فراس زوين - مقامر دوستويفسكي.. قصة بدون مقدمة

(ها انذا أعود بعد غياب طال خمسة عشر يوماً، كان أصحابنا قد وصلوا رولتنبرج منذ ثلاثة أيام)، بهذه العبارة تحديداً يبحر بنا دوستويفسكي في عالم روايته المقامر وبدون مقدمات، وعلى خلاف المعتاد ليس من روايات دوستويفسكي أو الأدب الروسي فقط بل من معظم الأدب العالمي، بصورة قد تعيد في ذهن القارئ الافتتاحية الرائعة لتولستوي في روايته انا كارنينا ( كل العائلات السعيدة تتشابه، لكن لكل عائلة تعيسة طريقتها في التعاسة) ليلج بنا الكاتبان بعدها بشكل مباشر إلى أحداث روايتهما ودون مقدمات، مع إشارة بسيطة من دوستويفسكي للجو العام لروايته "اقتراض الجنرال للأموال ثم البدء بإنفاقه مباشرة بدعوة الناس على العشاء على عادة أهل موسكو متى ما حصلوا على الأموال" والتي ترسم للقارئ الفطن الطبيعة المسرفة لبيئة أبطالها.

إن رواية المقامر لا تقدم في بيان شخصية بطلها كما فعل دوستويفسكي في شخصية الأمير في رواية الأبله، ولا تستغرق في رسم صورة العائلة الواحدة في نسبها والمتناقضة والمتصارعة في بيئتها والتي تعكس صورة المجتمع بصورة عامة أو الروسي منه على اقل تقدير، كما نجدها في الإخوة كرامازوف بل إن دوستويفسكي في المقامر صاغ كل شخوصها (عدا بطل الرواية) واختارهم من الجانب السلبي والمتناقض الذي يزخر به المجتمعات ولعل هذا هو الأمر الذي دفع دوستويفسكي باتجاه عدم التقديم والتوطئة لشخوص روايته لان عالمنا الحقيقي مليء بأمثالهم وصورتهم لا تكاد تغيب عن أعيننا.

إن هذه الرواية بالرغم من بساطتها والاستعجال الواضح في كتابتها دون الغوص في أعماق شخوصها وتحليل اندفاعات أبطالها والنوازع الشخصية المتحكمة بهم وهو ما عودنا عليه دوستويفسكي قد يعود إلى أسباب شخصية تمس حياة الكاتب نفسه والمتمثلة بالعقد الذي التزم به دوستويفسكي مع الناشر الجشع ستيلوفسكي والذي يلزمه بان يقدم الأول للناشر خلال مده محدده رواية جديدة لم يسبق نشرها تتألف من عشر ملازم من القطع الكبير، وإلا فقد حقوقه عن مؤلفاته السابقة واللاحقة جميعاً، مما اضطره إلى الإسراع بشكل كبير في انجاز هذا العمل والذي لم يستغرق أكثر من خمسة وعشرين يوماً وإذا بالرواية قد أنجزت (كما تبين مقدمة الرواية)وبالرغم من هذا الاستعجال فان الكاتب برع في تصوير جوانب من الشذوذ والانحراف في منحى المشاعر والسلوك الإنساني في كل أبطالها ابتداء من ألكسي ايفانوفتش بطل الرواية والذي تجلى اضطراب مشاعره وشذوذها في علاقته مع باولين سوسلوفا والذي لم يتورع في سبيل إثبات حبه لها أن يلقي نفسه من قمة جبل شلانجنبرج إرضاء لها واثبات لحبها ولكنه في نفس الوقت يعجز عن معرفة هل هو يحبها فعلا ؟ وتتدافع الكلمات وتنساب المشاعر على لسان (ألكسي) مرة أخرى "لم استطع أن أجد لهذا السؤال جواباً، أو قل إنني أجبت للمرة المائة، بأنني اكرهها !! نعم اكرهها، مرت بي لحظات وخاصة في ختام الأحاديث التي تقوم بيننا تمنيت فيها أن اخسر نصف عمري في سبيل أن اخنقها !!! اقسم انه لو كان في وسعي أن اغمد خنجراً مسنونا في صدرها على مهل ، لشعرت من ذلك بمتعة فيما أظن", إن هذا التناقض في العلاقة بين ألكسي وباولين قد يصل إلى حد الشذوذ في نوع العلاقة التي تربط بين الرجال والنساء عادةً، فان بطلنا يبيح لنفسه أن يقول كل شيء، وان يطرح في كثير من الأحيان الأسئلة بشكل مباشر جداً، فما هو إلا عبد لها ،، وهل يستحي المرء من عبده ؟؟؟ وقد يصل به الاندفاع لحد أن يبادر تطوعاً منه بقتل من تريد بمبارزة إن هي أمرته بذلك، بهذا صرح ألكسي ايفانوفتش ليرسم لنا نوع من الخروج عن المألوف في العلاقة الطبيعية وما أظن دافعه يقف عند إرضاء لها فقط وإنما نبع من إحساس داخلي لإثبات عجزه أمامها ، وما على القارئ إلا أن يتابع أحداث الرواية ليكتشف إن هذا العبد الذي قد يتصوره، ما هو إلا رجل يحمل من قوة الشخصية وثبات الإرادة ورفعة النفس وعفتها ما لا يملكه كل أبطالها الآخرين ، فإنما ارتضى أن يكون عبدها وطوع بنانها هي لا غير.

إن الاندفاع في حب ايفلين بما يحتويه من قوة وعاطفة بل وحتى شذوذ في نفس بطل الرواية لا يلبث أن ينزوي ويتراجع أمام هوس أعظم يجعل كل ما عداه ثانوي واقل أهمية وهو الحب للمقامرة لا طمعاً بالمال كما يبينه دوستويفسكي من خلال في اللامبالاة وعدم الاهتمام من قبله لمدموازيل بلانش وهي تنفق كل ما كسبه يميناً وشمالاً بدون أن يتعرض أو حتى يهتم لذلك وهو ما استغربت منه نفسها وإنما رغبة منه في رؤية كل الفرنسيين وجميع مديري الخدمة في الفندق، وجميع السيدات الحسناوات، يتحدثون عنه ويروون قصته ويعجبون به، ويزجونه بالمديح والإطراء وينحنون أمامه إجلالا لما أصاب من حظ في اللعب والربح مرة تلو أخرى.

إن عبقرية دوستويفسكي وقدرته الفريدة على فهم الطبيعة الإنسانية بما تملك من ضعف ووحشية واندفاع بل إن دوستويفسكي برع في وصف قاع الرذيلة التي يمكن أن يسقط فيها الإنسان من خلال صورة مجتمع بشع تطفح منها رائحة الكذب والخيانة والطمع وكل ما لا يمت للفضيلة بصفه، وهذا ما يصل إليه القارئ من خلال أحداث العجوز بابولنكا وهي تندفع اندفاع المفتون أو المجنون نحو طاولات القمار وتخسر الآلاف والإلف دون إن يكون لسقوطها رادع بل إن ثلاثة من المقامرين البولونيين يقفون خلفها في مشهد استغلال وسرقة واضح المعالم ويدفعونها نحو الهاوية بك لان يملكه الإنسان من وضاعة ووحشية وهم يعبئون جيوبهم بما يسرقونه وما يكبشونه من أموالها التي أصبحت نهباً لهم تحت غطاء الخسارات الفادحة في لعبة الروليت مع عجزها الكامل عن على الحفاظ على أموالها ومسكها بيدها بل وحتى عجزها عن وقف اندفاعها نحو هاوية الخسارة الفادحة حتى يصل بهم الأمر إلى أن يتخاصموا ويتشاجروا في تقسيم سرقة أموالها أمام عينها ومن دون أن يحسبوا لها ولوجودها أي حساب بعد أن يتبخر أخر قرش تملكه في مشهد يستحضر إلى الأذهان وليمة وحشية لمجموعة من الضباع المسعورة وهم ينهشون بطن بقرة عجوز لا تزال على قيد الحياة فيمنعها عجزها عن الركض ولا تملك حيلة في دفعهم عنها وعن لحمها الذي أصبح مباحاً لوحشيتهم وجوعهم الذي لن يعرف معنى الشبع حتى ولو سحقوا عظامها بعد ان افترسوا لحمها.

قد لا يجانبني الصواب إذا اعتبرت إن رواية المقامر هي الوجه الثاني لرواية الأبله، وهي الصورة الأخرى للإنسان المثالي والسليم الذي يقع تحت ضغط المجتمع ويواجه تياره الجارف ويعجز على عبور هذا التيار ،، فألكسي ايفانوفتش هو الشريف الوحيد في مجتمع كل ما فيه هو معروض للبيع او المساومة وهذا ما يلاحظه القارئ من خلال موقفه مع العجوز بابولنكا ، كما كان الأمير الأبله بوشكين هو العاقل الوحيد في مجتمع البلهاء، فكلاهما واجها نفس النهاية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى