مجدي حشمت سعيد - فضفضة.. قصة قصيرة

دون اللجوء إلى المقدمات البليغة المنمقة أقول لكم: إنه نظرًا لانتشار الوباء بعدوى "فيروس كورونا" اللعين ولظروفي الصحية الحرجة وسنوات عمري السبعين شدَّد الأطباء عليّ بعدم الخروج من المنزل إلا للضرورة القصوى وعدم استقبال الضيوف خشية أن تنتقل العدوى لي خاصة وأن بعض الأشخاص يحملون الفيروس دون أن تظهر عليهم أية أعراض مرضية مع ضرورة التزامي بعلاجاتي وتناول الوجبات الغذائية السليمة وتكرار تحذيرهم لنا صراحة بأن حدوث العدوى لي بهذا الفيروس المرعب ستكون فيها نهايتي.
التزمت بكل تعليمات الأطباء والخبراء ومع إدراكي بندرة ضيوفنا خاصة إني وزوجتي من أرباب المعاشات كما أن أبناءنا الثلاثة وأسرهم يعيشون بعيدًا عنا في العاصمة إلا إنني بعد الفجر مباشرة وزيادة في إجراءاتي الاحتياطية والاحترازية كما يقولون قمت بتعليق ورقة كبيرة على باب شقتنا الكائنة بالطابق الأول من عمارتنا ذات السبعة أدوار بعد أن كتبت عليها بخط أزرق كبير واضح (شكرًا لعدم الزيارة) حتى يراها كل مَنْ ينزل أو يصعد من سكان العمارة أو كل مَنْ يفكر في زيارتنا من خارجها وإن كنت أشك في حدوث زيارة لنا من أي شخص.
ما إن بدأت خطوات الصباح تدب على السلم حتى بدأ الصاعدون والصاعدات والهابطون والهابطات يقوم كل منهم أو منهن بالضغط على جرس الباب ولا يرفعون أصابعهم عنه إلا بعد أن نفتح الباب لهم خشية احتراق الجرس فيدلفون إلى داخل الشقة سريعًا وهم يسألون بتعجب عن سر تلك اللافتة ويتصنعون بأنه قد أصابهم القلق الشديد علينا فأضطر إلى إخطار كل واحد أو واحدة بالقصة وبتعليمات الأطباء المشدَّدة لنا وأنبه عليهم دون خجل بضرورة تغيير سلوكنا والامتناع عن الزيارات والمصافحة باليد والقبلات والأحضان والتي تمثل خطورة كبيرة لدورها في نقل العدوى بالفيروس الخطير المُميت. تعجَّبت كثيرًا حين كان معظمهم يسخرون من كلماتي بعد كل ما كنت أقوله لهم مستشهدًا بما حدث في الدول الكبرى فأجد منهم مَنْ يقول:
"خلّيها على الله"
"العمر واحد والرب واحد"
"لكل أجل كتاب"
"بلدنا محروسة ولن يحدث بها أبدًا ما حدث للدول الغنية"
"بلدنا مباركة ومذكورة في الكتب السماوية"
"إحنا شعب بياكل الظلط والفيروسات"
ومثل هذا الكثير من الأقوال التي تنم عن عدم تقدير لخطورة الأمر وتعبر عن الاستهتار والتواكل واللا مبالاة إلا أن ما أوشك أن يحيلني إلى الجنون وبعد كل ما أقوله لهم هو إصرار البعض منهم على مصافحتي باليد بل وتقبيلي بالإكراه عند انصرافهم وهم يعرفون ظروفي الصحية الحرجة فأقوم بعد رحيل كل منهم بعمل إجراءات الغسيل والتطهير والتعقيم الثقيلة اللازمة.
أتت ساعة بدء الحظر الليلي بعد إرهاقنا الشديد ففرحت أنا وزوجتي كثيرًا حيث أن منع التجوُّل سيمتنع معه دون شكٍّ رنين جرس شقتنا أو الطرق على بابنا فأخذ كل منا "حَمَّامَه" الأخير وجلسنا أمام التلفاز نتابع آخر تطورات إصابات الفيروس والوفيات الجديدة في دول العالم فإذ بالضيوف من سكان العمارة يتوافدون علينا وقد حمل كل منهم من وجهة نظره سببًا وجيهًا لحضوره فمنهم من أتى ليطمئن علينا في بادرة غير مسبوقة منه ومن يعرض علينا الاشتراك في "جمعية" شهرية تضم سكَّان العمارة على أن يقوم هو بالحصول عليها في الشهر الأول وهو يعرف جيدًا ومنذ سنوات أني لا أشترك أبدًا قيما يطلقون عليه "الجمعيات" ومن تسألنا عن دواء لإنقاذ زوجها من إسهال شديد ومَنْ تطلب بضع ثمرات من الليمون ومَنْ اشتاق أو اشتاقت لرؤيتنا ومَنْ جاء ليحضر معي نشرات الأخبار حيث أنه لا يفهم منها أي شيء بمفرده ومن يشكو من الكحة والسخونة ويستفسر إذا كان ما يعانيه هو أعراض الكورونا و....و.....
أصابني الدوَّار في نهاية الليلة بعد أن أغلقت باب الشقة وراء آخر ضيف ثقيل فمادت الأرض تحت قدميّ وسقطت على المقعد القريب من الباب، وضعت زوجتي يدها على جبهتي فإذ بها تصرخ:
"يااااه...جسمك سخن نار...أستر يا رب...استر يا رب"
تماسكت ونهضت وتوجهت بلوثة نحو باب الشقة وفتحته بقوة ثم قمت بنزع اللافتة التي علقتها في الفجر ومزقتها بغيظ إلى قطع صغيرة جدًا وألقيتها أمام "عتبة" الباب من الخارج ثم توجهت إلى حجرة مكتبي واخرجت ورقة جديدة أكبر من الورقة السابقة وكتبت عليها بخط أكبر أحمر اللون وأكثر وضوحًا:
"زيارتكم تشرفنا وتسعدنا".
الغريب والعجيب أنه في اليوم التالي وما بعده من أيام لم يطرق بابنا أي مخلوق سوى طبيب العائلة.


مجدي حشمت سعيد

مصر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى