح، إذ أن أول ما يقابلون هي النظرة العامة مصحوبة بأوسع ما يمكن من القوة والسلطان والهيبة.
ما يحدث هو أن الجميع فيما عدا الشخص نفسه يستطيعون التفكير في موته على أنه موت شخص آخر غيرهم. أما بالنسبة للميت، فإن موته شخصياً إن هو إلا خبرة خاصة به وحده لا يستطيع المجتمع أن يتدخل أو يشترك فيها، وعلى هذا يعجز عند إصدار حكمه عليها. الجهد الفلسفي حتمي إذن لتوضيح أن الانسان إنما يموت وحده، في خلوة وانفراد. وكذا تعرية مواطن التشوه في نظرة المجتمعات للموت. من هنا، أحرص في هذه الجزئية على تعرية أبرز مواطن التشوه في نظرة مجتمعاتنا العربية المتخلفة للموت، على أمل الاسهام في محوها.
• خلف باب الموت الموصد إله قاس كاره للحرية والأحرار!
الديانة الإسلامية وهي الآن الأكثر انتشاراً بين العرب تبدو بسيطة واضحة في الركن الأول من أركانها، وهو شهادة أن لا إله إلا الله. ومعنى هذا في الاسلام هو أن الله وحده هو الاله الحق دون سائر الآلهة التى كان يعبدها أهل مكة. شهادة لا إله إلا الله لم تتعرض لماهية الله، وإنما تعرضت فقط لبيان مقامه.
وعلى هذا فلفظ الجلالة "الله" كان ولا يزال اسم العلم الذى يُطلق على الخالق عند المسلمين. وهو يقابل بحسب ماكدونالد كلمة "يهوه" Yahwe عند اليهود، لا كلمة "إلوهيم" Elohim. وليس لكلمة "الله" جمع، وإذا أراد المسلمون الكلام عن الآلهة بالجمع فإنهم يلجئون إلى جمع كلمة "إله"، وهي إسم جنس يُرجح ماكدونالد أن كلمة الله اشتقت منه. القرآن الكريم يستعمل هذا الجمع عند كلامه عن الآلهة الأخرى، التى كان أهل مكة يشركونها مع الله (سورة الأنعام، الآية 19). وقد حذا المسلمون حذو كتابهم المقدس في ذلك، ولو أنهم فيما يبدو آثروا أن يُطلقوا على تلك الآلهة اسم الأصنام أو الأوثان تمييزاً لها.
على أنه وإن كان اسم "الله" واحداً عند أهل مكة وعند النبي محمد كما ذكرت تواً ، فإن تصورهم لحقيقة الله لابد وأن يكون مختلفاً اختلافاً بيناً. فالواضح أن أهل مكة بوجه عام لم يكونوا يخافون الله، وإنما خوفه كان من أركان الديانه الاسلامية. كان أهل مكة يظنون الله بعيداً عنهم بُعداً عظيماً، في حين يقول القرآن إن الله قريب جداً في كل لحظة، بل هو أقرب إلى الناس من حبل الوريد (سورة ق، الآية 16). أهل مكة لم يترددوا في عصيان الله وعبادة آلهة أقل شأناً. في حين عرفت رسالة النبي محمد الله بأنه الملك، المنتقم الغيور، وأنه سيحاسب الناس من غير شك ويعاقبهم في اليوم الآخر، وبذا تحولت تلك الفكرة الغامضة عن الله إلى ذات لها خطر عظيم(11). شرارة الخوف من الله في مُجتمعاتنا، وجدت على مر القرون، من ينفخ فيها ويؤججها، لتصير نيراناً تأكل الرحمة.
القرآن الكريم أتى بالحقيقتين الكبيرتين، وهما قدرة الله على كل شيء ومسئولية الانسان، وأن الصالحات يُثاب عليها والطالحات تُجازى. وقد جاهد المفكرون المسلمون بلا كلل لايجاد حل لهذا التناقض الظاهر. غير أن الصراع على ما يبدو حُسم بدربة وصرامة لصالح مُناهضي حرية البشر وباعة الأوهام، رغم أنه لايمكن للانسان في هذه المرحلة من تطوره أن يحسم هذه القضية والتى ليست قصراً على الاسلام وإنما تعرضت لها كل الأديان، فهي قضية عامة(12)!
من هنا، يشيع في مُجتمعاتنا العربية المتخلفة أن خلف باب الموت إله قاس، يكره الحرية والأحرار، يُثيب الجبناء فحسب، أما النبلاء فيُصليهم عذاب الجحيم! إله لا يبلغ مجده إلا على جماجم الثوار، وصراخ "مُحبي الحقيقة" في قاع الجحيم!
ما أشقانا نحن العرب بهذا الفهم المُشوه للخالق العظيم. لا يمكن أن يكون الله عز وجل بمثل هذه البشاعة والشراسة. إلهنا الرحيم يوجد حيث يسكن النور! كيف أصدق أن إلهاً عظيماً كإلهي، يمكن أن يعاملني بمثل هذه القسوة والوحشية! لا أصدق أن لالهي الرحيم مُعتقلات تُنافس في بشاعتها "سجن أبو غريب العراقي" و"سجن العقرب المصري" و"مُعتقل جوانتانامو الأمريكي" و"سجن المزة السوري"!
• الحياة "أمة"، تُشتهى وتُعاشر، لكن لا تُعامل ك"حرة":
الوجدان العربي مُتشبع على نحو كارثي بقناعة بالية مفادها أن الانسان مخلوق آثم، شقي بالفطرة، يرفل في الشقاء، وأن العالم سيصل إلى نهايته يوماً ما، وأن ليست الحياة على الأرض غاية في ذاتها، ولكنها أشبه بتمهيد للجنة أو الجحيم. الوجدان العربي لا يستريح لفكرة وجود مستقبل زاهر للبشر الفانين!
الحياة عند شعوبنا تُسرع الخُطى نحو الفناء، والزمن يسير حتماً نحو الأسوأ! السلف لا يُعوض! والاستثمار الرابح لا يكون إلا في "ما وراء الموت"!
غير أن المدهش هو عدم نجاح قناعات كالمذكورة تواً في لجم تكالب أصحابها على مظاهر الرفاهة بمختلف أنواعها! بل والأكثر إثارة للدهشة هو عدم خُلوها من خطر عظيم، إذ غالباً ما تُتخذ كحجاب لستر دناءة أصحابها. فضلاًً عن وقوفها حائلاً دون إحترام أصحابها للحياة، وإحجامهم عن اثرائها ودفعها للأمام.
الحياة عندنا إذن "أمة" أو "بغي"، يقضى المرء منها لبانته، ثم يُلقي بها في عرض الطريق متاعاً للآخرين! يالنذالة وانتهازية تعامل أمتنا البائسة مع الحياة!
إن كلاً منا، معشر البشر، على الأرض في زيارة عابرة، نجهل سببها، ولكننا نعتقد في قرارة أنفسنا أننا نحس ونُدرك هذا السبب! بالنسبة لي، أراني قانعاً اننا هنا من أجل أولئك الذين نستمد كل سعادتنا من ابتسامتهم وبهجة حياتهم، فلذات أكبادنا وأحباؤنا، وكذلك أيضاً من أجل الجمع الغفير من الناس الذين وإن كنا لا نعرفهم، تربطنا وإياهم روابط الرفقة الإنسانية. إننا هنا للدفاع عن الحرية، هدية الله للبشر. الخصائص التي تتكون منها طبيعتنا البشرية، والتى تُميزنا عن بقية الكائنات المُحيطة بنا، إنما مُنحت لنا وأُعطيت كبذرة، يجب أن نستثمرها.
حياتنا الداخلية والخارجية تعتمد على جهود معاصرينا وأسلافنا، ولذلك حتماً علينا أن نسعى ما وسعنا بأن نرد جميلهم بقدر ما نلنا ومازلنا ننال من ثمرات جهودهم. مظاهر النجاح الظاهري، كالرفاهة المادية والشهرة، كلها بضاعة تعسة. الحياة أخطر من أن تكون مُجرد تمهيد للجنة أو الجحيم. الحياة رسالة(13).
إنها لقصيرة وعاجزة حقاً، حياة الانسان، فقد قُضي عليه اليوم أن يفقد أحباءه، وقُضي عليه أن يلتقي نهر حياته هو نفسه غداً صحراءه! يحدد الانسان معنى حياته يما يُضيفه إلى الانسانية. غير أن الانجاز أو بلوغ المأرب ليس المصدر الوحيد لمعنى الحياة! لأنه لو كان الأمر كذلك، لوجد أولئك الذين يُحرمون من إنجاز عمل، أن حيواتهم خلو من المعنى، لامناص. ولكن هناك أولئك الذين يؤدون عملاً تافهاً أو ضئيلاً، ويجدون ما يكفي من معنى للحياة في خبرة حبهم عندما يحبون ويحبون. في وسع الانسان أن يبقى كائناً بالرغم من عدم انجاز أى شيء فوق الحفاظ على ذلك التواصل الرائع، مع "الله" ورفاق الطريق!
لدى كثير من الناس شعور أو لعله اعتقاد وهمي، بأنهم مكلفون برسالة من نوع خاص عليهم إنجازها! الاقتناع بوجود مهمة يحول بينهم وبين الاحساس بالضياع والعدم. للحياة معنى ما دام الانسان مستمراً في الرقي وفي دفعها للأمام.
إن مجرد وجودنا على قيد الحياة قيمة. وعار ثقيل علينا، معشر العرب، أن نشتهي الحياة ونُعاشرها ك"أمة"، وهي "الحرة الأبية"! ما الحياة إلا وقفة عز، وإذا كان لابد لنا أن نموت، فلنمت نبلاء، على حد تعبير الراحل النبيل إيميه سيزير!
• ديمقراطية الموت لا تُجيز ديمقراطية الثروة والنفوذ:
ثمة اصرار حديدي في ثقافتنا العربية المتخلفة على تحريم ووأد أية محاولة لمحاكاة ديمقراطية الموت وتطبيقها في ميادين أخرى كالثروة والنفوذ والسلطة! أتذكر نصاً قرأته للمفكر المصري فؤاد زكريا، لشد ما يعضد زعمنا. قال الرجل عما أسماه بالاسلام البترولي(14): "لا يجد الاسلام البترولي أي تناقض بين دعوته إلى شمول الشعائر(كالصلاة والحج..الخ)، ونشرها على كافة المستويات، وخصوصية الثروة والنفوذ وفردية القرار السياسي. انه باختصار، إسلام يوظف لحماية المصالح البترولية للقلة الحاكمة، وحلفائها من الدول الأجنبية المستغلة"!!
فعلاً، لشد ما يُعضد حديث فؤاد زكريا عن "الاسلام البترولي" زعمنا المذكور تواً بأنه ثمة اصرار في ثقافتنا المٌتخلفة على تحريم ووأد أية محاولة لمحاكاة ديمقراطية الموت، وتطبيقها في ميادين أخرى كالثروة والنفوذ والسلطة!
تفرقة صارمة كهذه بين ديمقراطية الموت والشعائر وبين ديمقراطية الثروة والنفوذ والقرار السياسي، تعكس تشوهاً مُخيفاً في النظرة العربية للموت، لسببين: أولاً، تحقير هذه النظرة لل"حياة" في عيون أبناء ثقافتنا، وابرازها في صورة العاجز عن محاكاة "ديمقراطية الموت"! ثانياً، تفريغ النظرة نفسها لواقعة الموت من مغزي أبدع طاغور في وصفه(15): "فكرة أن الحياة ليست شيئاً دائماً ساعدتني على تنوير ذهني، إننا لسنا سجناء إلى الأبد خلف سياج الحقائق المُتحجرة!"..
التفلسف هو أن تتعلم كيف تموت(16):
قارئ هذه الجزئية، لابد وأن يكون قد طالع ولو مقالة واحدة من تلك التى أنشرها بين الحين والآخر على "الانترنت"، وأتعهد فيها مذهبي الأنسني بالنقد والتطوير! فأنا في هذه المقالة، وخروجاً على عادتي، لن أعرض لمذهبي إلا بقدر ما يخدم ما أريد قوله هنا! وللقارئ الكريم أن يعود لمقالاتي إن هو أراد المزيد!
ليس لكاتب هذه المقالة، ولا لغيره من محبي الحقيقة، الحق في ادعاء القدرة على صياغة نظرة للموت وما وراءه لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. لا لشيء، وإنما لكون الموت وما وراءه مشكلة تجريبية، ليست لدينا معشر البشر بينة تجريبية عنها. إنها مسألة تتعلق بالحقيقة والتى لا مكان لها سوى صدر الاله. كل ما نملكه إذن، ونرمي إليه، نحن محبو الحقيقة، هو حماية أنفسنا ورفاق الحياة، من مُشعلي حرائق الخوف. التفلسف هو خير وسيلة لقهر الخوف من الموت!!
خلصنا فيما سبق إلى ان ضعف الناحية الذاتية في ثقافتنا، وأعني بها الشخصية والحرية والخطيئة، ينال بشدة من قدرتنا على وضع مشكلة الموت وضعاً حقيقياً! كما خلصنا أيضاً إلى أن ثقافتنا العربية استطاعت أن تضع الموت وضعاً حقيقياً من حيث أنه مشكلة فحسب. بيد أنها حينما أرادت أن تُعرف هذا الموت من حيث ماهيته اتسمت نظرتها للموت بتشوه مخيف، يجد المرء اثاره في زوايا حياتنا! وعضدنا ذلك بعرض موجز لأبرز مواطن التشوه في نظرتنا للموت.
والسؤال، الذى لابد وأنه يجول بصدرك قارئي الكريم بعد فراغك من قراءة ما سبق، هو: من المسئول عن اضعاف قدرتنا على ادراك الموت على نحو صحيح؟ ومن المسئول أيضاً عن انتاج وتكريس هذا الفهم العربي المُشوه للموت؟
الاغتراب الثقافي للذات العربية، والآخرية العربية/المحلية الآثمة، مسئولان برأي فكرنا الأنسني عن انتاج وتكريس هذا الفهم العربي المُشوه للموت..
في تثمينها لقدر الإنسان في الزود بشرف عن حرية عقله وقلبه، تذهب رؤيتي المُقترحة للفكر الأنسني إلى القول بأن تطور التاريخ الإنساني إنما يُعد نتاجاً لصراع طويل ومرير بين إنسان (ذات) لا يملك سوى حرية عقله وقلبه التي وهبه الخالق إياها، ليستعين بها على ترويض الحياة، وبين (آخر) يُصر على الاستئثار بالحرية، ليتسنى له العبث بمقدرات رفاق الحياة! ف (الآخر)، في رؤيتي المُقترحة للفكر الأنسني، عادة ما يعمد إلى آليات بعينها لتكريس تنازل أخيه (الذات) عن حقه في نقد وتطوير ثقافته، أي طريقة حياته الشاملة، ليظل هذا الأخ المسكين (الذات) تابعاً ذليلاً طيلة مقامه في ضيافة الحياة، يستهلك فقط ما يجود عليه به عقل (الآخر)، حتى أنه بمرور الزمن، يفقد هذا التابع الذليل تماماً قدرته على النقد والتطوير ويُصبح مسخاً عاجزاً، لا يملك سوى الانتظار الابدي!
من هنا، يتضح ضلوع الآخرية العربية/المحلية، ومن خلفها الآخريتين العالمية والاقليمية في أمرين: أولهما، انتاج وترويج نظرة عربية مشوهة للموت، تبرر الممارسات اللاانسانية في حق الذات العربية، وتُضفي أيضاً شرعية عليها!
الأمر الثاني، هو اضعاف قدرة الذات العربية على محو التشوه الحاصل في نظرتها للموت، عبر ادامة اغترابها الثقافي، أي إدامة تنازلها عن حقها المشروع في نقد وتطوير ثقافتها. الاغتراب الثقافي للذات لابد وأن يُديم ضعف الناحية الذاتية(الشخصية والحرية والخطيئة) في ثقافتنا، على نحو ما هو حاصل.
ادراك أبناء ثقافتنا العربية للموت على نحو صحيح وصحي مرهون إذن بكسر نير اغترابنا الثفافي واستعادة حقنا المشروع في نقد وتطوير ثقافتنا، كبقية شعوب الأرض. ومرهون أيضاً بتعرية الآخرية العربية/المحلية والسعي لتفكيكها.
لم يعد مقبولاً أن يُشوه الله "الرحيم" في عيون أبناء أمتنا، فيتصورونه جلاداً قاسياً، يسومهم سوء العذاب إن عن لهم يوماً تحطيم نير اغترابهم أو تعرية مُشعلى حرائق الخوف من الله. الله لم ولن يكون جلاداً للأحرار! الحرية هدية الله للبشر!
اعتقادي بأن المحبة تطرد الخوف، يزيدني حباً في الله وثقة في رحمته! واعتقادي بأن "الضمير" هو صوت الله داخلنا، يجعلني حريصاً على الانصات له!
قارئي الكريم: الموت عندي نهاية الحياة، لحظتها الأخيرة، لكنه ليس هدفها! الموت عندي أن ينفتح أمامي باب يُطل على الأبدية، وأن يضمني وآلامي حضن "الألوهة" الرحب الرحيم! الموت عندي أن أغادر في هدوء ورضا عندما يُطلب مني الرحيل! أنا لم أطلب هذه الحياة، لكنني عشتها، وفعلت أفضل مالدي!


الهوامش:

(1) كثيراً ما يُقال إن الغزالي قضى على الفلسفة في الحضارة الاسلامية قضاءً مُبرماً، لم تقم لها بعده قائمة، وهو قول أراني أقره! غير أني أزيد عليه أن الغزالي بمواقفه الكارهة والمناهضة لحق أبنا حضارتنا الاسلامية في التفلسف (النضال من أجل الحقيقة)، يُؤرخ على الأرجح لميلاد "فلسفة الضرار"! وأعني بها الفلسفة حين تتنكب لمهمتها، وينتهي بها الأمر إلى التهافت في دوجماطيقية، في معرفةٍ موضوعة في صيغ، نهائية كاملة، تنتقل من واحد إلى آخر بالتعليم! فلسفة الضرار تُصيب هدفين: أولاً، إضعاف قيمة وأهمية نُشدان الحقيقة. وثانياً، إشاعة العُقم الفلسفي، فأقصى ما يستطيعه فلاسفة الضرار هو فهم الفلسفات القائمة والتشدق بمقولاتها! للمزيد راجع مقالتي: "فلسفة الضرار واقع كارثي"، منشورة على الانترنت.
(2) عبد الرحمن بدوي، الموت والعبقرية، (الكويت & بيروت: وكالة المطبوعات & دار القلم، بدون تاريخ).
(3) راجع: عبد الرحمن بدوي، سيرة حياتي 1&2، (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2000).
(4) انظر: سعيد اللاوندي، عبد الرحمن بدوي فيلسوف الوجودية الهارب إلى الاسلام، (القاهرة: مركز الحضارة العربية، 2001)، ص 5153.
(5) نفس المرجع، ص 154155.
(6) عبد الرحمن بدوي، الزمان الوجودي، (بيروت: دار الثقافة، 1973).
(7) للمزيد راجع: جان بول سارتر، ترجمة عبد المنعم الحفني، الوجودية مذهب إنساني، (القاهرة: مطبعة الدار المصرية، 1964).
(8) لا يختلف مفهوم الحضارة عن نظيره الخاص بالثقافة كثيرا، فكلاهما يشير إلى طريقة حياة شعب معين، غير أن الحضارة هي الكيان الثقافي الأوسع، أو بمعنى آخر هي أعلى تجمع ثقافي من البشر وأعرض مستوى من الهوية الثقافية يمكن أن يميز الإنسان عن الأنواع الأخرى. وهى تعرف بكل من العناصر الموضوعية العامة مثل اللغة، والتاريخ، والدين، والعادات، والمؤسسات، والتحقق الذاتي للبشر. وهناك مستويات للهوية لدى البشر، فساكن القاهرة قد يعرف نفسه بدرجات مختلفة من الاتساع: مصري، عربي، مسلم. والحضارة التي ينتمي إليها هي أعرض مستوى من التعريف يمكن أن يعرف به نفسه، أي أنها "نحن" الكبرى التي نشعر ثقافيا بداخلها أننا في بيتنا، في مقابل "هم" عند الآخرين خارجنا. وقد تضم الحضارات عددا كبيرا من البشر مثل الحضارة الصينية، أو عددا قليلا مثل الكاريبي الأنجلوفوني. وعلى مدى التاريخ وجدت جماعات صغيرة كثيرة ذات ثقافات مائزة وتفتقر إلى معين ثقافي أوسع لهويتها. وكانت الفروق تتحدد حسب الحجم والأهمية بين الحضارات الرئيسية والفرعية أو بين الحضارات الرئيسية والحضارات الجهيضة. وطبقا لهنتنجتون تتمثل الحضارات الرئيسية المعاصرة في الصينية، واليابانية، والهندية، والإسلامية، والغربية، والروسية الأرثوذوكسية، والأمريكية اللاتينية، فضلا عن الأفريقية. إلا أن الباحثين وإن اتفقوا بشكل عام في تحديدهم للحضارات الرئيسية في التاريخ وتلك الموجودة في العالم الحديث، فإنهم غالبا ما يختلفون على إجمالي الحضارات التي وُجدت في التاريخ. لمزيد من المعلومات راجع: صامويل هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب، صدام الحضارات إعادة صنع النظام العالمي، (القاهرة: سطور، 1998)، ص 67 80.
(9) راجع مقالتي: "أبطال عظماء أم باعة لصكوك الحرية"، منشورة على الانترنت.
(10) قرآن كريم، سورة العنكبوت، آية رقم 57.
(11) للمزيد راجع: ماكدونالد & كارديه، لجنة ترجمة دائرة المعارف الاسلامية، الله، (القاهرة: مطابع دار الشعب، 1979).
(12) راجع: و. مونتجمري وات، ترجمة عبد الرحمن عبد الله الشيخ، القضاء والقدر في فجر الإسلام وضحاه القرون الثلاثة الأولى، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، الألف كتاب الثاني، 1998).
(13) العبارة للمُفكر الايطالي الشهير متسيني راجع: جوزيبي متسيني، ترجمة طه فوزي وسامي محفوظ، واجبات الانسان، (القاهرة: دار الكرنك للنشر والطبع والتوزيع، سلسلة الألف كتاب، رقم 325، 1962).
(14) راجع: فؤاد زكريا، الحقيقة والوهم في الحركة الاسلامية المعاصرة، (القاهرة: القاهرة: دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، 1998)، ص2734.
(15) رابندرانات طاغور، ترجمة صلاح صلاح، ذكرياتي، (أبو ظبي: منشورات المجمع الثقافي، 1995)، ص218.
(16) جاك شورون، ترجمة كامل يوسف حسين، الموت في الفكر الغربي، (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1984)، ص 107.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى