أحمد بنميمون - لحنٌ جميل.. قصة قصيرة

كل مرة أغادر محل سكناي بين الفينة والأخرى، لا أحس شيئاً يضايقنني مثل عيني هذا الرقيب ألذي أحس كأنه يكمن لي عند هذه العطفة التي اختار من ببيتي في لحظة ضاحكة بألمٍ أن يخيرني بين أن نسميها عطفة «جلاس ـ كو» أو منعطف « مسكين ياهو» ، فهو يترصد خرجاتي ودخلاتي جميعاً، هذا الشيخ صاحب هذا الدكان، لاختياره أن يلازم مكمنه طوال نهاره إلى ما بعد العشاء، لا يغيب إلا في أوقات ينادي إلى الصلاة فيها أكثرُ من مكبر صَوْت، فوق أكثر من مئذنة ،كلها تتنافس في أن يبلغ صوتها أقصى ما تطيقه كهرباء هذه الأيام، بعد أن كان مؤذنو الزمان الأول يتنافسون في الوصول إلى ذلك المدى بحناجرهم الطبيعية، لاعتقادهم أن الله يجازيهم على ذلك بحسب الآذان التي تصلها أصواتهم المجردة، ولذلك كنت أختار أوقات خروجي مع أوقات الأذان، غير متعمد تضليل أحد بأنني أقصد مسجداً أو مكان صلاة جماعية ما ، فإذا اقتربت من منزلي أثناء رجوعي تعمدتُ أن أمر من طريق التفافية حتى لا يراني رقيبي الذي يقوم بمهمته في سبيل لله وحده، دون أن يكون مكلفاً بإحصاء تحركات شيخ مثلي ممن «فاتهم القطار»، ولم يعد يثير تخوفات أية جهة، وإن بقي فيه شيء من سوء الظن على سبيل الحزم ليس غير، أم هو حزمُ غير نافع إلا من حيث ما يعود به على النفس من طمأنينة وراحة بال.
….
فإذا بلغت الموقف الثاني مررت ببائعة الخبز التي تبدو أنها تعمل بذاكرة معطلة، ومسحة جادة تعلو وجهها الذي أشبه برغيف القمح الضارب إلى السواد، فهي لا تكاد تتذكر وجوه زبائنها، وإن تذكرت ما كانوا يرتدونه حينما وقفوا إلى خزانتها الزجاجية التي تملأها خبزاً من مختلف أنواع الحَب.
فإذا عبرت بعدها ملتقى الطرق الأول رأيت صيدلية تحمل اسم الحي،وإن لم تكن صيدليته الوحيدة ، وتركت على جانبي مقهى الكيتكات فتذكرت الفيلم والرواية التي أخذ عنها، وهي مقهى تخلو نهاراً كما اعتدتُ أن أرى،، وربما كانت لا تزدحم بزبنائه إلا ليلاً.
ثم تابعت طريقي لأمر بصالون حلاقة نساء، أثارني اسم ملكة الجمال وصورتها اللذين يزيِّنان زجاج واجهته، ثم تجذبني على بعدٍ رؤية مبنى من مخلفات عهد قديم، يقع في جانب من الشارع الذي أريد أن أصله، لكن ليس قبل المرور بدكاكين كثيرة ومحلات إصلاح درجات هوائية ونارية ، ومحل لبيع محركات الري، قبل أن أصل إلى مكان بيع مستلزمات البناء الذي يقابله على الجهة الأخرى ، محل واسع للنجارة وبيع الخشب من جميع الأحجام والأصناف .فإذا بلغت أعلى الشارع انعطفت يساراً لأرى مقاهي صغرى تزدحم بالفلاحين والعمال، الذين تكفهرُّ وجوههم، سواء أأمطرت السماء أم لم تجُدْ، لا أدري لماذا، وإن كان السبب العام لاكفهرار وجوهِ سواهم من الناس غير مجهول.
هناك طريق تمضي في اتجاه لا أريده الآن ، أمر على جدار تعلوه أسلاك شائكة لتحذير من بالخارج ومنع من بالداخل أن يفكر في التسلل بأي طريقة كانت، ثم هناك سوق سمك ، تواجهه سوق خضار ولحم طير وما يشتهون من لحوم للَّا رقية وحوانيت بهاراتٍ وقطانٍ.
فبعد ملتقى طرق متوسط أمر بالشارقة فأتأمل الاسم وكأنني أراه لأول مرة ،وأستعرض معانيه الكثيرة ، فيخيفني منها ما يذكرني بالاختناق والغصة وضيق الصدر، إلا أن ما يقتحم عليّ رؤيتي بعدها بقليل يهدئ بعض رُوعي، فبيروت التي تقابل أثينا على الضفة الثانية من شارع المدينة الكبير الذي يشرع في الامتداد من هنا إلى أن يصل أقصاه في قلب حاراتها القديمة. يقلب غصتي فرجاً، فأزدرد مفاجأتي مع ابتسامة راضية ، وإن ظلت الوجوه من حولي كابية كعهدي بها على كل الأرصفة، منذ حللت بهذه الحاضرة. وقد شغلني ما مررت به إلى الآن عن ملاحظة أماكن إدارية وكنيسة معطلة، ودار ثقافة تجاهد أن تعمل ، لكن كيف يقوى على تنشيط ثقافي موظف ، بوجه مربد منفر عابس، كل ما يشغله ملاحظة حركة عقارب ساعته التي يقتله بطؤها، فيتمنى النوم في ساعات يكون وقوف من يريد نشاطَاً فكرياِ، كوقوف عزرائيل أمامه.

بلغتُ مدار المقبرة الذي يكبر كل ملتقيات الطرق التي مررت بها إلى حد الآن، ويفوقها ازدحاماً، إذ تتفرع عنه أربع طرق، كل واحدة أكبر من أختها، لكنني أختارُـ لاقتناء ما أريد من رغبات هذه الظهيرة ـ الطريقَ الصاعدة في اتجاه المحطة ، كان هناك شرطيان يذكران العابرين ، راجلين أم ركاباً، بوجود الدولة، وقوانينها القديمة والجديدة ، فأختار عبور الشارع تحت عيني شرطيٍّ، وأنا أنظر إليه، لأجده ينظر بدوره إلى شيء في السماء يراه وحده، فقد كانت السماء هذا الظهر شديدة الزرقة، ولا شيء يعبرها ، قدر من يعبرون الشوارع الآن، ممن يخافونه أو يخشون صفارة لا يعلمون ماذا يرى حين يطلقها، وفي الحقيقة هزني ارتياح خفيف عابر وأنا أؤكد لنفسي أنه لولا وجود هؤلاء الرجال، لاستحال السير على الجميع، ولَطغى الأقوى على الأضعف، وكوني ضعيفاً منذ كنت، فقد أحسست بسرور قليل ظل يغمرني حتى واجهتني إشارة ضوئية في محطة وقود انشغلت بقراءة أثمان ما تبيعه، ودون أن أهتم بالمقدار الفارق بين ثمن كان، وآخر جديد.
كنت أحاول العبور من جانب طريق صغير إلى آخر، لأقرأ على أول جدار اسم شهيد ، اكتفت اللوحة بذكر اسمه مع حذف صفته التي ارتفعت بهذا الاسم حتى وُضع حيث هو على قارعة هذه الطريق، فتألمت. ورغم ذلك لم أكن لأتوقف عن السير بخطو سريع وكأنني جرو صغير انطلقت أعدو، بعد حبس طويل، و لم أتوقف منذ غادرت بيتي قبل عشر دقائق أو تزدن قليلاً، وكل الوجوه التي تمر بي عابسة أو كابية، لأبدو في انبهاري بينها ، وكأنني كائن خارج ـ أرضي، هبط من كوكب آخر بحثاً عن ابتسامة لم يجدها على أي وجه، في هذه المدينة السرداب، التي لا أدري لماذا لا يضحك الإنسان فيها ، حتى ولو كانت الابتسامة من صميم متطلبات ما يمارسه من عمل أو يخوض فيه من مهام.
….
أقف أمام محل بيع صحف عناوينها لا تَسُرُّ، وإن حاولت جلب اهتمام الناس بمواضيع إثارة ، لا تنقل معرفة أو تخبرُ بجديد. وكانت الأشجار بغصونها الدانية من الأرض تزيد نفسي انقباضاً، وقد بدأ انتشار الباعة المتجولين الذين نشطوا قبل ساعتين من مروري في بسط ما يبيعونه، لكن مع وجوههم المنقبضة دائماً ، والتي تنذر الجميع بأنها إن لم يسمح لها بممارسة ما تقوم به ، فهي فد تنفجر لا محالة بعد قليل.

كنت من قبلُ أدندن وأنا أمشي ، لكني الآن لا أقدر أن أرفع صوتي بلحن أو حتى أن أغمغم به، فالشارع الواسع قد ضاق رصيفه المحاذي للمواقع التجارية فيه، بفرَّاشة كثيرين، وإن تشابهت معروضاتهم، ساعات وطرابيش واحزمة وهواتف نقالة، لكني رغم مروري السريع استطعت أن ألتقط من فوق عربة توزع البخور والسبحات وتبيع الأدعية المختلفة، عنواني كتابين عن عذاب القبر ، والآخر: عن أنوار اليقين ، وتساءلت:
اليقين ؟
ثمَّ عقبتُ:
ما أهدأ تلك النفوس التي يعمها نور اليقين
وتذكرتُ طفولتنا ذات جيلٍ بعيد ، وما كان يغمرها من طمأنينة ، وكيف أنني كنت أتصور مشهد القيامة وحضور الذات الإلهية على مرأى ومسمع من الناس، راجعاً القهقرَى وأنأ أقرأ « وجاء ربك والملك صفاً صفاً «مع استحضار تأويلها ، فأستعيد بعض هدوء يقيني القديم.

بدأت العبور أمام مطاعم شعبية بسيطة ، ومقاهِ بوجوه مُرْبَدَّة كالحة، ودكاكين حلاقة كثيرة ، رغم أن أكثر الناس ذوو لحى وشعور مرسلة، وثمة أماكن أخرى لبيع مصابيح مطفأة لغرف النوم، وثريات بلا ضوء لإنارة أبهاء البيوت، وكانت غيوم الدخان الأزرق الجفون ، تزيد نفوس المارة حول هذا العالم انقباضاً ، مع تضارب روائح الأطعمة وألوانها التي لا تفتح شهية حتى أشقائنا تحت حالة حصار، في يمن كانوا أم في شام، أو في مخيمات عار، كل هذا وأنا أسعى إلى حيث يمكنني شراء بعض طعام ، أو ما أشبه، مما يخف حمله، لأزدردَه معزولاً، بين جدران لا مرئية بعيدة.
….
اقتحمت المحطة كأنني مسافر أريد الحصول على تذكرة ، في وقت كان بها أكثر من حافلة ، لكن مع ازدحام غير معهود، فتذكرتُ أننا في عِزِّ العطلة، وقد نشطت أسفار الناس، وإن قل ما بأيديهم وضاقت نفوسهم، وهم بسبب من ذلك يسعون إلى الحصول على أيسر ما يفرجون به عما يضجون منه ما استطاعوا ، وإلا انفجروا لا قدر خالقُهم، وإن كانوا كثيراً ما يفعلون إذا اصطدم مقهور منهم بمقهور
….
بلغ بي السعيُ ، أن نالني شيء من تعب المسير، فمِلْتُ لأختصر الطريق نحو باب المحطة الثاني الذي لاحظت منذ مروري الأول به، جلوس رجل في مثل عمري، أو يدانيني قليلاً، كنت أتجنب النظر إليه ، كعادتي مع كل من أحسبه من أولئك الذين يضايقون الناس ، فإن لم يجدوا سبباً لذلك مدوا إليك أيديهم، فإن رأوك تهرب لاحقوك بأصواتهم التي تدعو أو تسُبُّ ، لكنني مع صاحبي الذي كان عابساً ساكتاً في هذه المرة، لم ينلني مكروه، ، فعبرتُ سالماً ، لأتأخر في طلب غايتي من مكان غير بعيد، مدةً قد تكون عشر دقائق على الأكثر، وأثناء رجوعي رأيتهم أيضاً …صحبة أعوان السلطة وكانوا قد فرغوا لتوهم من إخلاء المكان مما سموه احتلال ملك عام، وقد تجمعوا حول إحدى سيارات فصيلة من قواهم، وقد ألفت مشاهدتهم وهم في مثل تجمعهم هذا في أكثر من مكان، ليشعرونا أنهم موجودون. وعلى غير عادتي أردت أن أعود من نفس طريقي التي جاءت بي من قبلُ. فكان أنِ انبهرتُ بما رأيتُ من حال صاحبي الذي ترك عبوسه وصمته المألوفين بباب محطة المسافرين، ليرتفع صوته بغناء غير مرتبكٍ، وهو يحمل قنينة ويسكي ويغني:
الحبُّ …لحنٌ جميلٌ.
ثم يجمع شفتيه ويطيلهما وهو يقبل زجاج قنينته التي كان قد عبَّ منها ما يقارب الربع، وهو يبتسم في رضىً.

وشردتُ وأنا أفكر:
كم يكفي كل من مررت بهم ، من ذوي الوجوه العابسة والنفوس المنقبضة، على أرصفة هذه الحاضرة غير السعيدة، من قناني ويسكي ، حتى يغنوا لحنَ صاحبي الجميل، بصوته الرزين غير المضطرب، فينزعوا عنهم أقنعة العابسين ولو إلى حين؟

أحمد بن ميمون

10/07/2020

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى