جمال نيازي - تمثال الشمع

لا أذكر أني تذمرت يوماً أو جهرت بالشكوى.. ولا حتى أسررت بها إلى نفسي.. مئات البشر من مختلف الأجناس و الأعراق و الأعمار يأتون لزيارتي كل يوم.. يقفون بجانبي و يرسمون على وجوههم إبتسامة ظاهرها السعادة و باطن معظمها إغاظة الأصدقاء و الأقربين الذين سيرسلون إليهم صوراً إلتقطوها لأنفسهم بجواري.. تمثال شمع أبدع صانعه أيما إبداع و أخرج فيه مكنونات العبقرية كلها حتى صار يحاكي الطبيعة تماماً فيكاد الناظر من بعيد يراني إنساناً حقيقياً من لحمٍ و دم حتى إذا ما اقترب مني وجدني تمثال شمعٍ بديع الصنعة أجلس على مقعد أبانوسي أسود واضعاً ساقاً على ساق فيشهق بعضهم انبهاراً و يتمتم آخرون تعجباً.. معظمهم يلتزم بتعليمات متحف الشمع الواضحة "ممنوع لمس التماثيل أو استخدام الفلاش أثناء التصوير" .. و ربما ساعدتني تلك التعليمات و تفهم الناس لها على عدم التذمر طوال سنواتي الأربع هنا بين باقي التماثيل.. أروع ما في الأمر هو اختلاف الوجوه التي تزورني كل يوم حتى صرت أسلي نفسي كل صباح بلعبة التخمين أتحدى فيها نفسي من أي البلاد سوف يأتي الزائرون.. و الأروع أيضاً أن مكوث كل زائر بجانبي لا يتعدى الدقائق الخمس.. فلا ارتباط و لا تعلق بأحد.. لا حزن على فراق.. لا ندم على لقاء.. ولا لهفة لرؤية الغائبين.. و الأهم.. لا ملامة على من يمضي دون وداع ولا من يضرب صفحاً عن السؤال أو الاهتمام.. صورة فيها ابتسامة أصبحت خبيراً في كشف المزيف منها ثم يمضي الزائر إلى تمثال اخر.. ماذا أريد أكثر من ذلك.. أربع سنوات بين أقراني من تماثيل الشمع.. لا ننظر لبعضنا البعض.. لا نخاطب بعضنا.. وجوه و أجسادٌ بديعة الصنع و عبقرية التصوير لكن لا قلوب.. و هذا هو الأهم.. مساكين هؤلاء البشر.. معذبون بقلوبهم يفتكون بها كلما تعلقت امالهم بأحد أو بشيء ثم خُذلوا و افة الحياة الخذلان..
التاسعة من صباح كل يوم أتخذ مجلسي فوق المقعد الذي ارتأى مصمم المتحف أن أجلس عليه و في العاشرة يفتح المتحف أبوابه للناس و في الرابعة أستريح ساعة ثم أعاود الجلوس و استقبال ذوي القلوب من البشر حتى التاسعة مساء موعد إغلاق المتحف... ثم ..
⁃ ما زهقتش من قعدتك دي كل يوم بقالك ٤ سنين يا عم صالح.. انت بقيت فعلاً كأنك تمثال شمع زي باقي التماثيل اللي في المتحف.. ماحدش من الناس قدر يكتشف أبداً إنك بني ادم زيهم لحم و دم
⁃ لأن الناس اللي بتيجي المتاحف دي يابني بيفهموا مش زيك.. و علشان كده كلهم فاهمين و متأكدين إن أنا تمثال شمع..
تمت

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى