د. محمد أبوالسعود الخيارى - المعطف الأبيض من سحر الرواية إلى صراع الوباء

تحدثنا فى المقالة السابقة عن تقديرنا للجيش الأبيض من أصحاب مهنة الطب الذين ينوبون عن سكان الكرة الأرضية فى مواجهة وباء كورونا، واقتربنا من عالم أولئك الأطباء الروائيين الذين صبغوا وجه الرواية المصرية باللون الأبيض. وخصصنا المقالة السابقة للأطباء الذين استطاعوا أن يعدلوا بين زوجتيهم (الطب والرواية) ؛ فاستمرت السماعة تطوق أعناقهم مادام القلم يعتصر بين أيديهم. ورأينا كيف فاز د. محمد كامل حسين بجائزتى الدولة (فى الآداب وفى العلوم)؛ وكيف أنجز د. نجيب الكيلانى قرابة خمسين مصنفا فى نحو أربعين عاما هى عمره الأدبى؛ وكيف قاد د. أحمد خالد توفيق دفة سفينة الكتابة المصرية من مكانه فى بر طنطا، وكيف أنه قد ملأ الدنيا وشغل الناس وهو الذى لم يفز بجائزة وحيدة، وظهر د.أحمد سمير سعد ليصبغ رائحة أوراق الرواية المصرية برائحة البنج مبدعا ثلاثة عشر مصنفا فى عشر سنوات.

■ روايات من كشك الولادة إلى الحضّانة

ينضم للفئة السابقة الذين حافظوا على عقل الطب ووجدان الرواية روائيان مصريان؛ الأول لم يزل يجلس فى عيادته بقريته (ميت مزاح) المجاورة للمنصورة يكشف على الأطفال وبيده الأخرى يبدع الروايات والقصص التى كررت الفوز بجائزة ساويرس مرتين؛ فى الأول فاز رضا البهات عن روايته (ساعة رملية.. تعمل بالكهرباء) مناصفة مع الروائى وحيد الطويلة؛ وهذا العام ألغى (شِفت) عيادته فى أواخر يناير ( ذروة شغل العيادات) ليذهب إلى القاهرة فى مهمة قصيرة هى تسلم الجائزة منفردا هذه المرة عن مجموعته (حكايات شتوية).

وقدم البهات المولود فى 1955 روايتى (بشاير اليوسفى) و(شمعة البحر) ومجموعة (طقوس بشر).

وإلى مكان صغير كُتِب عليه لافتة (ممنوع دخول الرجال) نذهب مع محمد إبراهيم طه إلى كشك الولادة؛ لنشاهد الروائى الخمسينى ينزع مولودا من بطن أمه؛ ثم هو ينزع الكمامة ويجرى ليسجل فكرة جديدة واتته فى مرحلة (الطلق) خاف نسيانها.

وكم كان موفقا الصحفى حسن عبدالموجود عندما وصف محمد إبراهيم طه بأنه محتفظ برونقه (كأنه استعمال طبيب).

ولد طبيب النساء والتوليد فى عام 1963 بقرية الشموت مركز بنها. وله ثلاث روايات (سقوط النوار- والعابرون- ودموع الإبل).

وله أربع مجموعات قصصية هى (توتة مائلة على نهر- والركض فى مساحة خضراء- وامرأة أسفل الشرفة- وطيور ليست للزينة).

ولدى الروائى طبيب التوليد رصيد طيب من الجوائز، فقد حصد جائزة الدولة التشجيعية فى القصة القصيرة 2001 وجائزة الشارقة للإبداع الروائى 2000 وجائزة يوسف إدريس فى القصة القصيرة 2008 وجائزة أفضل مجموعة قصصية بمعرض الكتاب فى القاهرة 2013.

■ أنف الرواية يستريح من رائحة البنج

الرابط بين مصطفى محمود ويوسف إدريس ونوال السعداوى ومحمد المنسى قنديل، وهو أنهم أظهروا القلق من الطب والشغف بالأدب. وبدت الصفقة بالنسبة لهم فى حاجة للحسم وشجاعة البيع والشراء؛ وأنه من يطارد عصفورين يفقدهما.

فترك د. مصطفى محمود (1921-2009) الطب وإن لم يترك لسانه مشرط الجراح؛ وأدرك يوسف إدريس (1927- 1991) بعد بضع سنوات بائسة أن شغلة الطبيب النفسى هذه فى طريقها لأن تجعله يغادر الكرسى إلى (الشازلونج)، ولم تنتظر وزارة الصحة نوال السعداوى ( 1931) لتقول لهم السلام عليكم؛ فبادروا هم وقالوا لها: (توكلى على مولاكِ) وصدر قرار فصلها منذ السبعينيات. ولم يكن محمد المنسى قنديل (1949) الذى استخدم نحو ثلاثة أسماء يتحرك بها على صفحات المجلات بأكثر صبرا من يوسف إدريس، فوضع شهادة الطب والجراحة على الحائط وانطلق؛ وبأسمائه الثلاثة (محمد المنسى قنديل والمنسى قنديل وأبوإيهاب) ملأ الدنيا كتابة.

■ ■ ■

■ مصطفى محمود أديب الأفكار الثقيلة

يقف مصطفى محمود السبعينيات فى مصاف النجوم، لا الكتاب؛ ولا تقل نجوميته بحال عن عبدالحليم حافظ ومحمود الخطيب وفريد شوقى. ومن الممكن القول إن مصطفى محمود بكتبه متوسطة الحجم وعناوينه الجبارة قد أسس لدولة الأعلى مبيعا؛ فكانت كتبه فى منطقة وبقية الكتاب يتنافسون فى منطقة أخرى.

تخرج مصطفى محمود فى كلية الطب عام 1953 وتخصَّص فى الأمراض الصدرية، ولكنه تفرغ للكتابة عام 1960.

وقدم للمكتبة العربية 89 كتاباً، حلق فيها فى الثقافة العربية وفنون الأدب طولا وعرضا؛ فكتب الكتب العلمية والدينية والفلسفية والاجتماعية والسياسية، إضافة إلى الرواية والقصة وأدب الرحلات والمقالات الصحفية.

قدم خمس روايات جاءت متتالية فى مرحلة الستينيات من 1960-1966 هى: المستحيل والأفيون والعنكبوت والخروج من التابوت ورجل تحت الصفر. وتمثل روايتا العنكبوت ورجل تحت الصفر نموذجين لرواية الخيال العلمى، وحصل بالرواية الأخيرة على جائزة الدولة التشجيعية 1970م.

وفى مجال الكتابة الفكرية قدم مصطفى محمود 44 كتابا لاقت رواجا كبيرا بين القراء؛ بدأها بكتاب لغز الموت 1959 وآخرها على حافة الزلزال 2002.

وفى القصة القصيرة قدم ثمانى مجموعات قصصية، منها (أكل عيش 1954) و(شلة الأنس 1964)، وفى فن المقال أحد عشر كتابا أولها (الله والإنسان 1956)، وفى المسرحية كتب سبع مسرحيات، منها (الإسكندر الأكبر 1963 وجهنم الصغرى 1982). وغيرها من كتب الرحلات ورسائل القراء.

طريقان سارت فيهما كتب مصطفى محمود؛ الأول نحو الجوائز، والآخر نحو ساحات المحاكم؛ فقد حصد عددا من الجوائز، هى جائزة الدولة التشجيعية سنة 1970 فى الأدب عن رواية رجل تحت الصفر، وعلى جائزة الدولة التشجيعية سنة 1975 فى أدب الرحلات عن كتاب مغامرة فى الصحراء، كما حصل على جائزة الدولة التقديرية فى الأدب سنة 1995.

أما كتابه المبكر (الله والإنسان) 1956، فقد تمت مصادرته وتقديمه بعدها للمحاكمة، واكتفت لجنة المحاكمة وقتها بمصادرة الكتاب، ثم رُفع الحظر عن الكتاب فى عهد محمد أنور السادات، ثم تراجع مصطفى محمود عن بعض الأفكار التى طرحها فى الكتاب واستبدل به حوارا مع صديقى الملحد. ثم تعرض بعد ذلك لهجوم جديد بعد صدور كتابه (القرآن محاولة لفهم عصرى)، وكانت آخر مشاكله مع الكتابة فى عام 2000 بصدور كتابه الجدلى (الشفاعة) الذى نهض رجال الأزهر وصدر للرد عليه أربعة عشر كتابا.

بقى القول إن مصطفى محمود قدم مدرسة فى التقديم التليفزيونى لا مثيل لها فى العالم؛ واستطاع أن يمنح المعلومة العلمية طعم القبول لدى مدمنى الكرة ومتعاطى المسلسلات. وحقق برنامجه المتفرد (العلم والإيمان) ما كان يحققه مسلسل (هارب من الأيام) فى السبعينيات. واستطاع عبر 400 حلقة أن يجعل العوام يعرفون شيئا عن العلم، ويجعل مقدمى البرامج يعرفون أن الناس يسمعون الصمت كما يستمعون للكلام.

■ ■ ■

■ يوسف إدريس.. الشمس التى حجبت النور

تظل الذاكرة الأدبية المصرية تذكر تلك الظاهرة الكونية التى حجبت ظهور كتاب القصة ليتجلى نجم وحيد لامع ومتفرد؛ وبدا يوسف إدريس يبنى مملكة القصة القصيرة المصرية بإتقان ملهم.

باتت بوابة القصة بعد ظهور إدريس مغلقة بلا مفتاح؛ ومهما كتب نجيب محفوظ من قصص فقد ظل منتسبا للمدرسة، على الرغم من تقديم محفوظ تسع عشرة مجموعة قصصية مقابل ست عشرة لإدريس، كما أن محفوظ قدم مجموعته الأولى (همس الجنون) 1938 قبل ظهور مجموعة إدريس الأولى (أرخص ليالى) بنحو ستة عشر عاما؛ كما استمر محفوظ لينتج خمس مجموعات جديدة بعد رحيل إدريس. ورغم ذلك كله ظل محفوظ يقف خلف يوسف إدريس فى طابور القصة. لكن هذه الساحة الخالية قد أغرت فارس القصة المصرية والعربية بالعدو دون النظر إلى تقسيم الجهد على وقت المعركة؛ حتى إذا وصل الفارس النبيل إلى العقد الأخير من حياته فى فترة الثمانينيات انحسرت الأعمال الإبداعية؛ وتفرغ إدريس لكتابة المقالات السياسية والفكرية؛ فقدم رواية وحيدة (نيويورك 80) عام 1980، ومسرحية وحيدة (البهلوان) 1983، ومجموعتين: اقتلها 1982 والعتب على النظر 1987. وفى ذلك العقد نفسه قدم ساحر القصة خمسة عشر كتابا فى المقالات الصحفية وحدها...

يوسف إدريس إذن سرق القصة من الجميع فى مطلع الستينيات وسرقه المقال السياسى فى نهاية الرحلة.

وروائيا، قدم يوسف إدريس سبع روايات، أولاها (الحرام) 1959، وتلتها (العيب) 1962، وآخرها (نظرة حارة فى القاهرة).

وتم تكريم يوسف إدريس بإهدائه «وِسامَ الجَزائرِ» عامَ ١٩٦١م تَقْديرًا لدَوْرِه فِى دَعمِ اسْتِقلالِ الجَزائرِ. أما الجوائز الأدبية: «وِسام الجُمْهورية» مَرَّتينِ عامَى ١٩٦٣ و١٩٦٧، و«جائِزة عبدِ الناصرِ فِى الآدابِ» عامَ ١٩٦٩، و«وِسام العُلومِ والفُنونِ مِنَ الطَّبَقةِ الأُولى» عامَ ١٩٨٠، و«جائِزة صدَّام حُسَين للآدابِ» عامَ ١٩٨٨، و«جائِزة الدَّوْلةِ التَّقدِيريةِ» عامَ ١٩٩٠.

■ ■ ■

■ نوال السعداوى.. »التريند« فى زمن الأبيض والأسود

ولدت نوال السعداوى فى 27 أكتوبر عام 1931فى قرية كفر طلحة بالقليوبية؛ تخرجت فى كلية الطب عام 1955، ثم تخصصت فى الأمراض الصدرية والنفسية.

عملت بوزارة الصحة وشغلت العديد من الوظائف مثل المدير العام لإدارة التثقيف الصحى. وكانت الأمين العام لنقابة الأطباء بالقاهرة، وعملت فترة فى رئاسة تحرير مجلة الصحة.

عصر من تجاوز الهدف عاشته نوال السعداوى فى عمرها الذى تقف فيه على بوابة نادى التسعين؛ عصفت باستقرارها الوظيفى بالحديث فى موضوعات مثيرة للجدل وتبتعد عن تقاليد الوظائف العامة مثل كتابها عن (المرأة والجنس) 1972 والذى كان سببا مباشرا فى فصلها من وزارة الصحة المصرية.

وقدمت السعداوى نحو أربعين كتابا متنوعا من الكتب الأدبية والفكرية والمسرحيات؛ بدأت بمجموعة بعنوان »تعلمت الحب« فى عام 1957 وأولى رواياتها »مذكرات طبيبة« عام 1958.

ولعل الصورة الذهنية التى ارتسمت لنوال السعداوى لدى المتلقى تتمثل فى إثارتها قضايا فكرية تتعلق بالمعتقد الدينى؛ بيد أنها كانت تجاوز الفكرة الرئيسة بالذهاب بعيدا بالشكل الذى تبدو فكرتها فى شكل كاريكاتيرى كان يمكنه أن يكون (تريند) لولا أنها سبقت عصر التواصل الاجتماعى بنحو أربعين عاما. فمن الأفكار الشهيرة للسعداوى قضية حجاب المرأة، وقبل أن يرد عليها أهل الاختصاص إذا بها تذهب بالفكرة إلى تساؤلها عن عدم لبس الرجال للحجاب بالمقابل: (فإذا كان سبب حجاب المرأة هو عدم إثارة شهوة الرجل؛ فإن الرجال عليهم ارتداء الحجاب لأن النساء أيضا لديهن شهوة) !. ومثال آخر من المبالغة فى عرض الفكرة حتى لنقترب معها من مصطلح (الهبد) الذى اخترعته وسائل التواصل الاجتماعى يتمثل فى اعتراضها على ختان الإناث لخطورته على صحة البنات؛ ثم تجاوزت ذلك بالمطالبة أيضا بعدم ختان الذكور!.

ولم تخف نوال السعداوى جرأتها فى الحديث عن السياسة الدولية حين انتقدت الولايات المتحدة بإحدى محاضراتها فى الولايات المتحدة عام 2002 فى جامعة كاليفورنيا، وصفت غزو أمريكيا لأفغانستان بأنها »حرب لاستغلال النفط، وأن السياسات الخارجية لأمريكا ودعمها لإسرائيل هو الإرهاب الحقيقى، وأن المساعدات الأمريكية غرضها إبقاء المصريين فى حالة فقر وعوز دائم».

قدمت نوال السعداوى نحو ثلاث عشرة رواية بدأتها فى عام 1958 برواية مذكرات طبيبة؛ ومنها روايات: (موت الرجل الوحيد على الأرض- كانت هى الأضعف- امرأة عند نقطة الصفر... وغيرها). كما قدمت كتابا مشتركا فى شكل مناظرة حول قضايا المرأة بعنوان (المرأة والدين والأخلاق) بالاشتراك مع د. هبة رؤوف عزت.

حصلت نوال السعداوى على عدة جوائز من مؤسسات أجنبية، كان آخرها جائزة شون ماكبرايد للسلام من المكتب الدولى للسلام فى سويسرا عام 2012.

■ ■ ■

■ المنسى قنديل.. قلم الصلصال المعجون بالسحر

قبل أن يتسلم نبيل فاروق وأحمد خالد توفيق عقول الناشئة فى روايات المغامرات، كان هناك رجل يجلس كالراهب فى الظلام يكتب عبر عقود لنفس الأجيال ولكن فى عمر أقل، وخرجت من قلم محمد المنسى قنديل غالبية قصص المغامرات فى المجلات العربية فى العقود الأربعة الأخيرة: خلفان وفهمان فى مجلة ماجد، ومغامرات العربى الصغير بمجلته.. وغيرهما أبدعها المنسى قنديل بأسلوب مدهش.

محمد المنسى قنديل يمتلك إذن ذلك القلم السحرى الصلصال الذى ينقلب فى يده ليكتب به للأطفال متى شاء؛ وللعامة فى كتبه المبهجة وللمثقفين فى رواياته العميقة.

ولد محمد المنسى قنديل بمدينة المحلة الكبرى بمحافظة الغربية بمصر فى عام 1949، وتخرج المنسى فى كلية طب المنصورة عام 1975 وعمل بعد تخرجه فى ريف محافظة المنيا؛ استقال من عمله بوزارة الصحة بعد فترة من العمل بالتأمين الصحى.

كانت قصته (أغنية المشرحة الخالية) تميمة نجاحه؛ فقد فازت بجائزة نادى القصة عام 1970، وهو لايزال طالبا بكلية الطب؛ ثم فاز ضمنها فى كتاب (من قتل مريم الصافى؟) الذى فاز بجائزة الدولة التشجيعية عام 1988.

قدم المنسى قنديل مستوى متميزا ومتوازنا فى فنى القصة والرواية، إن كان البدء بالقصة قبل التفرغ للرواية.

قدم فى القصة خمس مجموعات هى: (من قتل مريم الصافى- واحتضار قط عجوز- وبيع نفس بشرية- وآدم من طين- وعشاء برفقة عائشة).

وفى الرواية قدم خمس روايات هى: انكسار الروح 1988، وقمر على سمرقند 2005، ويوم غائم فى البر الغربى، 2009 (وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية)، وأنا عشقت 2012، وكتيبة سوداء 2015.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى