عبد الرزاق بوتمُزّار - ماسحُ الأحذية... قصة قصيرة

وضع آخرَ لمساته على حذاء الزّبون، الذي يمدّ رِجله أمامه في ترفّع. "ها قد حصلتُ على ما أقتل به هذا الجوع اللعينَ، ولو إلى حين!".. قال في نفسه. رمى إليه الرّجل بالدرهم واختفى، دون حتى النظر إليه. تلقَّف الدرهمَ وقلبه بين يديه. أشرق وجهه الشّاحبُ بابتسامة خاطفة. وضع الدرهمَ داخل جيبه الوحيد غير المثقوب وهرول في اتجاهٍ معين.
تهالَكَ فوق الكرسي الطويل. سحبتْ سيدةٌ أطراف ثوبها وشدّدتْ قبضةَ يدها اليسرى على محفظتها، قبل أن تعود إلى آنية الحساء. وعلى اليمين، نظرةٌ ذاتُ معنى تلقّاهُ بها الجالس. غرق في تساؤلاته: "لماذا كل هذه الاحتياطات الزّائدة؟"..
انتشلته الرّائحة القوية للحريرة من شروده. وقف الخادم أمامه في انتظار طلبه. أشار إليه أن يملأ له آنية لكنه تردَّد. لا شك أن نظرة "المْعلّمْ" هي السبب. أخرج الدرهم وناوله للمْعلّـْم، الذي شرع في فحصه والتدقيق فيه، قبل أن يحدجه بنظرة دهشة؛ وكأنه لا يصدق أن يجود مثله بدرهم سليم! وضع العاملُ الآنية أمامه وانسحب. عجب لتأثير تلك القطعة الصّغيرة.
كانت الأبخرةُ تتصاعد من الآنية، فأخذ يُحرّكها. تناهى إلى سمعه صوتُ الحْلايقي الغارق في سرد عنترياته. رفع عينيه صوب الصّومعة الشّامخة يتأملها كعادته. وحين عاد إلى الآنية أمامه، وقعت عيناه على وجهٍ جميل لطفلة تجلس قُبالتَه، مُحاطةً بوالديها. تعلَّق به نظرُ الطفلة المندهشة التي لكزتْها أمها تدعوها إلى احتساء مشروبها. لكنّ نظر الطفلة ما لبث أن عاد يتفرّس في وجه ذلك البائس أمامها. راح يُبادلها النظرات، وقد حلّق به خياله إلى البعيد، عبر تقاسيم وجهها الملائكيِّ البريء.
نَهرت الأمّ طفلتها بشدّة، فانتبه من شروده على صوت بكاءِ الصّغيرة وكلماتِ أمها المؤنبة، فأعاد عينَيْه إلى صفحة السّائل أمامه؛ وكأنه يحاول أن يُتمّ قراءةَ ما بدأه على صفحة وجهها.
لا يدري كم مرّ عليه من الوقت. لكنه، حين انتبه إلى نفسه، وجدَ دموعه تنهمر غزيرةً على خدّيْه لتنتهيّ إلى آنية الحساء، مُحْدثةً عليها دوائرَ صغيرةً. انتفض في مكانه. نظر إلى المقعد حيث كانت تجلس. لم يجدْها هناك. تناول أشياءَه البسيطةَ. غادر كرسيّه المضعضع. أطلق تنهيدة عميقةً، وهو يتجرّع مرارتَه في صمت. حشرَ نفسه بين أفواج الناس وابتلعتِ السّاحةُ جسدَه الضئيلَ وطوتْ حكايتَه بين جوانحها إلى الأبد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى