علي محمد الشبيبي - السر الرهيب

-1-
كان الجو صحواً إلا من غيوم متناثرة. وتبدو في الحي حركة غير عادية، وفي مرح صاخب، يتنقل بعض القرويين بين قصر شيخ العشيرة والأكواخ المنتشرة هنا وهناك.
وتحت ظلال بعض الأشجار على ضفاف النهر الذي يشق القرية إلى نصفين، جلس بعض الضيوف من مختلف مدن اللواء (المحافظة)، يرافقهم بعض القرويين، يتحدثون معهم بسذاجة عن جمال قريتهم، وعن تعلقهم بزعيم قريتهم "الشيخ موزان" ولا يذكرون شيئاً عن متاعبهم، ومدى ما يعانون من استغلال.
لا يذكرون إلا مكانة الشيخ في الدولة. فهو نائب في مجلس النواب تارة، وفي مجلس الأعيان أخرى. وعن كلمته النافذة عِند الباشا "نوري السعيد" وعند الأمير المعظم "عبد الإله"، أو عن امتداد رقعة الأراضي التي يمتلكها. لكن السامع يُحِس في ذات الوقت ببرودة اللهجة في الحديث، وكأن الفاظهم تخرج من أفواه أشباح باهتة. هم يتحدثون عما تدره أراضي الشيخ من حاصل وفير. وانك لتلمح في عيونهم أثر الحسرة التي تتردد بين الصدر والبلعوم.
كان الوقت منتصف كانون الأول، وقد تعرَّت بعض الأشجار من أوراقها، فبدت كأشباح بائسة، تترقب محناً وعذاباً. وكانت الغربان تحط عليها، فيرميها الصغار بالحجارة، فتطير، ولأجنحتها حفيف جميل، ويرتسم من سربها ظلّ جميل كأنه غيمة طائرة. وفي النهر الصغير يسبح الأوز، والبط، وهو يرسل أصواتاً كأنها أنغام موسيقى. تثير في النفس نشوة وانشراحاً.
كان يبدو عن بعد نفر من القرويين قد حسروا عن رؤوسهم فتدلت شعورهم السوداء جدائل مبرومة، وراحوا يهزجون، بأغانيهم الريفية، بدأوها بالأبوذية[1] ووشحوها بـ (البستة) فصاح بهم واحد من بعيد:
- أي، اخوتي، ايه النشامة، يستاهل "أبو مجيد" هذا يومكم! افرحوا بفرحته! اُهو شرفكم، اُهو ذخركم!
ومال أحد القرويين على أحد الضيوف، وهمس في أذنه:
- ﭼلب ابن ﭼلب (كلب) هذا التسمعه. تراه من عدوان الشيخ، إلا الخوف يخليه يتملـﮓ (يتملق)! يخوي ابساعات يـﮕـعد ويَّ الفلح يحـﭼـي حـﭼـي شَـﮕلك عنه؟ ... يسمي الشيوخ أﮔطاعيين، ويگول: يجي اليوم اللي يَغَدون اخس من حال الـﭼلب الأجرب!
وقطع هنا كلامه، وانتصب واقفاً. فقد جاء جماعة من الضيوف، أستقبلهم بعض أبناء الشيوخ. وقرب كوخ يدل مظهره على خَبَل ساكنه، هَرّ كلبان عليهم بضراوة، فصاح أحد المستَقْبلين:
- ولـﭻ "عوبه" أشتعل جدّج ماتطلعين تردين ﭼـلابـﭻ، ياﭼلبه يابِت الـﭼلب!
ومال آخر، وهمس في سمع أحد الضيوف:
- ذاك "راهي" اخو عروس الشيخ. وعقَّبَ كلامه بزفرة وأرسل –بعد كلمته هذه- زفرة حادة. وحوّل نظره إلى جهة النهر المقابلة. وقد جلس عليها زمرة من الشباب، على كراسي من جريد النخل، ثم قال لذلك الضيف:
- شوف ... ذاك المعلم "هادي" وصديجه المعلم "عبد" وياهم من جماعتهم المعزومين مثلك ... إنتَ ماتعرِفهُم؟
ردَّ عليه الضيف: منو هادي؟ لا والله آنه مامسبوق بي.
صاح أحدهم بهذا المتطفل: مالك يخوي اتهذي؟ اشعليك بالناس!
فابتسم صاحبه أبتسامة خجل من هذا الزجر، ولكنه أردف: يخوي يمنعثر. تدري اليوم تَرخِصو من هادي وطلبوا كوخه. يخَلّون بيه التمن والمواعين!
فردَّ عليه منعثر: يخايب ما تبطل من هالحـﭼـي المابي فود.
فغاضه كلام منعثر، ومضى في ثرثرته، وهو ينظر حيث يقف راهي والضيوف. وخرجت "عوبه" تنهر كلابها. فعاود الثرثار كلامه. وقال: لَوَن هادي وَياهم مانبحت عليهم ﭼـلاب "عوبه"!
فحدجه منعثر بنظرة حادة، ثم نهض ليفارقهم، وقد أحمرّت عيناه من الغيظ. لكن الضيف ألح عليه ملتمساً بقاءه، وهو يلوم المتحدث. فرد عليه منعثر:
- لا يخوي. هِدني التمسك. إنت ما تعَرِف "حدّاوي" لسانه مذر. ويجيب النَه الطلايب، بَلا حظ.
قال الضيف: و "عوبه" هذي شنهي؟
ردّ عليه منعثر: عجوز فقيرة مخبولة. بس المفرَخَه[1] كل يوم يگضون وياهه التوبه. يحاربون كلابها بالحجار، ويرمون دجاجهه ويكسرون رجليهه! وتظل تلبح وتشتم اهلهم وموتاهم لَمَن تغدي وينيده. وكل يوم على هالرنه.
أجاب حداوي: ماهي مخبوله؟ وعلي. أعگل (أعقل) مني ومنك!
وتأزم الموقف من جديد بين منعثر وحداوي لولا أن مرّ "سيد عوده[3]" وخلفه من صبية الحي عدد كبير يمشون خلفه مشية المؤدب، والخوف مرسوم على وجوههم! انه كما يعلمون من آبائهم –من أبناء الرسول- وربما كان ولياً من أولياء الله! وان بدا مظهره كمخبول، بملابسه الرثة القذرة، وعلى كتفه مخلاة، لا يدري أحد ما فيها. وبيده اليمنى علم أخضر، في أعلاه أجراس!
ناداه أحدهم، ليغير الجو المتوتر:
- سيد عوده، بجدك وَجِف، آنه الليله بخدمتك! مواعين الحلاوة، والدجاج، والتمن المزعفر جِدامك! بَسْ كون اتسَمعنه من هوساتك!
هَزَ سيد عوده علمه، وأخذ يدبك فيثير غباراً هائلاً "موزان. ماكو غير الله وغيرك!"
وضج الحاضرون والصبية بالضحك. ذلك لأنه يلفظ حرف –الغين- مهملاً!
وأقبل من بعيد شاب أسمر رشيق القوام، حلو العينين وبأدب أشار إلى أخيه المضيّف "جياد" الذي كان خلال ذلك الوقت ملازماً الصمت، إلا من ابتسامات متزنة. وتلك سمة لشباب القرية المرموقين، الذين تعقد عليهم الآمال، في تحمل أعباء العشيرة، والمسؤوليات تجاه رئيس العشيرة.
نهض جياد وقال بهدوء:
- يا الله يا جماعة. اتفضلوا عاد -للربعة- حَلْ وكت الغِدَه.
نهض الجميع يتقدمهم جياد والضيف. ولوحظ أن جميع الضيوف الذين حضروا قبل موعد الوليمة الخاصة قد تأهبوا مع مضيفهم لتناول الغداء، والاستجمام خلال فترة الظهيرة.
وفي أثناء سيرهم صاح حداوي على عادته في الثرثرة: هاه، شوفو ابو الويو، شوفو المومن شيخ كاظم ﭼنه خضيري يتگلّب "يتقلب" متوجه لمضيف الشيوخ. هسه يضرب الگوانص والحواسات. شمدريكم ما يلفلف دجاجه عَدله؟
ولكي لا يفسح الآخرون له بثرثرته، لم يرد عليه أحد. أنه مع ما يتصف به من ثرثرة وجهالة لذو قلب طيب، وشعور رقيق تجاه عواطف الناس ومشاكلهم، وهذا ما يجعله كثير التعرض لذكر المعلم –هادي- لذلك ألتفت يميناً حيث كان –هادي- وصاحبه –عبد- وضيفهم المعلم –حسن- وراح يثرثر.
- خطيه هادي، اشوفن وجهه اليوم مِكسف، ويمشي تايه!
لكن الجماعة وصلوا "الربعة" فقطع حداوي ثرثرته.

***

-2-
حقاً إن هادي حزين هذا اليوم، ويكاد لسانه ينفلت بما يجّن قلبه، رغم ما يعلم من خطر على حياته، إن بدرت منه كلمة تكشف الستار عن مكنون سرّه. بعض الخيوط لدى محبيه، وإنهم يقدرون مدى الخطر الذي يتهدد حياته لو نَمَّ عنه نمام، أو سعى ضده واشي.
"عبد" صديقه الصدوق، لم يفارقه هذا اليوم لحظةً. فهو نهب تيارين يعصفان به عصفاً، رغم ما يبديه من جلد بين الإعياء الذي كساه مظهراً مدهشاً من الصفرة والهزال، وبين الهياج الذي لاح كالشرر في عينيه ونبرات صوته.
منذ ثلاثة أيام اتصلت به "رويحه" وصيفة فخرية ومربيتها التي تتهالك من أجلها. ولقد أخبرته بجميع ما ألَّم بها، خلال إقامتها في بغداد، حين سافرت مع ابن خالها الشيخ "موزان" حيث كان مقرراً أن يتم الزواج وشهر العسل. ذكرت له إمتناع "فخرية" على ابن خالها وتوسله لإغرائها بما قدم لها من مال ومجوهرات، وأثاث فاخر، في قصر شامخ يضاهي قصور الملوك، تحيط به حديقة غاية في الجمال، وقد فشلت كل محاولاته، فعمد إلى الوعد والوعيد والتهديد.
كالَ لها التهم الشنيعة، أستفزّها بها عَلّها تفصح عن مكنون سرها. قال لها أخيراً: انه يعلم إنها تحب ولابد أن يُريها عاقبة خروجها على سُنة العائلة، وتلويث شرفها! إنه سيدفنها حية بعد أن يحرق من تحب أمام عينيها.
هادي يعرف جيداً ما تتمتع به فخرية من كياسة ورباطة جأش، واهتمام بليغ بسرها. كذلك حافظ هو على قصة حبه، إلى حد بعيد. غير أن لحديث الحب عطراً ينم، فلا تحول دونه أختام القوارير مهما اُحكمت. ولقد نمَّ حب هادي-وفخرية، فتنشق عبيره عبد بحكم صداقته ورويحه وصيفة فخرية، و عوبه التي إتُخذَ كوخها الحقير خير مأمن للقاء الحبيبين.
هذا الكوخ المشيد من الطين والأخشاب المستهلكة، والحصر البالية، والصفائح الصدئة، والمسور بسور هائل من الأحطاب والأشواك. تحيط به أشجار صفصاف عالية تشابكت فروعها تشابكاً غير مبهج لعدم العناية بها.
ولا يعيش مع عوبه في هذا الكوخ غير كلبين، عودتهما أن يعترضا سبيل المارة بنباح، وهرير مخيف. ولها دجاجات وإوزات. وطالما غزاها صبية الحي فتقعد لهم على الطريق شاتمة آبائهم، وأمهاتهم، بكل لفظ غريب، وشتيمة فاحشة، دون أن تتهم أحداً بعينه، أو تشخص الخاطف.
وطالما تجمع الصبية حول كوخها يرددون أنشودة صبيانية يثيرونها بها، فتقذف بالألفاظ البذيئة أعراضهم فيقذفونها بالحجارة. ولا تنتهي هذه الملاحاة، حتى يمر أحد رجال القرية. لكن أكثر الذين يهبون لنجدتها هو حَدّاوي. ولهذا أنعقدت صلة وثيقة بينه وبينها. تدفعه إلى زيارتها عند العصر أحياناً، وفي ليالي الشتاء أحياناً.
ولاكت الألسن حداوي في الغيب. لأن عوبه يُعتقَد أن لديها مال وفير. ويقال: أنها تدفنه بأرض الكوخ، وإن حداوي لا يزورها قربة إلى الله، إنما ليهتدي إلى مخبأ المال. لكن هذا غير ممكن، لأن عوبه لا تفارق كوخها.
هي لا تريد أحداً ولا تسافر لأي مكان، إنها كالذئب في حراسة كوخها. حتى بيض دجاجها لا تقصد مكاناً لبيعه. الناس يقصدون بيتها لشرائه، لأنها تبيع بسعر أقل من غيرها!
وفي ليلة من ليالي الشتاء الباردة، قصد حداوي كوخ عوبه لزيارتها، وفوجئ بما أدهشه وأذهله. فغر فاه، وبُهِت، حتى كأن قدميه قد ثُبّتا بمسامير إلى الأرض. لقد سمع من يتحدث بحذر وتحفظ وكأن الأحاديث تجري همساً.
أبتلع ريقه، وذكر أسم الله، وناداها، فخرجت إليه، وتلطَّفت أن لا يزورها الليلة. أثار هذا فضوله. إنّ هذا أمر عجب. حاول أن يقنعها لتسمح له بالدخول، فهمست إليه: تعال باكر وآنه أ گلك ليش!
وعاد حداوي وفي خياله شكوك، تقلق باله.
وفي اليوم الثاني أسَرّت إليه بكل ما لديها من أمر هادي وفخرية. كانت عوبه تتحدث إليه، وهي تكاد تختنق بعبرتها ودموعها وكأن هذه العجوز التي هي إلى الوحش أقرب منها إلى الأنسان تحمل بين جنبيها قلباً يفيض بالحنان، وشعوراً أسمى من شعور ذوي العقل والرشد. وأوصت –حداوي- أن يكتم ما علم منها. لكن حداوي هو الآخر، شعر كأنه قد حمل حملاً كبيراً وخطيراً أيضاً على حياته إن هو فرط بكلمة واحدة. أدار ظهره ليعود، لكن عينيه أنهمرتا بدموع خرساء، فحجبت عنه الطريق!
هو لم يجرب الحب، لم يعرف معناه، على أنه قد سمع كثيراً من الحكايات، عن محبين ماتوا حزناً وكمداً. لكنه كان يسميها –سوالف-.
وأسر بما علم إلى منعثر، وأخيه جياد بالسر الرهيب! لكنهما حذراه بان مصير الجميع الموت إن فرط بحرف واحد.
وتكررت زيارات حداوي إلى عوبه وهي تُسِر إليه بكل ماجريات اللقاء ...

***

-3-
حَلّ العصر الأخير، فتتابعت أصوات أبواق السيارات، واشتعلت في القصر أضواء مصابيح الكهرباء، المعلقة على أعمدة خشبية. لقد نصبت لأول مرة ولهذه المناسبة، وعلى شارع يمتد من أول الطريق، ماراً بموقع الطباخين، وإلى طول طريق الوافدين. وارتفعت أهازيج الشباب، يدبكون ويغنون. وانتظمت داخل القصر الأرائك الفخمة.
قدم المتصرف (المحافظ)[4]، لقد لبّى الدعوة، مع ما بينه وبين موزان. لأن موزان من جماعة الباشا (نوري السعيد)، وهذا من أضداده، وقد ناصر العشيرة التي يؤيدها –صالح جبر- وهذه ضد عشيرة موزان. هذا المتصرف يكره موزان كرهاً شديداً، بسبب ما يثيره من مشاكل، وحوادث قتل، ودعاوى يثيرها ضد العشائر الأخرى في هذا اللواء، مما يعرقل المشاريع التي ينوي تنفيذها لصالح الجميع. وسبق لهذا المتصرف أن أشغل وظيفة قائم مقام في القضاء قبل سنين، ونقل مغضوباً عليه بسبب شغب –موزان- ضده! أنه رجل كيس، وأيضاً جريء، ينحاز إلى جانب الحق، صريحاً لا يداهن ولا يجامل، ولا يخاف.
بعض الشيوخ الصغار، ومن يؤيدهم من السراكيل، إتخذوا مجلسهم في جهة ضمّت –المعارضة- من ينظر إلى تجمعهم يحسب أن هذا تجاور مقصود. والواقع عكس ذلك، إنه طبيعي، مادام المرء يعمل بموجب المثل –شبيه الشيء منجذب إليه- ولعل المثل الشعبي أيضاً له مكان في جوانح هؤلاء. المثل يقول "طاح الحديد على الحديد وصاح رِن!"
عجت القرية بالوافدين المدعوين، وهم في نشوة وانشراح. جو القرية هذه رائع. وتسمع عن بعد أصوات بأغاني الريف الشجية. وأنسام عطرة تمسح وجوه المدعوين. لقد جلسوا حلقات حول موائد تظلها شجيرات وهم يتجاذبون الأحاديث والطُرف.
أما أركان حديقة القصر فقد أحتلها أكابر المدعوين. وقرب مجلس المتصرف جلس الشيخ كاظم، برز مكانه بعمته البيضاء الكبيرة، وجبته العريضة الأردان والأكمام، ولحيته السوداء. أول ما أثار جدل الذين لم يكن لديهم حديث، فتجادلوا: أهي صبغة، أم ما يزال الشيخ كهلاً؟
قال أحدهم، منكتاً – دعوا هذا الجدل الفارغ. أنظروا انَ عمته اليوم أكثر انتظاماً. قال الآخر: يبدو إن محراب الصلاة لا يستحق عند الشيخ المظهر الجميل الوقور!. قال آخر: دعونا من هذا، لاحظوا الخواتم التي في يده إنها ثلاثة، من ياقوت وعقيق وفيروزج!. قال ثالث: لكن ما باله يبدو كئيباً، مع أنه الآن يمسك بزمام الحديث! ويرسل النكات والطُرف!. فتهامس إثنان منهم، أحدهم أعلن، فاستاء زميله الذي أسَرّ إليه ما في رأسه من تأويل لسر كآبة الشيخ؟ قال: لا يبدو إن الشيخ هو الذي سيجري عقد القران؟
وغادر صاحبه مكانه والتحق بتجمع آخر، خشية أن يتسع الخرق على الراقع؟ ولاح شبح شاب قوي، يستعرض حلقات الضيوف المدعوين فناداه حداوي: محينه، محينه، منهو تريد؟
أجابه محينه: أبغي هادي، شو ماله ذِجر؟ من العصر جان إهنا، بعدهه مَحَد يدري بي وين! لا اُهو ولا عبد! وجماعته معَلمِيه ينشدون عَنَه!
ردّ عليه حداوي: سمعت إجا خُبَر بِعَجَل، اُمه مريضه ومخطوره! ويلي عليه!
وحانت الساعة الثامنة مساء، فاعلن أحد رجال الشيخ، إلى وجهاء المدعوين، وقادهم حيث أمتدت طاولة كبيرة في حديقة القصر وعليها أنواع الطعام. وكلما أنتهت جماعة تحولوا إلى طاولة ثانية حيث الفواكه والحلويات. وتقدمت جماعة أخرى إلى طاولة الطعام. والمكلفون بتنظيم مائدة الطعام، وما يتبعها، كلهم من المتخصصين بهذا، وقد جلبوا من بغداد لهذا القصد.
وبدأ دور عاديي المدعوين. بينما قدم الوجهاء تهانيهم وعادوا من حيث جاؤا. فانطلق الباقون من قيد الصمت والأدب، إلى الضحك وتبادل النكات والطُرف. وتعدت المسألة إلى أبعد من هذا، فقد شكل بعضهم حلقات علت منها أغاني الأبوذية تنساب إلى الآذان انسياب الماء في الساقية، يتهادى فيها فيثير المشاعر الحساسة، وبين عجيج أصوات السيارات، وأغاني المطربين، وحركة الخدم والمشرفين المسؤولين عن المائدة، وتوجيه سائر المدعوين كلٌ حسب مكانته إلى احدى الموائد.
هذه ساعة تشغل بال المدعوين الذين لم يأت دورهم، خصوصاً وإنهم من سائر جهات اللواء. ومسؤولية تصنيف الناس المدعوين حسب رتبهم الطبقية لابد منه عند مثل هؤلاء. ترافق الحركة المتواصلة، اهتمام آخرين بتوديع الذين يغادرون المكان إلى قراهم أو إلى المدن التي جاؤا منها. لم يبق إلا عاديوا الناس، بعضهم بل كثير منهم، يحضر بدون دعوة، فهو من أهل البلد، ومن أبناء العشيرة نفسها. لذلك أختلف الوضع فقد انطلقت أصوات بعضهم بالتعليقات، بل بالهمز واللمز، ونقد خفيف لأفراد يُعَدّون من الوجهاء، بينما هم ينطبق عليه المثل (ان سكت جدار وان نطق حمار) ومهما يكن من أمر، فانه ما يزال هنا من تقدم إلى المائدة وآخرون يغادرونها. وأبواق السيارات القادمة والمغادرة تعلو فوق كل الأصوات.
لكن أصواتاً انطلقت تختلف عن كل الأصوات، الكل ترك كل ما كان يشغله، طعام، أو حديث، أو مرح، أو غناء. ان الأصوات التي طغت أصوات نواح وعويل. وتدافع الناس نحو جهة لاحت لهم نارٌ تتأجج. صاح بعضهم: إنه حريق ...
آخر: أجل. وانتبهوا ... صوت سمعته، إن إنساناً أحترق بهذه النار. من هو؟
أجاب آخر: الجهة التي فيها النار هي ضمن بيوت الشيخ!
حثت الجموع أنفاسها تجاه المكان وقد بدا اللهب يخف بفعل جهود القريبه منه. ولكن ماذا حدث وكيف؟ وهل حدث لأحد أذىً؟ لكن العبد "ذهيب" وكان أول من ترك مسؤوليته وأندفع نحو اللهب كان يضرب بكلتا يديه على رأسه، وهو يصيح ...
- يا ناس أشتم ريحة ابن آدم بالنار.
فضاعف الناس جهدهم يزيلون النار من مكانها، ويرشونها بالماء لإطفائها. ذهيب أكثرهم حماساً، واهتماماً، وكان وهو يعمل يصيح ... يا رب.. أنت تدري. ﮔلبي نظيف ويشتم المصايب قبل ما تنزل. أمسك به أحدهم وهزه، وقال:
- ذهيب. الزم نفسك، ما انت وحدك، كلنه يذهيب، خَلهَ يَم الله. وأندفع ذهيب فوق الجمر الذي ما تزال ألسنته تتحرك وتعلو وتتلاشى. وفجأة صار ذهيب يصرخ:
- أويلا عليج فخريه!
وأنحنى على الجسد المحترق يمرغ خديه عليه، ويجأر إلى السماء: - ليش يا ربي؟ ليش؟!
لقد انقلب العرس مأتماً. والهلاهل نواحاً. وساد الحي وجوم، ولكن النظرات كانت معبرة تشير إلى مدبري الجريمة.
وصاح فلاح فقير: - انشلّت أيده السواهه ودَبَرهَ يفخريه، الله ياخذ بحگج يفخريه.
وبعبرة مَخنوقة صاح: الك يوم يا ظالم!

للمربي الراحل علي محمد الشبيبي
كربلاء – 25/06/1963



1- الأبوذية من الشعر الغنائي العراقي الرائع. في كثير منه معاني شعرية عميقة، وقد كتب عنها كثير من المعنيين بالشعر العامي الشعبي وأنواعه. والبستة هي غناء معروف، يغنى منفرداً أو بعد أغنية "الأبوذية" وسابقاً لم نعرف منه إلا ابياتاً لا ربط بين بيت وآخر شرحت عنه في (ذكريات معلم)/(ذكريات معلم تم طبعها ونشرها بعنوان – ذكريات التنوير والمكابدة الرائد علي محمد الشبيبي-الناشر)
المفرخه: الأطفال؛ يگضون وياهه التوبه: أي يزعجونها!؛. تلبح: تهذر؛. ونيده: منهارة
3- سيد: يطلق على علوي النسب.
4- المتصرف: سعد صالح جريو (من ذكر أسم المتصرف يظهر أن الوالد يروي أحداث قصة حقيقية عايشها ويعرف أبطالها، وربما غير الأسماء والمكان والظرف/ الناشر)


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الناشر محمد علي الشبيبي
السويد/كربلاء 03/10/2017
الهامش:
*- ترك والدي طيب الله ثراه من بين مخطوطاته مجموعة من القصص القصيرة، آملا أن تسعفني الظروف لمراجعتها ونشرها تباعا، على أمل أن أتمكن من طبعها في مجموعة قصصية. وهذه القصة من ضمن إحدى مجموعته القصصية التي خصها بعنوان "السر الرهيب" لأن معظمها يشترك بسر ما.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى