أنس الرشيد - رحلةُ النادرة في مسارب حروب العرب

جلس بديعُ الزمانْ، في أحد مقاهي همذانْ؛ ينتظر كوب القهوة المعتّقٍ بالزعفرانْ!!؛ ليزول صداعُ رأسِه، إلا أن إلهام البيان سبقَ سيفَ القهوة، فأمسك الورقة وخطّ (المقامة الجاحظية) ليؤرخ لثورة النثر الجاحظية.. فأمرَ بطلَ مقاماته أبا الفتح الأسكندري ليُصهلل الخيول، برايةِ (الشعرُ أكبر) ..! ويسأل متهكمًا:
  • نثرُ الجاحظِ! ما نثرُه؟.... ليرجع بغنائم الإجابة:
" ..بعيد الإشارات... منقاد لعريان الكلام يستعمله، نفور من معتاصه يهمله..."
...
وقد كانت تلك اللحظة الصُداعيّة، لحظة طردٍ لنوادر الجاحظ من مملكة البيان وصاحب عرشها الشعرُ..!، ولمّا وصلَ النادلُ فإذا بالكوب يندلقُ على أوراق البديع؛ فأدخل القلمُ في ما تبقى من ركوة البُنّ وكتب بحبره:
"همذان لي بلد أقولُ بفضله/ لكنّه من أقبح البلدانِ
صبيانه في القبح مثل شيوخه/ وشيوخه في العقل كالصبيانِ"


صُداع البديع الهمذاني مزمنٌ، فهو متطلع لمكانة اجتماعية لم يستطع أن يبلغها؛ لأنه لم يُجاوز ذُباب عنترة العبسي، لكنّه لم يكن غَرِدا بل صَدِعا " يحكّ ذراعه بذراعه/ فعل المـُكبّ على الزناد الأجذم". أمّا الجاحظُ فقد كان "غردا"، لهذا حوّل -في كتابه الحيوان- ذبابَ عنترة إلى لعنة على أنوف جبابرة العروش، بسرديةٍ لا رنين فيها ولا استحواذ، بل عريّ وسخرية وملاحظة بنادرة.

من لحظة الصُداعٍ الهمذاني رحلتْ النادرةُ، عُريانةً تتلبسها الهويات، لا تذكرُ إلا ربّها الجاحظ، الذي وعدتْه بثورةٍ تتزامن وحروب العرب؛ حيث واقعُ المكان وقيمة الأسلوب في تناسبه مع السياق؛ فالجاحظ ما فتئ يُراهن على مقومات جذرية تتصارع مع نقيضتها الشعرية؛ لتنتج لونا أساسه القارئ في أرجاء الأرض، وتضيع –حينها- معايير الجنس الشعري الذي تعفّن في بُقعته.

سمّى الجاحظ حكاياته بالنوادر، والمُلح، والطرف، والحكايات، والأحاديث، فتفرقت أشتاتا بين الأمم؛ تجمعها ثلاث قواعد يؤصلها الجاحظُ في مطلع البخلاء: " ... تبيُّن حجةٍ طريفة، أو تعرُف حيلة لطيفة، أو استفادة نادرة عجيبة". أضاف الجاحظُ للحُجةِ (الطرافة)، والطرافةُ –هنا- قسّمت الحجةَ بين المنطق الأرسطي، وسلطة القول السوفسطائي. فالسوفسطائي مستثمر جيد للسُلطة؛ حيث يُدرّب الخُطباء على كيفية جمع نتيجتين من مقدمات واحدة، لإقناع الناس بحسب رغباتهم. لهذا يورد الجاحظ –مثلا- قصة البخيل الذكي، الذي كان مُسافرا مع جماعةٍ على ظهر سفينة، فكان لا يُشرك معه أحد في الطعام، وحين يُسْألُ عن ذلك، يقول: لستُ أنا الذي يُسأل، إنما المسؤول من أكل مع الجماعة؛ لأن ذلك هو التكلف، أما أنا فعلى الأصل، وغيري زاد على الأصل، فاسألوه.
والجاحظ هنا يقفُ من موقف حِجَاج البخيل، على أساس أرسطي، صادر من الممكن والمحتمل، فليس على البخيل مدخل إلا مدخل سياق الاجتماع في السفينة، على أساس السفر جماعة، وهذا مدخل غير ملزم للبخيل؛ إذ لم يكن إنشاء السفينة والرحلة لغرض واحد يجمع المسافرين؛ حتى نستطيع أن نقلب الأصل إلى فرع. لن يقف التعجب من حجة هذا البخيل، ومن ثم التأويل، وبناء الحكايات المتينة على ظهرها عند كثير من الأمم؛ إذ تجد في بعض المرويات -بعد تمحيص فروعها- أن أصلها ومحتدها هي حجج ذلك البخيل بطرق متعددة.
وأضاف الجاحظ للحيلة (اللطافة)، ليبيّن أن صناعة الحيلة تستلزم لُطفًا، حتى تأخذ تأويلات شتى، واللطفُ – هنا- بالفعل لا بالقول، أي أنَّ الفعل متحلٍّ بالدّقة التي تجعل من الحيلة فريدة. يُورد الجاحظ قصة أُسرةٍ مكونة من أب وأم وابنين وابنتين، استضافت رجلا أعرابيا، فلما قُدِّم الطعام وعليه خمس دجاجات، قال الضيفُ للأسرة: أتريدون القسمة وترًا أم شفعا؟ فقالوا وترا، فقال الضيف: الأب وابناه مع دجاجة = أربعة، والأم وابنتاها مع دجاجة = أربعة، وأنا مع ثلاث دجاجات = أربعة. وفي اليوم الثاني قالت الأسرة: اجعل القسمة شفعا، فقال الضيف: للعائلة -بصفتها جسما واحدا- دجاجتان، وأما أنا فمع الثلاث دجاجات نكون أربعة.
عدد الدجاجات لا يمكن قسمته شفعًا، إلا في حالة تجزئة الدجاجة الواحدة، لهذا لا يُعرف كيف سيقسمها الضيف، ومع ذلك هو لجأ إلى حيلةِ جَعْلِ عدد الدجاج مرتبطًا بآكليها، من جهة المكوّن الأسري، في مقابل المكون الفردي، ليكون العدد اثنين بدلا من سبعة. ستة في حزمة واحدة يخضعون للقسمة كمكون واحد، وواحد يتفرد بالقسمة الوترية والشفعية المُعللة؛ فضمن انتصاره في الوِتر والشفع، ففي الأولى قَسّم المكون الأسري إلى فرعين فرع ذكوري وفرع أنثوي، ثم في الثانية جمعهم كلهم في سلة واحدة. فهذه القسمة المُعللة بتعليل دقيق وغامض =(لطيف)، هي الحاملة لمتعة سرد النادرة، ومن ثم تناقلها في المصادر المتنوعة، بطرق متنوعة.
ثم أضاف للنادرة (العجب)، والنادرة اسم يحوي كل ما سبق، لهذا هو هُنا ينص على العجب بحد ذاته كإطار للنوادر، فلا يوثق من النوادر إلا ما كان عجبا، فهذه الإضافة تبيّن أنَّ من النوادر ما ليس عجبا، أي قد تكون الحكاية نادرة ولكنها مألوفة، وهُنا يخفت صيتها، بحكم مألوفيتها، أما لو اجتمعت نادرة واندهاش، فذلك مدعاة لتناقلها.

لنأخذ هنا نادرة ارتحلت في مشارق الأرض ومغاربها، فقد جاء عند البيهقي في كتابه (المحاسن والمساوئ) نادرة مفادها: أن رجلا سأل ابنَ رواح الطفيلي عن ابنه، فقال: إنه عجب، ليس في الدنيا شيء مثله!، وسأحدثك عن نادرة له، فقد كنتُ يومًا معه فمرّت بنا جنازة، وحولها نادبة تولول: " وااسيداه..! يُذهب بك إلى بيتٍ لا ماء فيه، ولا طعام، ولا شراب، ولا وطاء، ولا غطاء، ولا سراج، ولا ضياء" فالتفت عليّ ابني مبتسما: يا أبةِ؛ يذهبون به –واللهِ- إلى بيتنا.
يقول محمد أبو الفضل إبراهيم في مقدمة تحقيقه لكتاب البيهقي هذا : " من أهم الكتب التي أفدتُ منها في هذا السبيل كتاب المحاسن والأضداد المنسوب للجاحظ، والكثير من نصوص الكتابين تكاد تكون متحدة، والأخبار مشتركة..."

هذه النادرة، حملت بذور سمات الحكاية الجاحظية، ففيها –أولا- عُريّ الحال والمقام؛ وعُريّ الصفاتِ من أصولِ الشعر، وهي –ثانيا- تصور الحال وتتمثله بأن يكون بيت الحيّ كبيْتِ القبر، وهي – ثالثا- تبيّن الحجة الطريفة، فالصبيُّ يسأل مُحاججا: ما الفرق بين بيتنا والقبر؟ وهي –رابعا- تتبطّن الحيلةَ، من خلال الإسقاط الموجع! ولا يكون الإسقاط الموجع حيلة إلا إذا سِيْقَ له ما يختصرُ الحياة بكلمات قليلة؛ فالحاكي احتال بالمقدمة المكتنزة المكثفة؛ ليوجع القارئ بالنهاية. وهي –خامسا- تمتلئ عُجبا وتعجيبا، إذ السؤال الذي شغل الجاحظ هو: هل يكون الضحكُ وقارًا؟ والمزحُ جدًا؟ هنا ينحاز الجاحظ للناس، حين اتجه إلى معيارهم قائلا: " فالناس لم يعيبوا الضحك إلا بقدر، ولم يعيبوا المزح إلا بقدر، ومتى أُريد بالمزح النفع، وبالضحك الشيء الذي له جُعل الضحك؛ صار المزح جدا والضحك وقارا" هُنا نحن نضحك مع ولد ابن رواح الطفيلي، ولكنّه ضحك الوقار، ونمزح مزح الجدّ الذي يخيفنا من ألم الدنيا. وهي – سادسا- ممتلئة على قصرها بأسلوب جزل وأسلوب رقيق يتسق مع سياق الطرافة المؤلمة التي تعبر الثقافات، وهذا ما يُشدد عليه الجاحظ حين قال: " وإذا كان موضع الحديث على أنه مضحك وداخل في باب المزاح، فاستعملت فيه الإعراب انقلب عن جهته، وإن كان في لفظه سخف وأبدلت السخافة بالجزالة صار الحديث الذي وضع على أن يسر النفوس يكربها ويأخذ بأكظامها". وهذا ما يجعل السمات التي صنعها الجاحظ متجاوزة الثقافة الخاصة إلى ثقافات أخرى، بعكس ما نراه من صناعة غيره كحسن اللغة وفصاحتها، ومراعاة المقام الثقافي في كينونته الخاصة؛ لهذا نجد الجاحظ أيضا مشددا على السياق الذاتي بما يطلقه من عقاله الخاص: " ... وكما أنك لو ولدت كلاما في الزهد وموعظة الناس ثم قلت هذا من كلام بكر بن عبدالله المزني لتضاعف حسنه، ...ولو قلت: قالها أبو نواس الشاعر، لما كان لها إلا مالها في نفسها، وبالحري أن تغلط في مقدارها فتبخس حقها". إذ هذا السياق الذاتي سيأخذ بريقا يتسق معه في الثقافات الأخرى بما يتناسب معها؛ فلدى كل ثقافة أبو نواس، ولديها المزني.
وهذه السماتُ فتحت باب المتلقي الفاعل الذي يُشكّل من تصوراته مسارب لرحلة النادرة، فسيَّرَها مَسيْر الشمس، فتجد لها فروعا وإضافات وحكايات في كل ثقافة، مشرقية كانت أو مغربية، ولم يكن هذا المتلقي إلا مصاديق لحضارة استقبلت محاربين انشغلوا بفتوحاتهم وكنوزهم وسياسة أمرِ المكان، وانشغل هو باحتواء ما يجنيه من دُرر تُعبّر عن ثقافة الغازي، إذ يريد أن يعرف غازيْه من لسان العامة، العامةِ الذين يُجيْدون لغة التصوير الواقعي بلغتهم الملحونة؛ نعم فالواقع ملحون بين القبض على التصور وانفلات التصديق. ولو تأملنا رسالة (التربيع والتدوير) للجاحظ، لرأينا حكاية الواقع فيها؛ فهي قائمة على السخرية من رجل اسمه (أحمد بن عبدالوهاب) ادعى الرشاقة وهو في غاية السمن، فأخذ الجاحظ يصف المشهد مسمّيًا إياه(مربعا) وادعى الطول وهو في غاية القصر فأخذ الجاحظ يصف المشهد مسميا إياه(مدورًا) فهذه هي العتبة الرئيسة التي أقام عليها الجاحظ صياغة المفردات بدلالات ومفاهيم تنتمي إلى كل الثقافات؛ ليتحول الجسد الإنساني – أيا كان موقعه الجغرافي- إلى حدث هزلي، حين يُناقض الروح، إذ كأن الجاحظ يسأل أحمد بن عبدالوهاب: إن كنت ترى نفسك رشيقا فلمَ تدافع عن السِمن؟ وهذا السؤال ينغمس في الروح الهزلية التي تمنح المتلقي في أي ثقافة تأملَها في جوانب متناقضة، في صراع المادة والروح، حين نجد إنسانا ماديا صرفا في معتقده، فما معنى المطالبات الإنسانية التي تقابل الألوهية، في معناها الميتافيزيقي؟. والعكس.

في رواية ابن رواح الطفيلي وابنه، علامة عابرة للثقافات تبرز في التهكم على الحياة وفلسفتها. والتهكم بصفته إخراج الكلام على ضد مقتضى الحال فإنه ينغرس في الثقافات سريعا، فضلا عن كون هذا التهكم بعلامة عابرة للثقافات، ففي روايتنا هذه –أي رواية ابن رواح وابنه- يبرز التهكم على بُنْيته وقاعدته الأساس، وهي التناقض بين سياقين أو صراع بين مبدأين. وعندنا هنا في روايتنا الحروب التي تنقل الوجهين: وجه مكفهر يقتل بالغلبة، أو يفرض بضاعته بالسلطان، ووجه ضاحكٌ يندسّ في نسق الثقافة ويمتزج معها.
لهذا فإن هذه الرواية مغروسة في الثقافة الغربية، من خلال حروب العرب في مغارب الأرض، وتحديدا نجدها في الحكايات الإسبانية، ففي حكايات (لثريودي تورمس، وحظوظه ومحنه) نجد التالي: " ... وفي ذلك الوقت كانوا يجهزون جيشا ضد المغاربة، فالتحق به أبي، وكان قد نُفي بسبب ذلك الحادث، وصار سائسا لفارس، وهناك قضى نحبه هو وسيده خادما أمينا له، وأمي الأرملة قد وجدت نفسها بغير زوج، ولا مأوى، ...ولما كانت تتردد على الاسطبلات فقد تعرفت إلى رجلٍ مغربي..."
يشير عبدالرحمن بدوي في الحاشية إلى: " كلمة مغربي (moro) تدل على أهل المغرب والمسلمين".
ثم أخذ (لثريودي تورمس) يورد حكايته وأمه مع المغربي سعيد. إذ نلحظ أنه يورد في أثنائها ضمنيا أن أمه تزوجت من المسلم المغربي سعيد، ثم هي توصي رجلا أعمى بابنها قائلة: " أوصيك به خيرا، فهو ابن رجل من أهل الخير مات في سبيل الدين في يوم جربة" هذه المفارقة التي أوردها لثريودي تورمس، تعكس الوجهين في الحرب، وتجلّت لديه في الوجه الضاحك المندس في نسق الثقافة حين كتب حكايته ومحنه وحظوظه مضمّنًا إياها على الوجهين، أي ثقافة وفدت من العرب بالاتجاهين، اتجاه تمثل في وصفه القبيح لسعيد زوج أمه، وهنا تعبير عن الوجه المكفهر للحروب، واتجاه تمثل في أخذه لحكاية ابن رواح وابنه وتوظيفها في حكايته، دون أن يكون قاصدا أو سمعها –مباشرة- من أحد، بل اندست في الثقافة الغربية، حتى صارت من ثقافتهم. ولم يكن توظيفه لها فجّا، بل أدرجها في عمق حكايته، التي قد توصف بأنها حكاية صَعْلكة، ولكنها صعلكة لا تنتمي لحكايات الصعاليك في الثقافة الإسبانية، وهي التي تصف الشخص المتشرد الذي يتنقل في مهن وضيعة كالشحاذة، والسرقة والفتك، والقوادة، ونحوها من أجل كسب مالي، بل إن صعلكة لثريودي تورمس مغرقة في براءة النية والفعل من جهة ووصف صراعه مع الحياة من جهة أخرى، وهذا ما يجمعها مع حكاية ابن رواح وابنه، بل مع مفهومٍ من مفاهيم الصعلكة في جذوره العربية.

وهذا التوظيف يذكرنا بتلك السمات الجاحظية التي تتجاوز المكان والثقافة، إذ قد كان توظيف لثريودي تورمس للحكاية في الفصل الثالث الذي يروي (كيف دخل لثريو في خدمة سائس وماذا جرى له في خدمته) وهذا السائس لم يكن بخيلا غنيًا كالأعمى الذي رافقه أولا، ولا كالقسيس الذي رافقه ثانيا، بل كان فقيرا معدما، لكن مشكلته أنه يتشبه بالنبلاء، وكان ما يَظْهَر من بخله ليس إلا قلة حيلة؛ لدرجة أن تحول (لثريو) وهو معه إلى شحاذ ليساعد سيده، وهنا المفارقة التي بنى عليها لثريو توظيف الحكاية العربية، فهو مع السائس عدّ نفسه صاحب بيت وشريك لقمة عيش، بل ابنًا للسائس، بعكس الأعمى والقسيس، اللذين يصفهما قائلا: " أما الأعمى الشحيح والقسيس البخيل الشقي اللذان كانا يعيشان من فضل الله أحدهما بتقبيل الأيادي، والآخر بإطلاق لسانه، وقد قتلاني جوعا، هذان من العدل أن أكرههما كما أن من العدل أن أرثي لحال السائس" والمفارقة الأخرى أنه تعلم نظرية الشحاذة من الأعمى بسبب بخله، وطبقها مع السائس لمساعدته.
ولنتأمل ما قاله السائس بعدما جاء لثريو بأكلٍ قد شحذه من الباعة: " كُلْ، أيها المسكين، وإن شاء الله سنخلص قريبا من هذا الضيق..." هنا يتحدث السائس بلغة الجمع. ويقول لثريو واصفا السائس: " لقد تركتُ أسيادا أشرارا، ابتغاء أن أجد من هم خير منهم، وإذا بي أجد واحدا ليس فقط لا يطعمني، بل عليَّ أنا أن أطعمه، وعلى الرغم من كل شيء فقد أحببته مُقَدِّرا أنه ليس يملك ولا يقدر أن يكون خيرا من ذلك، وبدلا من أن أحقد عليه كنت بالأحرى أشفق عليه؛ ولهذا فإنني كنتُ مرارا أتقلل في الطعام ابتغاء أن أحضر إلى المسكن ما يكفي لإطعامه" هذا الوصف هو ما يجعل القصةَ العربية، قصةَ ابن رواح وابنه، متسقة مع حكاية لثريو، فابن رواح هنا يقابل السائس ولثريو ابنُ ابنِ رواح، بل إن السائس الذي يصفه لثريو قائلا: " هذا رجل فقير، والمرء لا يعطي ما ليس عنده،.. ومع هذا الهندام والفخفخة فإني أشفق عليه فلربما يعاني مما رأيت هذا مايعانيه..." يُشبه حال ابن رواح نفسه؛ إذ له علاقة وثيقة مع أحد كتاب العباس ابن الخليفة المأمون الذي تمرد على عمه المعتصم وانتهى بالموت في السجن، لهذا نجد ابن رواح فقيرا، لكنه متشبث بحالٍ مضى مع موت العباس، فأصبح حاله متضادّ بين كبرياء وفقر معدم، وهذا هو حال السائس تماما، كما يشير لثريو قائلا: " إنني كنت أودّ له ألا يتظاهر بكل هذا الادعاء وأن يطامن من تكبره بقدر ما تتزايد حاجته وإملاقه، لكن يبدو أن ثمة قاعدة فيما بينهم وهي أنه على الرغم من أنهم لا يملكون فلسا واحدا، فإن طاقيتهم يجب أن تبقى في مكانها". لهذا استجلبتْ النادرة بسياقاتها واتسقت؛ فهي متعالية على الخصوصية، وأعني أن دخولها كان سلسا لطيفا، لم يُحتجْ معه إلى إقحام سياق ثقافي وبتر سياق. بل كان عفوا فرضته مسارب الحروب.
هذا السياق الذي صنعه لثريو أجاز له أن يصنع مشهد الجنازة بكل سلاسة وإتقان؛ فبعد أن أرسله السائس(والده !) إلى السوق، وهو في طريقه رأى جنازة يُبكى عليها ويُلطم بصرخات:" إلى أين يحملوك؟ إلى المنزل الكئيب البائس، إلى المنزل المظلم كالكهف، إلى المنزل الذي لا يؤكل فيه ولا يُشرب" فأوصله إلى أن يقول: " أوه!! يا لشقائي، إنهم يحملون هذا الميت إلى بيتنا" ثم إنه انطلق راجعا إلى البيت ليُحكم إغلاقه، كي لا يُدخلون الميت.

هُنا مقدمة وخاتمة مضافة للحكاية اتسقت مع صعلكة لثريو، ومستحضرة سياقات عربية تحفّ بابن رواح وابنه لكن بصورٍ متفرقة، جمعتها الثقافة الإسبانية من متفرقات على مدى قرون.
-------------------------------

أنس الرشيد
تموز 2020م

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى