مقتطف محمود شاهين - (17) حفل زفاف محمود أبو الجدايل ولمى !

(الفصل السابع عشر من رواية قصة الخلق )

" يتمايل جسد أم بشير، يتلوى ، يتثنى ، يهتز ، يرتج، يعصف ، يفجر مكنوناته ، يبعث كل آهاته ، يطرح كل آلام زمانه ، يمحو دنس السنوات الذكورية التي انتهكت قداسته ، يتطهر، يسمو، يحلق كنشيد أممي ،، تصطخب الموسيقى .. تتوجع . تئن .. تتأوه .. تجرح ، تبكي ، تلج الأعماق، تحز في النفوس ، تخفق القلوب. تنطلق الآهات من الحاضرين ، وتنحدر الدموع على الوجنات لرؤية جسد راح يوغل في عمق عذاباته ليحيلها إلى تحفة كونية ترقص على مسرح الحياة.

"إنها تفجر كل طاقات جسدها" !

همست لمى إلى محمود وهي تجلس إلى جانبه على مائدة العشاء في حفل الزفاف، مرتدية ثوب زفاف أبيض، وقد تألق جمالها لتبدو كحورية من عالم آخر ، فيما ارتدى محمود بدلة زفاف سوداء ، على قميص أبيض، وزين عنقه ببيون أسود ، ووضع قبعة سوداء أيضا على رأسه ، حيث بدا كبرجوازي حقيقي، حسب ما صرح به للمى وهو ينظر إلى نفسه في المرآة بعد ارتداء ملابس الزفاف . وقد جلس إلى مائدتهما هي ولمى أسيل القمر ومدير القناة التلفزيونية " سميح " إضافة إلى سليم شقيق لمى وزوجته " ناهد" .

أراد محمود ولمى أن يكون حفل زفافهما حفلا للمحبة الانسانية، فلقد حرص محمود على أن يجمع بين أسرتي القاتل والقتيل ، ممثلين بأم أمل وأولادها وأم بشير وأولادها.. إضافة إلى بعض الأقارب من أهله وأهل لمى ، والعديد من الأدباء والكتاب والفنانين بحيث قارب عدد المدعوين المائة شخص .

مهد محمود للقاء الأسرتين بأن أخبر أم أمل وأم بشير أنه سيعرفهما على بعض ، رحبت أم أمل بالأمر وهي تدرك أن زوجة القاتل " أم بشير " لا علاقة لها بمقتل أبو أمل من قبل زوجها .. وتقبلت التعرف عليها بصدر رحب .. وحين استقبل الأسرتين قبل الحفل عانقت أم بشير أم أمل بحرارة واعتذرت لها عما جرى دون علمها..

أجلسهما محمود على مائدة عشاء واحدة مع أولادهما. وبهذا يكون محمود أبو الجدايل قد أقام أغرب حفل زفاف في التاريخ يجمع بين أسرتي القاتل والقتيل. عدا أنه حفل زفاف لرجل عجوز أشرف على السبعين من عمره ، على فتاة لم تتجاوز الثانية والثلاثين من عمرها .

" تريد أن تنسى كل الآلام التي مرت بها ، فترقص بهذا الإحساس الجارف"

عقب محمود على كلام لمى عن رقص أم بشير .

دخلت أم بشير في حالة شبه هستيرية راحت تشرع يديها وتحركهما بعنف كسيفين يمينا وشمالا، وكأنها تجتث بهما رؤوسا ، وهي في الحقيقة كانت تتخيل أنها تجتث أعضاء ّ بشرية من تلك التي كانت تنتهك جسدها دون أي رحمة أو شفقة، مقابل بضعة دنانير، تسد بها جوع أولادها ..

تدور حول نفسها وهي تضرب بسيفي يديها في كل الاتجاهات لتجتث أكبر قدر من الأعضاء الذكورية ، التي ملأت أرضية المسرح من حولها ، فراحت تركلها بقدميها أو تدوسها بعنف وكأنها تود أن تسحقها.

تعالت صيحات المعجبين برقص أم بشير:

" الله عليك يا أم بشير "

وأصطخبت الموسيقى بما هو غير مألوف من الألحان ، كرقص أم بشير المختلف عن الرقص كله .

راح جسد أم بشير يهتزبعنف من أعلى رأسها حتى أخمصي قدميها ، وسط موسيقى صاخبة ما لبثت أن أخذت تخفت شيئا فشيئا وجسد أم بشير يتناغم معها إلى أن كادت تتوقف لتضرب بعنف وتتوقف لينتفض معها جسد أم بشير بدورة على نفسه .. ويتوقف .

هب جميع الحاضرين وقوفا وراحوا يصفقون بحرارة لأم بشير ، التي شرعت في

الانحناء تحية لهم .

- أبدعت يا أم بشير .. تسلمي!

خاطب محمود أبو الجدايل أم بشير.

- بفضل نبلك وكرمك يا سيدي الذي لن أستطيع مكافأته مهما فعلت .

ردت أم بشير.

******

حفلت الموائد بالكثير من المقبلات والموالح التي سبقت العشاء . وكان هناك مائدة طويلة عليها أنواع متعددة من الخمور والعصائر والمشروبات العادية ، وقف خلفها ثلاثة ندل لخدمة المحتفلين وسكب ما يطلبون في كؤوسهم.

نهض مجموعة من الشباب والفتيات وشرعوا يرقصون على موسيقى غربية .. كان من بينهم ابنتا ام أمل : سعاد وأمل وابنة أم بشير : زهرة .

لاحظ محمود أن الشباب والفتيات يرقصون منفردين دون أن يبدو أن أحدهم يشارك أحداً من الجنس الآخر الرقص ، وإن كان بعضهم يحاولون قدر الامكان أن يولوا اهتمامهم بالآخرين بالمشاركة في الرقص دون الاقتراب كثيرا منهم.

- يرقصون بتحفظ ! هتف محمود!

- حرام .. محظورات المجتمع تلاحقهم حتى في الرقص. هتفت أسيل! بينما راحت لمى تضحك.

وحين انتهت وصلة الرقص على موسيقى صاخبة .. أشار محمود أبو الجدايل إلى قائد الفرقة الموسيقية بأن تعزف الفرقة موسيقى هادئة راقصة .

صدحت الكمنجات بأنغام هادئة وسط أضواء خافتة، راحت تتسلل ببطء إلى مشاعر المحتفلين. أخذ مدير قناة التلفزة يد أسيل وأقامها لترقص معه ، وقام محمود ولمى بدورهما إلى الرقص.

صفق الحضور لمحمود وهو يضم لمى إلى حضنه ، فيما كان المدير يحافظ على قدر مقبول من عدم الالتصاق بجسد أسيل.

كان محمود يطمح بهذا الفعل إلى أن يثير الشباب والشابات ليرقصوا ويفرحوا .. لكن المحاولة لم تنجح ، فلم يجرؤ أي من الشباب على طلب يد شابة للرقص .. نهض بعض الرجال للرقص مع زوجاتهم أو مع قريبات لهم ..

كانت لمى تلقي رأسها على عنق محمود وتطوق جسده بيديها مستسلمة لأنغام الموسيقى غير آبهة بأية تقاليد قد يتطلبها هذا النوع من الرقص، وكان محمود يضمها بدوره مغدقا عليها كل حنانه .

لم يبد على أسيل أنها في غاية الانسجام خلال رقصها مع المدير، فقد كانت محافظة على حدود السنتمترات بين جسدها وجسد المدير.

انتهت وصلة الموسيقى الهادئة لتبدأ وصلة عتابا وميجنا:

ميجنا ويا ميجنا ويا ميجنا / يا روحي روحي سلمي عحبابنا!

تتمايل أم أمل وهي تردد من أعماقها بصوت شجي :

يا روحي .. رو.. حي .. سال لمي عا ح با بنا ....

أوف أوف أوف أوف أو .....ف.

نهض مجموعة من الشباب والشابات وشرعوا يدبكون على أغان لظريف الطول .. والملاحظ في الرقص الشعبي أن الفتيات تقبلن أن يضعن أيديهن بأيدي الشباب خلال الدبكة .

راح أحد الشباب يصدح بصوت شجي:

يا زريف الطول وقف لقلك / رايح عالغربة وبلادك أحسن لك

خايف ياولفي تروح وتتملك / وتعاشر الغير وتنساني أنا

يا ظريف الطول مر وما التفت / ولعت نيرانه بقلبي ما انطفت

بالله تقولوا لهالبنت إلي لفت / ما تمرش منهان تشغل بالنا !

يا ظريف الطول رايح عالكشاش/ محلا النومة بالحظين وعالفراشّ

لا تعطونا السمر ما نقبل بلاش/ سوسحنا البيظ بمشي الغندرا

" له له لا تزعلوا السمر" عقب محمود!

يا زريف الطول يمشي الحز الحز/ ما ادري من فراخ القطا ولا فراخ الوز

وفتحت لينا الصدر بين علينا البز / دكان تاجر فتح وبضاعة شامية !

راح بعض الحضور يضحكون ويعلقون على البز الشبيه بالدكان !

*****

جاء دور الدلعونا والدبكة على ايقاعها:

على دلعونا وعلى دلعونا من شوف الولف لا تحرمونا

على دلعونا وعلى دلعونا والله يحرمكم يلي أحرمتونا

على دلعونا وعلى دلعونا راحوا الحبايب ما ودعونا

على دلعونا يا مدلع وينك حطولي البحر ما بيني وبينك

لشق البحر ونام بحظينك ومص اخدودك مص الليمونا

بيقلن البيظ وحنا الحليب اليشرب منا بأمر الله يطيب

وبيقلن السمر أي وحنا الحنّا قهوة حجازية وغالي ثمنا!

******

حضرت مناسف العشاء. عشرون منسفا وضعت على مائدة طويلة . كل منسف عليه لحم خروف كامل. وقد رش فوقه مقدار من اللوز والصنوبروالبندق. دعا محمود جميع المحتفلين إلى تناول العشاء، فنهضوا ليملأ الندل صحونهم بما يشتهون. وليستخدموا السكاكين والشوك والملاعق في تناول المنسف ، عكس ما جرت عليه العادة بأن يتم تناول الطعام باليد ومن المنسف مباشرة .

ما أن ملأ الضيوف صحونهم وجلسوا يأكلون حتى ملأ محمود ولمى صحنيهما وجلسا إلى مائدتهما . فوجئا بأن الجالسين على مائدتهما ما زالوا ينتظرونهما ليأكلا..

" تفضلوا تفضلوا .. آمل أن يعجبكم الطهي " هتف محمود حاثا إياهم على تناول الطعام ..

تذوق محمود المرق ثم قطعة من اللحم وملعقة من الأرز مع المكسرات.. كان اللحم ناضجا بشكل جيد ، غير أن النكهة لم تكن كما يريدها ، لكنها كانت مقبولة . وقد أحبتها لمى وضيوف المائدة ..

استؤنف الغناء والرقص بعد العشاء .. ودام الحفل إلى ما بعد منتصف الليل .. حيث بدأ المحتفلون يسلمون على محمود ولمى .. يباركون زفافهم وينصرفون ..

******

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى