شريف عابدين - قصة مؤاخذة الجحش بقضم الجزرة

ذلك الصبي الهادئ الخجول المتلعثم كان مملوكًا لشاهبندر التجار حين أهداه لكبير العسس في البلدة.. وحين عهد إليه الكبير بقيادة الدابة التي تحمل ابنته إلى كُتَّاب الشيخ، كان يؤكد ثقته العمياء.. والحقيقة أن أحدًا لم يختلف على ولائه وأمانته.. أشاد به الجميع وأثنوا على وداعته ودماثته

*

لكم كانت جميلة تلك الفتاة الصغيرة.. رغم كل القيود الصارمة والتقاليد العتيقة كانت تتسم بالمرح والنشاط الدائب، لا تهدأ أبدًا عن المشاكسة وتدبير المقالب.. ويحرص الكل على ترضيتها وعدم مضايقتها؛ فقد كانت قرة عين الكبير.

*

ما حدث في ذلك اليوم لم يتوقعه أبدًا؛ فما أن هم بمساعدتها على النزول من الهودج في باحة الكتَّاب، حتى عاجلته بمد يدها نحو عينه معتصرة قشرة اليوسفي، بينما انهمكت في تلمظ ثمرتها الناضجة بتلذذ، وهي تقفز في رشاقة غير عابئة بما ألمَّ به.

*

ظل يدعك في عينيه حتى صارتا ككأسي دم تنسكب منهما الدموع، وحين حاول أن يلحق بها اصطدم بأحد الأعمدة وصاح من الألم فالتفتت إليه تتعجل إحضار حقيبتها.. سارعت نحوه.. فإذا بالغلام يئن في صمت، أخذت تربت على كتفه في حنو بالغ معتذرة عما اقترفته دون توقع ما حدث، لكن الفتى لا يستطيع الرؤية، يلوِّح فقط بيديه متلمسًا ما حوله حتى يكاد أن يترنح.
انخرطت الفتاة في البكاء في فزع، وانهمكت في تقبيل جبينه فاشرأبَّت إليها عنقه وتلامست الشفاه، وحين تذوق دمعها أخذ يرتشفه معتذرا بينما يلثم وجهها مجهشًا بالبكاء، واستغرقا في القبلات.
حين مرّ بهما الشيخ متوجهًا إلى حلقة الدرس، هاله الموقف صاح:
ـ أيها الشيطان ماذا تفعل؟
وأخذ يكيل له بعصاه الخيزران على مؤخرته؛ فقفز هاربًا، والشيخ يعدو خلفه متوعدًا.. لكن خطاه المتعثرة لم تسعفه لإصابته القديمة بشلل الأطفال فتمكن الفتى من الفرار.

*

اختفى الغلام تمامًا من البلدة؛ رغم جهود العسس، وانتشرت الشائعات في البلدة بأن “زلال عينها” أسكره حين ارتوى منه منسابًا على شفتيها فتسامت روحه وتبخر في الآفاق، بينما جرؤ البعض على اتهام الفتاة بإخفائه بعيدا عن أعين أبيها.

*

لكن واجبه ككبير العسس حتّم عليه أن يبلغ الواقعة إلى قاضي القضاة، خاصّة بعدما شاع الأمر وتناقله العامة والخاصة.
قال له قاضي القضاة:
ـ الأمر لا يستحق.. لا يتجاوز جزرة قضمها جحش!

*

لو لم يذع الخبر لانتهى كل شيء، لكنها صحف المعارضة ومصورو (الباباراتزي) ممن يقتفون أثر الفتاة التي لم تخف روعة تلك القبلات وأسهبت في وصفها لصديقاتها.
غمغم الكبير:
ـ لو قُبض عليه؛ لقمت بتصفيته في سكون!
ثم زفر طويلا:
ـ لو لم ينتشر الخبر كالنار في الهشيم!
ردد البعض:
ـ لابد أنها كانت تمزح كطفلة حين اعتصرت ببراءة قشرة اليوسفي.
وصرَّح البعض الآخر بأنها كانت تود أن تجلو عين الفتى التي تتجنب رؤيتها حتى ينتبه إلى جمالها .. بينما أشاع الكثير من الناس أن عين ذلك الفتى القارح كانت تستدعي أن تصوب لها رصاصة لا أبخرة زيوت اليوسفي العطرية لأنه كان يختلس النظر إلى فتنتها.. لكنهم اتفقوا على أنهما لم يفترقا، وأن الفتاة لو أبدت أية شكوى منه لأرسله والدها إلى ما وراء الشمس.

*

لم تتوقف البلدة عن الخوض في سيرة الفتاة ورسم العديد من السيناريوهات المثيرة، وصارت أمثولة القاضي بالجحش الذي قضم الجزرة رمزًا للتهكم على العسس فكان الناس يمطون (بوزهم) كلما مرّوا بأحدهم، وينقشون مخطوطًا صوريًا للجحش على الجدران صار رمزًا للتهكم من السلطات.. وصاروا يطلقون المثل على كل المواقف التي تتماهى أو تفتقد أي علاقة بالسياق على سبيل التهكم، وأصبح الجحش أيقونة للتندر والطرافة.. واجتاحت صورته الرمزية في وضع القضم شبكات التواصل الاجتماعي.

*

هرع كبير البصاصين إلى القاضي مناشدًا وضع حد لتلك المهزلة فأجابه مجددا:
ـ الأمر لا يستدعي حنقك، هي بالفعل جزرة وقضمها جحش.
استشاط غضب الكبير:
ـ كيف والبلدة تتحدث عن تقبيل ابنتي؟.. لابد من ردع ذلك الآثم.
رد القاضي:
ـ تلك مهمتك.. لقد فرَّ من أيدي رجالك.
قاطعه الكبير:
ـ إذن لابد من ردع ذلك الجحش الذي يطاردنا الدهماء بأمثولته.. لابد أن نغلق الملف.. أين عدالتكم الناجزة؟

*

اجتمع قاضي القضاة بمستشاريه، أخبرهم باستياء الكبير، واقترح عليهم ترضيته بعقد جلسة عرفية لمحاكمة الجحش الأقرب لمحل إقامته. قال الجحش:
ـ قضمتها ولم ألتهمها.. نلت الجزء وليس الكل، ثم أنها جزرة وليست تفاحة، كما أنني حمار صغير.. لدي العذر أنا! حمار موسوم بالغباء.. وصغير.. أي لم أَرْقَ إلى درجة تخلف الحمار اليافع.. ولا تتعدى المقولة إعدادات مجازية لحسم الخلاف وإنهاء الجدل، ثم أنها لا ترتبط لدينا سوى بنموذج الجزرة والعصا في تراث المفهوم اللوجيستي.

*

عاتبه صاحبه حين أخبره المحامي بإمكان تحمله غرامة مالية:
ـ حرمت من المدمس.. أعيش على الفول النابت لأوفر لك القشر.. وأنت تأكل الجزر!.. لا أحرق التبن لتقتات أنت.. بينما أتوق إلى الدفء.
رد الجحش:
ـ يا سيدي هي قضمة افتراضية.. جدال محتدم بلا معنى في أمرٍ منتهٍ!

*

اعترض الجحش على التشبيه:
ـ ما علاقة الجزرة بالقبلة؟
تلك الأمثولة تذكر في سياق الجدال عندما يكون أحد الطرفين غير مقتنع ويلقي اللوم على الطرف الآخر.. ثم أن القبلة هي غذاء الروح.. بينما الجزرة غذاء للجسد.. الجزرة هي هبة الطبيعة.. القبلة هي هبة الحب.. يمكنك أن تتناول الجزرة سيرا.. لكن أثناء القبلة يتوقف الكون.. القبلة لا تُختلس، لا تُسرق!

*

عندما ألمح الجحش إلى أن هناك شبهة تواطؤ أراد القاضي أن ينهي الأمر حتى لا تتورط ابنة كبير العسس
ـ يا حضرات المستشارين لم تكن الجزرة سوى الحلم الذي داعب جحشنا.. مثلما كانت القبلة حلم الفتى
وقد توصَّل يقين المحكمة بما لا يدع مجالا للشك أن الأمر لا يتعدى قضم الجحش للجزرة متماهيًا مع اختلاس القبلة.. وعليه قررنا الاكتفاء بعقوبة جلد الفتى.. وقياسًا عليه يدفع ولي أمره الغرامة إحقاقًا للحق العام ويُجلد الفتى ترضية للمتضرر.

*

لكن هروب الفتى عقَّد الأمر.. وإمعانًا في تحسين الصورة أمام المنظمات الحقوقية، وحتى يُسلِّم المتهم نفسه للعدالة، انتدبت له المحكمة محاميَّا؛ فانبرى مدافعا:
ـ سيدي القاضي.. إن السياق لم يكن وديًّا البتة بين الفتاة وموكلي الغائب؛ فقد كانت تجبره على تناول شطائر الحلبة التي لا يطيقها، وأن ينسخ لها محاضرات الشيخ، كما أنها استعارت منه أعدادا من مجلة “تان تان” لم تردها حتى الآن!
لقد عُهِدَ إليه بمرافقتها قبل أن يخضرَّ شاربه، واستمر إلى الآن مكلفًا بمرافقتها على أجمل وجه إلى الكتَّاب بإشادة الجميع وشهادتهم.

*

في نهاية الجلسة أعلن القاضي:
ـ تتم محاكمة الجحش بدلًا من الفتى بالقياس!
صاح الجحش:
ـ لن أكون كبش الفداء.. البشر يفعلونها ونحن نتحمل نتيجتها
واستطرد:
ـ سيدي القاضي لم أختلس الجزرة من حقل الجار مثلما اختلس الفتى القبلة من ابنة كبير البصاصين.. لم أفعل.. هي تهمة افتراضية وقياس مجازي! نعم.. تهمة افتراضية وقياس مجازي.. لم أختلس الجزرة من حقل أحد!

*

يتمتم الجحش:
ـ ثم أن الأمر مفهوم جدًّا، ولا يصعب على جحش حصاوي مثلي فهمه.. إن التهيؤ لوضع القبلة سيدي القاضي يتطلب التموضع الإرادي للشفاه.
يصيح النائب العام:
ـ أحتج سيدي القاضي!
لقد كان ينوي تقبيل جبينها تعبيرًا عن الاعتذار وطلبًا للعفو.
يقاطعه الجحش:
ـ من يعتذر لمن؟
ـ ألم يفزعها عندما استشعرت أنه فقد الإبصار؟
حين اضطربت وأشاحت برأسها للخلف برزت شفتاها قبالته!
يقاطعه الجحش صارمًا:
ـ إن اقتراف الفعل تم بالتواطؤ.. ليس هناك ثمة سرقة أو اختلاس كما تدعون..
علق القاضي:
ـ تعني لا ضرر ولا ضرار؟
صاح الجحش:
ـ لا يسرق بيتك ونافذتك موصدة!
لا قبلة مختلسة دون تواطؤ!

*

لكز كبير العسس القاضي:
ـ تبًا لهذا الجحش سيقلب الطاولة تماما.. سيورط الفتاة
فلتسرع في حسم الأمر..
يعلن القاضي:
ـ يُجلد الجحش 50 جلدة.. يدفع صاحبه غرامة مالية.. يودع في خزينة المحكمة للحق العام 500 درهم.. رفعت الجلسة!
محكمة..

*

عند تنفيذ الحكم..
إذا كان عقاب القبلة رمزيا بجلد الظهر امتهانًا لمن امتهن كرامة أنثى.. بمعاقبته كالدابة وإهانته كما أهانها.. فليكن عقاب الجزرة واقعيا منطقيا بجلد البطن التي التهمتها..
انقلب الجحش على ظهره كالسلحفاة! متشبثا بالأرض!
زجره القاضي بعدما استشاط غضبه:
ـ هيا انهض أيها الجحش..
لم تتعد على شرف الجزرة لقد التهمتها ماديا استأصلت جزءًا منها.. لم تقتصر على كينونتها المعنوية كرامتها أو شرفها.. بل التهمت جزءًا عينيًا منها والعين بالعين.
نهق الجحش معترضا:
ـ ذلك هو الظلم بعينه! هل يتساوى قضم قمة مخروط الجزرة مع قاعدتها؟
وأردف قائلا:
ـ يا مولاي ليس من العدل أن تختزل القبلة (تلك الحديقة المثمرة من أشهى الفاكهة) في قضمة جزرة.. ألا يتجاوز تأثير فعل القبلة منطقة الفم؟
تمتم والد الفتاة:
ـ أيها اللعين!
وقاطعه القاضي:
ـ يُسجن الجحش لحين بت لجنة الحكماء في جواز قطع رأسه بدلا من ذيله بالقياس مع الجزء الذي قام بقضمه من أعلى الجزرة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى