نبيل فرج - حسين عفيف.. شاعر قصيدة النثر.. ديوانه المفقود «الأغنية» الطبيعة والجمال فى الحياة والفن

على الرغم من أن حسين عفيف (1902 - 1979) كان منذ ثلاثينيات القرن الماضى شاعراً منفرداً فى قصيدة النثر ، يؤلف الروايات ويكتب الدراسات السياسية والاجتماعية ، فلم يلتفت إليه أحد من النقاد والباحثين الذين تناولوا تاريخنا الأدبى والفكرى الحديث .

ولولا المقالات المتفرقة التى كتبت عنه فى الدوريات الصحفية فى الخمسينيات الماضية وما بعدها لما عرفه أحد سوى من اقتنى أعماله التى لم يكن يطبع منها غير عدد ضئيل ، تنفد بعد صدورها بوقت قصير .
وتحت تأثير هذه المقالات التى كتبت عن حسين عفيف ، وأعيد نشر بعضها فى الكتب ، صدر عن المجلس الأعلى للثقافة سنة 2002 ، فى ثلاثة أجزاء من القطع الكبير ، « الأعمال الكاملة « لحسين عفيف ، غير متضمنة فى الجزء الأول (الأعمال الشعرية) ديوان « مناجاة « 1934 ، وديوان « الأغنية « 1940 .
ومع هذا وضع عنوانهما على الغلاف .
وتكرر هذا النقص فى الجزء الثالث (الأعمال النثرية) التى وضع على غلافه أيضاً « أزمة الحقوق « 1929 ، « وأزمة البطالة « 1932 ، وصحته « البطالة « فقط
وتلافيا لهذا النقص الخاص بكتاب « الأغنية « ينشر « أهرام الجمعة « مقاطع من هذا الديوان المفقود الذى يعد أفضل ما كتب فى قصيدة النثر العربية ، أملاً فى أن تعثر حياتنا الثقافية على باقى الأعمال المفقودة ، ويعاد نشرها فى «أعمال كاملة » .
وبغض النظر عن أن المعارك التى ثارت حول الشعر المنثور لم تستطع أن تحله محل الشعر الحر ، أو أن تعتبره مرحلة جديدة من الابداع العربى يلى حركة الشعر الحر ، فعلينا أن نتذكر ما يراه النقاد من انه اذا توفرت فى نص من النصوص الرؤية الشعرية ، فإنه يعتبر شعراً ، ولو كتب بلغة النثر ، لأن مادته لا تختلف عن مادة الشعر المنظوم .
واذا راجعنا ما كتب فى العقود الأخيرة عن قصيدة النثر أو الشعر المنثور ، الذى تخلص من بقايا الوزن فى شعر التفعيلة ، فلن نجد اسم حسين عفيف يرد فيها ، كأنه لم يكن رائداً فى هذا الشكل ، أو لم يكن موجوداً كظاهرة من ظواهرها الأصيلة المبدعة .
غير أن قيمة حسين عفيف الأدبية لا تنحصر فى قصيدة النثر التى تحفظ له حق الريادة بلا منازع ، وانما تشمل هذه القيمة الأفكار والمشاعر والمضامين الانسانية التى عبر عنها فى انتاجه ، على نحو ما نجدها لدى الأدباء العالمين ، أصحاب الفلسفات الناضجة ، الذين يتأملون الحياة فى جوهرها لاعرضها ، مثل طاغور شاعر الهند الخالد ، الذى تأثر به حسين عفيف ، وكتب أشعاره المنثورة على غراره ، وأهداه ديوانه « العبير » 1941 .
وهناك أيضا ممن تأثر بهم حسين عفيف ، فى صوره ومعانيه وتأملاته الحسية ، الشاعر الفارسى عمر الخيام الذى جمع بين الشعر والعلم والفلسفة .
ومن أبرز ما يدعو اليه حسين عفيف ، وتدور حوله قصائده ، عدم استئثار أحد دون أحد بطيبات الدنيا ، لأن الخير يجب أن يعم الجميع ، كما يجب على المجتمع أن يوفر الحرية لكل أفراده ، لا لفئة أو لطبقة دون غيرها .
وإن وجد الإنسان نفسه مدفوعاً للأخذ ، فعليه أن يترك للآخرين هم أيضا شيئا يأخذونه مثلما أخذ ، لكى لا يتعرض لحقد البشر بسبب تكالبه ، ويتعرض المجتمع لاتساع الفروق بين من يصابون بالتخمة ، ومن يبيتون على الطوى .
وفى حالة الغبن عليه أن يرضى بما قسم له .
ولا يوجد ما هو أفضل للفرد من حياة الفطرة والبراءة التى تخلو مما تزخر به المدنية والحضارة من الصنعة والتعقيد والافتعال الذى يعطل ملكات الانسان ، وامكانيات التطور .
ومثل هذه النظرة الرومانسية التى تعلى من شأن الذات والطبيعة تحتاج الى مراجعة ، لأن فى الجموع والمدنيات والحضارات ، وفى عالم الصناعة والتكنولوجيا ، من الشعر والفن ما يفوق حياة البساطة الأولى .
وحسين عفيف يؤمن بأن الجماليات هى القادرة على أن تنتزع الحقائق من صدور المبدعين ، كما تنتفض كنوز النفس بالقراءة والتأمل .
وليس يعيب المرء أن يتمتع بكل الوان الحياة ، قبل أن تفلت منه ، وتتحول أيامه فى الغد الى أخبار وأحاديث .
ولأن هذه الحقائق الواقعية أثمن ما فى الوجود ، فإنه على استعداد أن يضحى بمجده وأوسمته فى سبيل استعاضتها .
ومن ناحية مقابلة يرى حسين عفيف أن الجمال هو الذى يطهر النفوس ويزكيها ويفتح لها آفاق البهجة والسعادة ، حماية لها من أن تغدو رغباتها وعواطفها المكبوتة شياطين ومردة ، وحماية للعالم من أن يتحول إلى يباب ورماد ، اذا لم تطلق هذه الرغبات من عقالها ، ويتاح للانسان أن ينهل من النعم التى منحها الله بهذا الجمال ، ويشعر معها بأنه يمتلك فى يمينه الدنيا بأسرها.
والمشتاق الذى يصرعه الحب برئ من الذنب ، يستحق أن نحنو عليه وندواى جراحه ، لا أن نعزله.
والمرأة فى نظر حسين عفيف ليست كما يتردد فى مؤلفات المتزمتين مصدر الغواية والشر، إنها وردة مغمضة لا تقدّر ما تجود به ، وهى أقدر من الرجل على كشف خفقات القلوب ، وليس هناك حرج على الرجل الذى يذعن لسحر المرأة ، أو اذا فقد القدرة على التجلد حيالها ، وهى تسكن فى الأعالى ،بينها يسكن عاشقها فى السفح.
وبقدر الافتتان بالمرأة فإن مَنْ تَخون عهد الحب لا صفح لها .
أما الزهاد والنساك الذين يعتصمون بالجبال والمعابد ،لا يلم شملهم أحد ، فقد كان حسين عفيف يرثى لهم ،ليقينه بأن كل من يبصر الجمال الأنثوى يخرج من محرابه.
وحب حسين عفيف للحياة ، مع يقينه بنهاية كل حى ، جعله يناشد الله أن يبعثه من جديد للحياة الدنيا بعد رحيله ، المرة بعد المرة ، حتى يعب من هذه الحياة ، ويقضى وطره مع الحبيب ، وسط الزهور ، وغناء الطير ، وأنداء الصباح .
ورغم كثرة النوائب التى تعرض لها حسين عفيف فى حياته ، فإن أفدحها كان وفاة شقيقيه الأصغر سناً منه ، سعيد وحلمى ، بفارق سنة واحدة بينهما ، وهما فى نضرة الشباب ، لم يأخذا نصيبهما من الحياة ، وبعد أن كانا يشتكيان فى حياتهما من الفراق والشجار . تلاقيا فى القبر فى وئام ، المسافة بينهما « قبضة يد » ، وعلى مقربة منهما رفات أبيهما .
وخوفاً من أن يلقى حسين عفيف هذا المصير ، وينفذ سهم الموت إلى صدره ، لم يتزوج لئلا يعرض أسرة ناشئة للضياع اذا لحق بالشقيقين ، غير ملتفت الى أنه بعدم الزواج يموت وحده بعد أن عاش وحده ، لا يجد من يرخى أجفانه .
وهذا ما حدث له . خرج من بيته فى ميدان الدقى بعد أن ذهب النهار ، يلتمس نسمات المساء ، دون أن يحمل معه أى أوراق لهويته . وعندما تعثرت خطاه وسقط وسط الزحام لم تعرف شخصيته ولا عنوانه .
وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة نقلته سيارة الاسعاف الى احدى المستشفيات ، إلى أن تعرف عليه أقاربه بعد أيام صعبة من البحث الهائم .
ولحسين عفيف محاضرة واحدة عن الشعر المنثور ، لم ينشرها فى كتبه ، القاها فى نادى الموظفين بالاسكندرية فى 13 ديسمبر 1936 ، يطرح فيها مفهومه لهذا الضرب من التعبير الذى يزاحم عالم النظم من خلال ارتباط النغم باللفظ ، والايقاع بالبيان الدقيق المقتصد .
ولتحقيق هذه الغاية يلجأ الشاعر الى الخيال ، والى ما وراء الواقع ، والى التلميح لا التصريح ، والى التخلص من الوتيرة المتكررة التى تحكم الشعر العمودى ، معتمداً على تآلف الوحدات الحرة المنسجمة ، لا على نظامها المتماثل المضطرد .
وتأسيساً على أن الشعر وجد مع نشأة الحياة ، قبل الأوزان والبحور ، فانه لا يتقيد بهما ، تحريراً من كل ما يعوق الإبداع والابتكار .
نبيل فرج
وهذه مقاطع من « الأغنية «
:- كانت في حديقتي زهور، ولكنني لم أهتم بقطفها.
وكان بها طير، غير أني لم أكترث لغنائه.
وكانت تخطُر بين خمائلها غيد، فلم أحفل بشأنها.
ذلك أني لم أكن أرى فيها الجمال الذي يغريني بها.
ثم مرت أيامٌ فذبل الزهر، وشَردت الطيور، واختفت الغيد.
عندئذ تراءت لي كلها رائعةً من بعيد. وأدركتُ عِظَم الفرصة التي ضَيَّعْت.
فضربتُ كفًّا بكفٍّ ورحت أقول: واأسفاه! لقد كانت السعادة بين يديّ، ولكنني لم أرها حتى كنتُ أفتح لها قلبي. شيءٌ ما أعماني عنها.
أتُرَى كانت يومئذ مقنَّعة؟ أم أن العين لم ترها لأنها كانت في العين؟
واهاً لذلك الإنسان الذي لا يبصر الأشياء إلا من بعيدّ إنه لَيرَى النجوم في السماء، والقمم في الجبال الشوامخ، والشاطئ النائي عَبْرَ النهر، ولكنه لا يَرى أنفه المثبَّت في وجهه.
كأنكِ أيتها السعادة أسطورة! تُحكَى حوادثها وما تُرَى. حتى إذا ما تناهت للأذن أخبارها النائية، كما تتناهى إليها الأصداء، ذَرَّفَتِ العينُ على نعيمٍ ضاع سدى. وذهبَ ولم يُمَتَّع به أحد.



أعلى