جعفر الديري - الشُّعراء الشباب وإشكاليُّة الظهور.. كتب - جعفر الديري

يعروني الحزن في كُل مرَّة أستمع فيها لشاعر شاب، يشكو أحوالا ينكوي بنارها الموهوبين، المتفجِّرين حمَاسا ورغبة للمجد الأدبي.
إنَّه يشكو ضعف الاهتمام الرسمي والأهلي، وانعكاس الأضواء على مُدِّعي الشعر والثقافة، أساتذة النفاق والمجاملات كما يصفهم، وانحسارها عن المؤهَّلين لتقديم كل رائع وجميل.
يشكو ضبابيَّة تقييم المنتج الشعري، سواء من قبل النقُّاد والمشتغلين على النقد الصحافي، أو من قبل المُتلقِّين العاديين أنفسهم، الذين يرفعون شأن الشاعر متى ما كان نتاجه، مُعبَّرا عن مبادئهم ومعتقداتهم، قريبا من مداركهم وثقافتهم التقليدية، وينزلون من قدره، متى ما حاول الانطلاق في آفاق أرحب عن أجواء المناسبات.
والحقُّ أنني شخصيا، لا أخال شاعرا أو مشتغلا بالأدب، لا تمرُّ عليه مثل هذه الخواطر البغيضة المرهقة للنفس، بل إنها تبدو أشدّ مرارة لدى من قطع سنوات، يعمل جاهدا على تنمية موهبته، وتثبيت اسمه في الساحة الأدبية والثقافية.
وفي رأيي القاصر أنَّ هذى الشكوى، تصدر عن سببين أو عاملين رئيسين، تتفرَّع عنهما بقيّة الأسباب، الثاني غياب النقَّاد، وأعني بهم النقُّاد الأكاديميين المتخصِّصين في النقد الأدبي، حملة الشهادات، المشتغلين على المادة الأدبية دراسة وتحليلا وفق المناهج الأدبية، وليس نتيجة انطباعات عامّة، يمكن أن تُلقى على أيِّ أثري أدبي أو فنِّي.
أمَّا السبب الأوّل، فيعود لعلل الشاعر نفسه، هذا الذي ما زال وللأسف، يحمل في داخله ذلك الإرث البغيض، يوم كان الشعر مجالا للتكسُّب، والحظوة لدى الأمراء وأصحاب النفوذ.
لقد أراحنا الله تعالى، من الوقوف بأشعارنا عند تلك الأبواب، إلاَّ أن بعض شعرائنا، خلقوا لهم من الأوهام، أسيادا، يطلبون عندهم الاعتراف بمواهبهم، والحفاوة بنتاجهم، وكأنَّ الشاعر لا يكون شاعرا إلا متى ما رضي عنه الناس، أو نشرت له الدورية الفلانية، أو دار النشر الشهيرة!، بل تجد بعضهم ينقم أشدَّ النقمة على المركز الفلاني أو الجهة الفلانية، لأنَّها عنيت بنتاج فلان ولم تهتم بنتاجه هو، أو منحت جائزتها لفلان دونه!.
والحال أن الشاعر أسمى وأجلّ مقاما من أن نضيِّق عليه الخناق، ونحصره بتقدير الناس، فهو وإن كان يحتاج لبعض التقدير، لا يمكن مقارنته بالممثل مثلا، الذي يستمد مكانته من النظَّارة، ومتابعتهم لأعماله.
وحتى لو قيل أنَّ آراء القرَّاء مهمَّة، من أجل الكشف عن مواطن الخلل والقصور في التجربة، وتداركها في النصوص المقبلة، وهو كلام حق، فإن هذا الكلام يصُح أيَّام ما كانت المعرفة محصورة في الكتب والمكتبات، وليس في هذه الآيام التي يستطيع فيها الشاعر الاطلاع على أيِّ نتاج يريد، والاستفادة منه في تصحيح مسار تجربته.
هذه ليست دعوة للشعراء للتخاذل، وإهمال مواهبهم، بل بالعكس هي دعوة لمضاعفة الجهد والمثابرة، لكن بهدوء ورويَّة، بعيدا عن رقابة الناس، وأحكامهم. والفرق هنا أن الشاعر لا يجعل بينه وبين موهبته ثالثا، فهما في وفاق تام.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى