عدنان المبارك - سورين كيركيغارد.. شعرية الخطاب وجدلية العاطفة

يعترف سورين كيركيغارد (1813 – 1855 ) بأنه ليس فيلسوفا يريد خلق منهجه أو تحديد السمات لمنحاه الفلسفي. فهو يقف صراحة ضد المناهج والصروح الفلسفية. ففك لغز الوجود لايقود اليه طريق التأمل، ولا نفع هناك من تأسيس نظام فلسفي قادرعلى أن يفسر العالم كله. وكان ما يميز موقف الفيلسوف الدنماركي تلك المجابهة العنيفة مع فلسفة هيغل التي كانت قد سحرت ، آنذاك ، العقول الأوربية وهيمنت عليها. وكان ( الخوف والرعشة ) أول مؤلف لكيركيغارد يقف فيه بوجه هيغل. الا أنها كانت ، في الواقع ، مواجهة ضعيفة ، وما زادها ضعفا أن كيركيغارد نفسه أخذ باللهجة والتعاريف الهيغلية ذاتها. مثلا في الفصل المكرس ل( تعليق الأخلاق ) ، وكانت هذه إشكالية جديدة في الفكر لقيت أصداء لها ، فيما بعد ، لدى نيتشه ودوستويفسكي ، نجد أن كيركيغارد يأخذ بها وفق المفهوم الهيغلي. وكان جوهر إتهامه للفيلسوف الألماني بأن هذا لم يفهم أبدا ( وفي الأخير لم يقدر أن يفهم . فلوحصل هذا الشيء لقطع الغصن الذي كان يجلس عليه !) حقيقة عادية وهي أن الوجود لا يمكن تناوله وفق صيغ العقل. وفي الواقع لم يستخدم كيركيغارد أبدا كلمة ( الوجود ) بل الصفة ( وجودي ) ، وكان غرضه بلاشك التعامل مع الوجود من موقع ا لكاتب والشاعر، و حتى أن معظم مؤلفاته تتحول الى مذكرات بل تأ ليف fiction أدبي إعتمد كثيرا على أدب الرومانسية الأنكليزية بشكل خاص. ولاغرابة في الامر. فالعصر كان عصر الرومانسية ولو أن كيركيغارد كان في أعماله بعيدا عنها ، فدقة تفكيره وتلك الجدلية تنقضان مفهوم الرومانسية. من ناحية أخرى كانت سمات معينة للرومانسية نلقاها في عدد من مؤلفاته، وبصورة أدق نوع خاص منها قد يكون قريبا من مواقف بايرون الذي كان يضع نفسه ، كفرد ، فوق ( العوام ). اكيد أنه يمكن التعامل مع أعمال كيركيغارد من موقع الأدب حسب. أما تناولها فلسفيا فسيكون معناه الدخول في أدغال تلك اللغة المتخصصة التي سيطرت اليوم على الكتابة الفلسفية ، وما يغري المرء في ذلك حقيقة أن لغة هذا الفيلسوف هي لغة نزقة مليئة بحالات التكرار وتبدو كأنها وسيطة عجزت عن نقل أفكاره. وتلك الكلمات والصياغات التي يكررها بشكل محموم شبّهت مرة بسرب من الفراشات الليلية التي ترتطم بالمصباح ولاتقدرعلى الوصول الى الضوء !. إنه فيلسوف مبهم يفاجيء قارئه بأفكار متقافزة ، وفي بعض المواقع يحار المترجم إذ ليس هو بقادرعلى النقل ولا التفسير. ومرة قال ناشره الدنماركي ( أنا أحب كيركيغارد للغاية الا أنني أكرهه أحيانا. إنه يقض مضجعي. وبين النوم واليقظة حسب أنا قادرعلى أن أفقه شيئا من تلك الجمل البالغة التعقيد ). وليس جديدا القول أن التفكير مرتبط بصورة إستعبادية باللغة ، ومن الصعوبة بمكان، إن لم نقل من المستحيل ( ولربما يصل العلم الى ما سيعوِّض عن اللغة ..) فك هذا الإسار. وشأن الشعر تتعامل الفلسفة مع كلمات وصياغات معينة لها معناها المحدد في هذه اللغة وتلك ، كما أنها مرتبطة ب( سلالم ) التصورات والمفاهيم التي تملك هيئة مغايرة في اللغات الأخرى ، أي أن التداعيات مختلفة. كذلك فلكل فيلسوف لغته وتكون أحيانا مركبة وبالغة التعقيد لاتجد ما يقابلها في اللغات الاخرى خاصة اذا تعلق الأمر بتوظيف المفاهيم والتصورات التي حين ينقلها المترجم فعليه أن يلجأ الى الإيضاح أي فلقها الى أجزاء. وما يزيد الأمر صعوبة أن هناك فلاسفة معاصرين يخلقون معاجمهم الخاصة ، وفيها تلك الكلمات المركبة التي لامقابل لها في اللغة التي إعتدنا عليها ، فمارتن هايديغير إبتكر لغة فلسفية حديثة شبيهة بتلك العالمية – الإسبرانتو. ويكون أمرا قريبا من المستحيل نقلها بل وحتى تفسيرها. ولذلك تعلم ميغيل أونامونو اللغة الدنماركية كي يقرأ كيركيغارد وليس ( تفسيره ). وفي الواقع فهذه اللغة لم تتغير كثيرا طيلة أكثر من مئة وخمسين عاما ولو أنها إغتنت كثيرا. رغم ذلك تبقى فقيرة التلاوين مما يسبب مشاكلا ليست بالقليلة عند الترجمة . مثلا يكتب كيركيغارد ( den Etik ) ، وهذه كلمة لاتينية الاصل وتعني ،عامة ، :علم الأخلاق ، أخلاق ، آداب ومعايير السلوك في ميدان أو مهنة ، سلوك أخلاقي ، أخلاقيات. أو لنأخذ كلمة den Almene وهي كلمة جرمانية الأصل تقابلها في الألمانيةallgemeine وتعني : عام ، شامل ، واسع الإنتشار ، عادي ، شعبي ، عمومي . أو هناك كلمة den Enkelte التي يستخدمها كيركيغارد بإستمرار وتعني : واحد ، وحيد ، فردي ، مفرد ,، فرد. كذلك يلاحظ مفسرو كيركيغارد الدنماركيون إستخدامه مختلف أنواع الدمج ، مثلا كلمة forhold التي تعني: علاقة ، صلة ، تكون لدى كيركيغارد بمعنى التركيب. وفي رسالته لنيل درجة الدكتوراه والتي كتبها بالدانماركية وليس اللاتينية كما كان متبعا آنذاك، وكرسها لمفهوم السخرية لدى سقراط ( لكنه دا فع عنها باللاتينية ) نجد أنه تناول في جزء كبير من دفاعه أحوال الشبه بين سقراط والمسيح.. وهل هي أكبر من أحوال الإختلاف أم لا. وهنا يحصل خلط غريب لشروح العهدين القديم والجديد بأحوال الأستشهاد بمقاطع منهم. ومعلوم أن عنوان كتابه ( الخوف والرعشة ) مأخوذ من العهد القديم ، أما عنوان كتابه الآخر( المرض حتى الموت ) فنجده في العهد الجديد ( إنجيل يوحنا ). وعامة يُفسَّر إنعدام الوضوح لدى هذا الفيلسوف بطبيعته النوراستية المرتدة الى الداخل ، ومنحدره الشمالي حيث العذاب الداخلي الذي يلقي بظله القاتم على الحياة وأفراحها ثم تلك الصرامةالنابعة من هوس الصدق مع الذات، وذلك الاحساس بغرابة الوجود والذي عرفناه فيما بعد لدى ألبير كامي. وعند كيركيغارد كان العامل الاضافي تلك الميلانخوليا النابعة من الروح الدينية. والأكيد أن لسيرته الذاتية التي لايعرف عنها الكثير ، ثقلها الملموس على كامل فلسفته وإبداعه الكتابي. ورغم ميله الواضح الى الإعتراف في تلك اليوميات الضخمة والمؤلفات التي كانت بالأحرى إنفجارا للغنائية ، وخصّت بالصورة المباشرة وقائع من حياته الداخلية والأخرى الخارجية ، لايعرف بالضبط لغاية اليوم بواعث آلامه وعقده التي ألقت بتأثير حاسم على مجرى حياته وتفكيره. ولربما نعرف ذلك إلا أننا لانريد التصديق ، فمن الصعب علينا نحن أناس هذا العصر أن نتطابق نفسيا وثقافيا مع هذا الإنسان من كوبنهاغن النصف الاول من القرن التاسع عشر، وأن نفهم العوامل التي صاغت أناه. ويبقى الشك بأن هناك أمرا مهما مخفيا لانعرف عنه أيّ شيء.



هل خطيئة الأب مصدر عذاب سورين ؟

طالما أن السيرة الذاتية هي المفتاح، في كثير من الاحوال ، لفك أسرار الشخصية لابد من التوقف عند عائلة كيركيغارد وحالتها الدينية. في البروتستانتية تكتسب فكرة الخطيئة أبعادا مخيفة ( الكاثوليكية عثرت على المتنفس في مراسيم الإعتراف ). والخطيئة هنا صارت ذلك ( المرض حتى الموت ) أي الطريق الى اللعنة الابدية التي كانت تقض مضاجع الناس آنذاك ، فهي تلك الهاوية التي تدفع وحتى الى الشك بأن الرب هو الخير. وهذه الريبة كانت أحد المشاعر الكبرى التي أخلت بتوازن كيركيغارد الروحي. كذلك هناك عقدة الأب. فالأم كانت خادمة عنده ، والغريب أن كيركيغارد لايذكرها أبدا فيما كتبه. فقد كانت مشاعره ، مشاعر الحب والإحترام والتقدير مكرسة للأب وحده ، الا أنه في مطلع شبابه علم بأمر أمه الخادمة التي تزوجها الأب بعد وفاة زوجته الاولى ، وأن الطفل الأول ولد بعد الزواج بأربعة أشهر.. وكانت هذه هي الصدمة الأولى التي فتحت قمقم الشكوك. وبعد وفاة الأم وخمسة أبناء بالغين يعترف الأب بأنه حين كان راعي ماشية يعاني من الجوع والبرد في طفولته التي قضاها في شبه جزيرة يوتلانديا توّجه ذات يوم الى أحد المرتفعات ورفع يديه الى السماء ولعن الرب على هذا المصير. وكان رد فعل سورين على هذا الإعتراف ، اليقين بأن هذه الخطيئة ، خطيئة اللعنة ستلاحقهم جميعا حتى الممات. وهكذا عوقب الأب بموت أبنائه الخمسة ، كما أن الرب يتربص بحالة سورين الصحية وبأخيه الأكبر الذي كان قد نجا من ذلك العقاب. وقد لايفهم الكل هذه الواقعة أي لعنة الأب والإعتراف بهذه الخطيئة أمام سورين وأخيه ، وأخذ الأثنين بجزء من الوزر على عاتقهما كنوع من ( الخطيئة الاولى ). وقد يقول بعضنا إنها عائلة مجانين. وسواء أكانت ( عقدة الأب ) أم أسباب أخرى قد أصبحت المضمون الرئيسي لعذاب سورين في شبابه ، مثل أحوا ل التعقيد الجنسي والتي إنعكست بكل وضوح في مؤلفاته. وكانت هناك فترة في حياته أراد التخلص فيها من ( طغيان ) الأب. وحتى أنه ترك البيت وعاش لنصف عام مثل شباب كوبنهاغن المترف ، وأثناءها خالط رجال البوليس من قسم الجرائم إلا أنه لم يعاشر النساء. ومرة إرتادالماخور غير أنه هرب منه ملاحقا بسخرية المومسات. وعن هذه التجربة الأولى والأخيرة يكرر في يومياته كلمة ( ربّاه ) حسب. بعدها يلتقي بريغينا أولسن وبذلك تبدأ معاناته الطويلة ، وفصول هذا العشق الغريب الذي كان جحيما حقيقيا للإثنين. والخطوبة الرسمية إستمرت سنة واحدة ، غير أن االتردد أخذ ينتاب سورين بعد إعلانها بيومين فقط : أيحق له أن يرتبط بهذه الفتاة ويحكم عليها بتحمل ميلانخولياه التي كانت قد سيطرت عليه تماما، أيحق له أن يفعل هذا الشيء وذاك. وبدت جميع هذه الأسئلة كستار مسدل أمام حقيقة أساسية وهي الإشمئزاز من المؤسسة الزوجية والفعل الجنسي وحتى لو كان مع المرأة التي يضمر لها بالغ الحب. وفي ( الخوف والرعشة ) يكتب ، بأسلوب جميل ، عن واقعة فسخ الخطوبة التي لاتعرف تماما أسبابها الحقيقية. كما يكتب في يومياته عن ذلك : ( لو أردت أن أوضح لها كل شيء لكان عليّ أن أكشف أمامها عن أمور فظيعة ، عن علاقتي بأبي ، عن ميلانخولياه ، عن الليل المظلم الذي يعصف بأسرار ذاتي وأكثرها عمقا ، عن أخطائي، عن ملذاتي وأفعالي السيئة التي قد لاتكون في عين الرب من النوع الذي يستحق العقاب الصارم لأن الخوف هوالذي دفعني الى إرتكاب الأخطاء، وأين كان عليّ البحث عن المرافيء حين عرفت أو شعرت بأن الإنسان الوحيد الذي كنت معجبا بقوته قد إنهار). ويعّد ، عامة ، السبب الرئيسي لفسخ الخطوبة تلك الفكرة التي سيطرت تماما على نفس كيركيغارد وكان قد صاغها بهذه الصورة : الفرد كفرد أعلى من العموم. والإيغال في الذات وعشق العذاب ، وكانت مسبباتهما أخرى أيضا ، قد يثير نوعا خاصا من النرجسية. فما عاناه بعد فسخ الخطوبة ، قد عثر على منفذ خاص تمثل بذلك الفعل المفاجيء ، غير المكبوح : الكتابة . وبعد الإنفصا ل عن ريغينا يترك كوبنهاغن الى برلين. وهناك تبدأ الفترة الأكثر خصبا في حياته كفيلسوف وكاتب. ففي عام 1843 ينشر ( إما و إما ) و( الخوف والرعشة ) و(التكرار) وبضعة مؤلفات أخرى. وبعدها بسنوات قلائل ينشرالاعمال التا لية ، وكانت كثيرة أيضا ، ودافعها الرئيسي مواجهة هيغل ، وإظهار الا نسان الضائع في الأنظمة الفلسفية لكن تحت ضوء جديد.


مواجهة مع الإثنين : الداخل والخارج

وما حدث في الخارج لم يكن بلا أهمية لما حصل في داخل كيركيغارد. فقد كتب عليه العيش في أوقات عصيبة على بلده. ولد في عام 1813 حين ظهر ، كما قال ، في السوق الكثير من النقد المزيف . وكانت فترة إفلاس الدولة الدنماركية. ففي العام التالي إنفصلت النرويج عنها ، وكانت هناك الصعوبات البالغة في مكافحة الفاقة وإعادة بناء العاصمة التي كان الإنكليز قد قصفوها، وقبل كل شيء كانت سني السلطة المطلقة وظلاميتها. والعاصمة لم تكن إلا مدينة صغيرة لم يتجاوز عدد سكانهاالمائة والعشرين ألفا ، مسّورة شأن مدن القرون الوسطى ، ووراء الاسوار لم يكن مسموحا ببناء ولو كوخ حقير . بإختصار كان البؤس والعوز والأمراض تفتك بالمدينة. كذلك فقدت الدنمارك أسطولها التجاري وبذلك إنقطعت تجارتها مع الهند والأخرى الغربية ، وكانت لها هناك مستعمراتها أيضا. أما الإمتيازات فكانت من نصيب البلاط والكنيسة. ويعّد عام 1840 أسفل درك للإنهيار الإقتصادي. وجو المدينة بروحها التقليدية وحياتها الرتيبة قد رسمت بعدا من أبعاد جحيم كيركيغارد الداخلي ، فهو لم يكن يتوقع أن يفهمه أحد أو أن يحقق الشهرة. وقال حينها : ( لا أعرف إذا كان هناك عشرة أشخاص يقرأون كتبي ) ، والأكيد أن العدد كان أقل بكثير. وبعضهم تندر حين أصدر أول كتاب له وكان قد كرسه لهانز كريستيان أندرسن ، بالقول أن الكتاب قرأه الى النهاية إثنان فقط - المؤلف وأندرسن. لقد إمتلك كامل عالم كيركيغارد الداخلي ثلاثة أبعاد : الأب ، ريغينا ، الكنيسة الرسمية. ومما لاشك فيه أن للأول والثاني التأثير الأكبر على ذلك الغليان النفسي ، أما الثا لث فلا يعرف بالضبط مدى تأثيره . وما يُطلق اليوم من أحكام على ذلك الهجوم العنيف الذي شنه كيركيغارد على تلك الكنيسة قد لايمت بصلات كثيرة بما حدث حينها بالفعل. وحتى الهجوم كان ضيق النطاق ويمكن النظر إليه كأنه أمر وقع بين الأهل والمعارف. ومعلوم أن كيركيغارد حمل أحد كتبه التي هاجم فيها الكنيسة والأسقف مينستر الذي كان يمثلها ،الى الأسقف نفسه. قال له : أود للغاية أن يموت أحدنا قبل نشر هذا الكتاب. وكان سورين يرى الأسقف كل يوم في بيتهم ، وفيما بعد كان أستاذه في الجامعة. وكان كيركيغارد قد وجد أن الكنيسة الرسمية قد إنفصلت في الواقع العملي عن المسيحية ، الأمر الذي يذكرنا بموقف تولستوي من الواجهة الرسمية للدين. إن شعور كيركيغارد بعظم أفكاره وعمق تجاربه كان الشرخ ا لفعلي لتمزقه، قبل رحيله الى برلين . فقد كان يختنق في تلك المدينة الصغيرة التي كان قوتها اليومي الأقاويل والشائعات وفي وسط الناس العاديين، ومن هنا قناعته العميقة بأنه ذلك الإنسان المختار القادر على هز العالم. وفي هذا القفص الذي سُجن فيه كانت هناك كوابيس كثيرة أخلت بتوازنه. وفي يومياته ثمة تكرار مهووس لذات الافكار. إن كامل عمليتي التفكير والخلق لدى كيركيغارد يقود الى عملية التذويت subjectivization وعلى العكس من ( أستاذه ) هيغل . لقد حاول ، للمرة الاولى في تأريخ الفكر ، أن يطرح الذاتوية كعالم خاص لايمكن تناوله بالوصف وبأيّ من المراتب ذات الإحالة الى الوجود الشيئي ، وبصورة خاصة لايمكن التعامل معها كنوع خاص من ( المادة ) أو محتو لاشخصي للأفكار أو تلقيات حسية أملتها التجربة علينا. إن مثل هذا الفرد يسعي الى إكتشاف ذاته في الإيمان حسب. والإيمان عنده ليس بحالة أو إفتراض مسبق يتجاوز التجربة الفعلية. ومن يقرأ كيركيغارد بإنتباه يجد أن هذا الايمان محض عاطفة متوقدة ، حركة ذات زخم عنيف يكون مسبّبها ذلك اليأس والقلق الى حدٍّ يدفعنا الى المجازفة بالقول إن ذلك شيء قد لصِق بصورة مصطنعة ، وبحث محموم عن مخرج لاوجود له بالفعل. ولقد كانت تلك العناصر الفظيعة ( العبث ، المفارقة ، الخوف ) مكونات الإيمان لدى كيركيغارد، مكونات لابد منها ، ولأن هذا الإيمان كان من نوع خاص للغاية. وغالبما تكلم عن ( ا لإيمان ) وبمعزل عن محتواه أي بأيّّ شيء يؤمن ، ولأن هذا يكون ، عنده ، محض نشوة أوإنفعال طاغ ووقتي ، وكان يسمي هذا الحالة بأعلى هوى passion في الانسان. أكيد أن هذا النوع من الإيمان كإنفعال مرتبط بالمعاناة ودوار الرأس وجنون العبث، هو بعيد عن التسكين والتهدئة لدى المتصوفة ، مثلا ، وحين يبلغ هؤلاء حالة التسامي والقمع التام لكل المشاعر والتصورات. فلدى كيركيغارد يكون الأمر معكوسا : لاتواصل هناك مع المطلق ولأن الرب يصمت.. كذلك فربُّ كيركيغارد من نوع فائق. وتصّور الرب الذي صاغته التربية البيوريتانية الصارمة وعلى أساس التوراة ، لايبتعد كثيرا عن رب البروتستانتية من عصره. ولدى كيركيغارد تكون حالة القلق نقضا لجدوى الخشية والتقوى ، وحينها يكون الإستنتاج الوحيد هو أن هذا الرب ليس برب الحب المطلق. وفي مؤلفه ( التكرار ) يقول بكل وضوح : الله يقف فوق الأخلاق. وهذه الصفة ( فوق الاخلاقية ) هي الخواء الأكثر فظاعة والذي يعاني منه الإنسان. إنه الدرب الذي يؤدي الى اللامكان. ومثل هذا الخواء عرفه دوستويفسكي الذي وصل الى حالة ا لتردد واللايقين عند السؤال : ألا يكون الرب أحيانا مصدر الشر على الأرض ؟. ومن هنا هذا القرب بين الأثنين الدنماركي والروسي . فكلاهما عرف تلك التجربة الأساسية للمعاناة التي أسماها الأول بالمخافة أو بصورة أدق : توّقع الشر والذي كرس له مؤلفه ( مفهوم الخوف ) من عام 1844. وهذا المفهوم تناوله كيركيغارد بصورة غير مألوفة تماما. فالخوف لديه ليس بالخوف من الحياة أوالموت أوالخشية من المسؤولية ( وهذه إشكالية طرحها سارتر بصيغة أخرى ) أو الهلع من الكون ومداه اللامنتهي والضياع فيه ، أو في وابل من الأسئلة التي تبقى بدون جواب ويواجهها الإنسان في هذه الحياة القصيرة. كان كيركيغارد يفترض شيئا آخر وهو أن الإنسان تركيب للامنتهى والمنتهى ، الزمني والسرمدي ، الحرية والضرورة. والخوف لديه هو نقطة التقاطع بين عنصري التركيب. إنه تلك اللحظة التي يعي فيها الإنسان الموّثق بالزمني والمنتهي والجبري ، أبعاد اللامنتهى والأبدية والحرية ، إنها لحظة مرهبة وفي ذات الوقت تحوي أبعاد التطور الذاتي. وقد وجد كيركيغارد أن هذا الحضور الدائم في داخل الانسان ، للخوف من التفكير بالرب - مصدر الشر ، وبالجن الذي يعمل لصالح الإنسان ، وهذا الانقياد التام لسلطة ا لعبث الذي هو الخلاص ، إن هذا كله ، في المحصلة ، ذهول وإفتتان ، حركة مكثفة للنفس وقلق أبدي وفي ذات الوقت حالة إنشراح شبيهة بالثمالة. وكان كيركيغارد على إقتناع بأنه من يقدر على تحقيق هذه الغاية ...


لليأس بعده الكوني

في مؤلفه ( المرض المميت ) يتناول حالة اليأس كشكل أساسي للوضع الإنساني. فاليأس fortvivelse( وتعني بالدنماركية الريبة واللايقين أيضا ) هو جوهر الوجود الإنساني سواء أكان هذا اليأس مُدرَكا أم لا. ولكننا نجد أن كيركيغارد يكرس جل إنتباهه لليأس غيرالمدرَك الذي يرافق الإنسان في كل مكان وفي كل قضاياه وأفعاله. ويطا بق هذا الأكثر وضوحا مع الرب والنفس. وفي الواقع يرى كيركيغارد أنه يمكن العثور على ما يخمد اليأس الأساسي أو يزيله وذلك في الإيمان. الا أنه لايوضح كثيرا حالة اليأس هذه . أما الإيمان فيتحول فجأة أثناء العرض الطويل لشتى التحليلات، الى آخر شبيه بالرسمي الذي حاربه كيركيغارد بلاهوادة وسخر منه. كانت مؤلفات كيركيغارد ، وبمعزل عن تأثيرها الفلسفي ، تسجيلا مؤثرا لعمية التأليف ذاتها وكشفا نادرا لتمزق الكاتب وتوزّعه بين الإنسانين – الكاتب والآخر ذي الوجود الفعلي. وصارت جدلية هذا التمزق أحدى القوى المحرّكة بل الإشكالية الرئيسية في أدب هذا الفيلسوف. ومن ناحية أخرى عامل كيركيغارد فعل الكتابة ذاته كشيء لاعلاقة له بهدف أو رسالة مرسومة. فهو يقدّم نفسه ، وليس كفيلسوف أو شاعر ، وإن كان تحت إسم مستعار ، ككاتب هاو ( لايضع مناهجا ولا حتى مخططات لها ولايأخذ بأيّ نهج ولايضيف له شيئا . إنه يكتب ، ففي هذا ترف له ، وكلما قلّ عدد من يشتريه ويقرأه يكون هذا الترف أكثر متعة وفعلية ). كذلك لم يرد كيركيغارد أن يفرض أناه على الناس ، وخاصة السواد منهم ، ولأنه كان على يقين من أن الفشل مصير كل محاولة لإسعاد البشر وجعلهم ملائكة عن طريق الفن والأخلاق والسياسة وما شابه ذلك. كما أنه لا يأخذ بنهج من تلقى التجلي ، وهو لايريد أن يكون قدوة أو مرجعا ، إنه ( كاتب هاو ) لايتكلم الا بأسمه. أما الشعر فمعناه عند كيركيغارد أن تكون ( موجودا ) بأسلوب معين. ولذلك إرتبط الشعر ، في تأملاته ، بالموقف من الحياة والنظرة الى العالم ، وقال إن الشاعر الحقيقي هو من ( يحيا بصورة شعرية ). يرى كيركيغارد أن المواقف الوجودية الأساسية هي ثلاثة : الديني والأخلاقي والأستيتيكي. برأيه أن الشعرالأدبي هو تجسيد للأستيتيكي والرأي الأخلاقي في الحياة. ويذكر أن الشعر الحقيقي يبدو ، في الظاهر حسب ، تأملا في الجمال وتلبية لرغبات ونزوات مزوَّقة أو مدّا من الأمزجة المتقلبة. وفي المراتب الوجودية بقي الشعر مهارة praxis حياتية ، مجمّعَ تناقضاتٍ لاتعّد. والشاعر ( الأدبي ) حين يسعى الى النزوع المباشر الى الجمال الحسي أوالتأملي في العالم الخارجي يكون قد غنم العالم لكن خسر نفسه وأضاع أناه الأخلاقية . هكذا وقع شاعر كيركيغارد والشاعر كيركيغارد في فخ التناقضات.. فحين بحث الاثنان عن الواقع لم تكن أمامهما الا إمكانية واحدة : مصاحبة ظله فقط. والشاعرالذي طرح صورته في مؤلفه ( إما و إما ) هو ( إنسان شقي ) يخضّه ألم القلب ، ومهما كانت جميلة الموسيقى على لسانه فهو قد أصبح غير مفهوم لدى الناس الذين طالبوه ب( موسيقى جميلة ) لاغير. إنهم صمّ غير آبهين بعذابه ولايريدون غير الجمال المنمذج أستيتيكيا ، أما كونه إنسانا ممزقا وفي نزاع دائم مع ذاته والعالم فهذا شأن يخصه وحده ، إلا أن الشاعر في المؤلف المذكور يفضل أن يكون راعي خنازير تفهمه على أن يكون شاعرا يفهمه الآخرون بصورة سيئة. وفي مؤلفاته الأخيرة ، بينها ( حالات كلام بناء )، يدين ، بعنف، الشعر حيث يعامل الشاعر كالشخص ( الأكثر خطرا ) من الناحية الدينية. أما السخرية فكانت المرتبة التي شغلت باله منذ أن كان طالبا في عام 1836. وفي عام 1841 ينا ل درجة الماجستير ( وكانت درجة دكتوراه وفق النظام الجامعي آنذاك ) بعد دفاعه عن أطروحته ( حول مفهوم السخرية مع الإحالة الدائمة الى سقراط ). وفي الواقع كانت إشكالية السخرية إحدى العقد الرئيسية لعصره. وهو قد وجد فيها تطهيرا ومجدّدا وباعثا. ويكتب: ( ليس هناك من حياة حقيقية بدون سخرية ). وفي مفهوم العصر الرومانسي كانت السخرية متصلة ، بأوثق صورة ، بالموقف الشعري. وكان عليها أن تكون أكمل تعبير عن الموقف من العالم. إلا أن كيركيغارد أعار بالغ الإنتباه الى ضرورة كبح جماح النزعة السلبية المهلكة التي نلقاها في موقف من يسخر، وحتى أنه ختم أطروحته الجامعية برؤياه لما أسماه ب( السخرية المكبوحة ) ، بعبارة أخرى أراد أن يجابه جنون السخرية الرومانسية ( الهادم ) والتي يكون مبعثها العجزعن تحقيق المثال الأستيتيكي في الواقع القائم ، بالسخرية المكبوحة أستيتيكيا. وفي مفهومه صارت السخرية قناعا للأنا الخلقية الا أنه كان قناعا من طرا ز خاص ، فهو قد أخفاها وكشف عنها في الوقت نفسه. وفي الحقيقة كانت أناه ذات نزوع قوي صوب الجنون الرومانسي. إذ في الواقع المديني البائس والعادي كان الجنون تحقيقا لحرية الذات ، غيرأن هذا النزوع لقي معادله في الأخلاقيات بالرغم من أنه كان قائما السؤال حول هل كانت هذه الأخلاقيات شيئا يتجاوز التسامي الشعري – الديني وتعميم ما يسمى بالفضائل المدينية ( الحياة العائلية ، عمل التجار والموظفين المثابر ، الروح العملية ، الشعور بالواجب ، قبول الفوارق الإجتماعية إلخ ). ويبدو أن كيركيغارد لم يتخلص ، هنا ، من شكوكه الأساسية ، فقد إفترض ، وكما دللت على ذلك كتاباته مثل ( إما وإما ) و( الخوف والرعشة ) و( التمرس بالمسيحية ) ، إمكانية تعليق الأخلاقيات. والغريب أنه تفادى هنا ما يترتب منطقيا على طروحاته أي أن هذا التعليق يعني نهاية كل عقلانية وليس الأخلاقيات وحدها ، والتبشير بملكوت العبث والمفارقة ، بعبارة أخرى ، التبشير بذاتوية مهووسة دينيا. وكيركيغارد أدرك السخرية كوسيطة وشكل لترسيخ الذاتوية ، كعامل تحرير وإستقلال وإنفصال الأنا الفاعلة عن بنى الواقع الموضوعية كالدولة والجهاز الكنائسي والعادات وآراء العموم التي تخنق كلها الفرد ، أي أن السخرية تظهر كمهرجان شعري للأنا الحرة ، داخليا ، وغير المقيّدة بمحدوديات الواقع. وبرأيه فنحن نفقه في هذا الموقع ، الخدمة التاريخية التي أسداها سقراط. فلقد كان أول من فصل الفرد عن بنى الوا قع ودله على السند القائم فيه بالذات. وقد حقق حريته ولبى شعوره بالقيم الذاتية وذلك بمعونة السخرية المدمّرة وتشكيككها بالعالم وموضوعيته التي – كما زُعِم – لاتثار الشكوك حولها ، كذلك وضعها لعلامات إستفهام كثيرة على العالم وغلق أنظمته ومؤسساته بين قوسي النسبية. ويكتب كيركيغارد أن سقراط كان نقطة إنعطاف للتأريخ الا أنها ذات معنى سلبي ، ولأن سلبية اليوناني الساخرة إمتلكت طبيعة مطلقة ولم تكن فيها أيّ محدوديات ، وبقدرتها الإندياح الى ما لانهاية. فهي لم تنبع من مثال إيجابي معيّن أزاء الواقع الذي تمّ تجاهله كما لم تطالب بموضوعية أكمل. وعلى هذا الضوء كان سقراط كيركيغارد شخصية مبهمة ، ف(حياته كلها كانت إحتجاجا على الواقع القائم ، على الحياة الهيولية في الدولة ). وهذا هو كل شيء ... رأى كيركيغارد وجوب تحديد الموقف من السخرية الرومانسية التي كانت لدى دعاتها شرط الوجود الشعري والحياة وفق الأسلوب الشعري. وفي الواقع لم يثق كيركيغارد وكمفكر ديني ، بالرومانسيين الذين ألهوا الشاعر وبذلك قطعوا جذور الدين والإيمان. وبالرغم من أنه لم يجد أيّ مثلمة في أن يمنح الشاعر الرومانسي نفسه الحق في نقد واقعه أوعدم الإعتراف بأيّ سلطة عدا سلطة الجمال المثالي والمطلق ، فهو قد شكك بمشروعية هذا النموذج ولأن ( المثا ل الشعري يبقى على الدوام مثالا فعليا ). وبرأي كيركيغارد يكون المثا ل الخلقي الواقعي كائنا بكل قوة في حياة الفرد العامة ، ولذلك رأى أن ( وجود الشاعر هو وجود شقي ، فهو يعلو على المحدودية وليس اللامحدود ). ووراء السخرية الرومانسية يتستر بصورة سيئة إحتقار الوا قع الإعتيادي الذي أدار له ظهره. وهو في عالمه الفنتازي لم يخلق الا بديلا لهذا الواقع. إنه يعيش على الأوهام ، وهو سجينها. وقد منحته السخرية الشعور بالحرية غير المحدودة والعلو على بقية البشر. الا أنها أذاقته المرّ أيضا. فالعالم الذي يحيا هو فيه قد تحوّل بصورة غير ملحوظة الى صحراء لا يقطنها البشر بل دمى معدومة الروح. ومن هنا نصيحة كيركيغارد للشاعر الذي يحيا بصورة شعرية : ( عليك با ليأس !). وقد تكون السخرية قد أبقت الشاعر على جموحه الخلقي ومنحته ، ولو الى أمد ما ، الشعور بأنه قد إنتصر على العالم. الا أن لنصل السخرية حدّها الثاني : البون بين الشاعر والآخرين ، أي عزلته. وأيّ نفع هناك من أنه في مكان رفيع ويراه الجميع هناك لكنه بعيد عنهم وعن كل الأشياء ، وما النفع من هذا الإيمان بالتفوق إذا لم يكن أيّ أحد في الأسفل.


الشعر غواية لدى كيركيغارد أيضا

في مؤلفه ( يوميات غاو ) من عام 1832 وفيه يختتم الجزء الاول المسمى بالأستيتيكي من كتابه ( إما وإما ) ، يطرح مفهومه عن الشعر كسحر ممغنط عبر نموذج دون جوان الذي خلقه تيرسو دي مولينا في دراماه ( غاوي إشبيلية ). والمهم لدى كيركيغارد ليس بواعث الغواية ومجراها وعواقبها بل أسلوبها. ف( اليوميات ) تكرست لقضية واحدة : الإستسلام أمام الشعر، أي إنتصار الفن وحتى على الجنس. بيد أن المسألة الأكثر أهمية كانت الإستحواذ على الروح بالشعر ودفعها في طريق الضياع . وكانت حياة يوهانيس ، بطل كيركيغارد ،( محاولة العيش بأسلوب شعري ) ، وما أراد المؤلف قوله هنا هو أن الحدود عند بطله والقائمة بين الحياة والتأليف الشعري والتأمل الفنتازي والواقع قد إنمحت. وهذان النظامان المستقل أحدهما عن الآخر - نظام الفنتزة ونظام الواقع قد إختلطا في سلوك يوهانيس. ولا يخص الأمر، هنا ، عدم إنقياد هذا البطل للواقع أو نقله بصورة أمينة أو تحويله شعريا بل في أنه نقل تصوراته الى الواقع الذي صاغه فيما بعد وفق مسطرة فنتازيته ، كذلك في أن هذه التصورات فرضها على الآخرين وإن كان ذلك بأسلوب غير ملحوظ ، فالأشخاص الذين ( أغواهم ) الشعر رسموا سلوكهم ، بعدها ، وفقه ومن ثم كانت النتيجة واضحة : إرتطامهم المؤلم والمهلك بالواقع. والحق أن كيركيغارد لم يحسم موقفه من الشعر. فقد كان مسحورا بغواية الشعر وخائفا منها في الوقت نفسه. وشأن ا لكثيرين من معاصريه الرومانسيين وجد في الشعر وسيلة تنويم مغناطيسي للمتلقي ومن ثم رضوخه أو صيرورته فاقدا للإرادة أو بالأحرى وجد فيه مزيجا ، وليس تركيبا ، من الفنتازيا والواقع تكون فيه الاولى هي الثاني وفي المحصلة أدان الأخلاقي والمفكر الديني كيركيغارد الشعرََََ. وقد يكون تبريره الأخلاقي الوحيد هو أنه يستغل الشعر لتعرية وفضح قوته الإغوائية أي توجيه الشعر ضد الشعر ، ووفق المصطلح المعاصر : ممارسة ضد – الشعر. وفي مقا لته ( حول نشاطي الكتابي ) من عام 1851 إعترف بأن الغرض من لجوئه في كتاباته من أعوام 1843 – 1850 الى الأسماء المستعارة كان ( الخداع من أجل الحقيقة ) وإغواء القاريء بالشعر وجرّه الى حظيرة الدين!. ولا شك أنه يصعب للغاية تحديد الدرجة التي كان كيركيغارد فيها قاتلا فعليا للشاعر والأخرى التي كان فيها ضحيته. وفي المنظورالزمني قام كيركيغارد بتشييد نصب للشعر بدل الإجهاز عليه.. وكان نصبا متفردا : شعر الافكار. وفي أواخر حياته إكتشف المفكر الدنماركي أن المسيحية الرسمية كلها – جميع الكنائس وليس فقط البروتستانتية التي كانت الإقرب اليه ، بل الكاثوليكية أيضا ، هي ، في الجوهر ، مؤسسة شعرية حوّلت الإنجيل الى طقس شعري ومعاناة ذات طبيعة تخيلية محرومة من المضمون الوجودي الذي هو شيء ضروري للدين ولأن ( عناصر العذاب والتضحية هي الأثمن لدى الفرد ).


بدل خطاب الشعرية كانت شعرية الخطاب

وفق كيركيغارد تكون اللغة وسيطة تأمل خاضعة لعملية صياغة الأفكار وطرحها ، كذلك فالشعر، كفن يتحقق بواسطة اللغة ، ليس بقادر أبدا على التعبير عن الحسّية ، وكما نلقى ذلك في الفنون الأخرى كالموسيقى مثلا. وهذه ا لحسّية لا تظهر في الشعر إلا في هيئة الشعر المتثاقف intellectualized في مرتبتي المعنى والقيمة ، أما في الحالات الأخرى فيصبح مسخا للحسّية أو لذاته. وإغوائية الشعر ظهرت ، عامة ، في الخلخلة الجوهرية لعلائق الشخصية بالواقع الأخلاقي وفي التشكيك بهذا الواقع الذي يقنن سلوك الأفراد والعلاقات القائمة بينهم ، وفي التحويل الغادر للواقع الى منطقة للإمكانية التي لاحدود للمخيلة والرغبات فيها ، ويكون فيها الشعر القيمة الوحيدة والسيّد الوحيد. وفي كتاباته المبكرة يبين كيركيغارد أن الشعرية تسعى الى معرفة الذات، والشاعر يستمد من ذلك القناعة والمتعة الأستيتيكية . وعلى العكس من دون جوان الغاوي الإيروسي والمباشر، يطمّن الشاعر الغاوي المتأمل ، ذاته بالعثور على المعوِّض، فمادة اللذة تصبح التأمل المكرس لها. وعلاقة الشعر بالواقع تذكر ، هنا، بعلاقة الفلسفة بالممارسة لدى ماركس ، لكنها لدى كيركيغارد تكون شبيهة بالعلاقة القائمة بين الإستمناء والحياة الجنسية الطبيعية.. إلا أن الشاعر ، بحكم هذه المعرفة الذاتية الناقصة بالمعنى الوجودي ، هو كائن يعاني ، ومصدر معاناته هو ذات التفاوت القائم بين الرغبة وتلبيتها ، وذات الإنقسام الى منطقة أحلام وأخرى للواقع أوالمثال والتحقيق أو الأفكار والوجود الإعتيادي. وعندما ينمذج الشاعر العالم مثاليا ومن ثم يتعامل معه ، وعلى حد تعبير كيركيغارد ، في ( منظور مختصر ) إنما يجّرب اللذة من خلال نسف حياته الإنفعالية. وهكذا فالشاعر كائن يعاني ولأنه كائن مريض تفشت فيه جراثيم المرض الذي تنتقل عدواه الى الآخرين. ومن هنا تسمية كيركيغارد للشاعر ، في أحد مؤلفاته الأخيرة ( اللحظة )، بالكائن الأكثر خطرا. كان كيركيغارد شاعرا جاء نتاجه وصفا شعريا – فلسفيا ل( أمراض ) الشعراء وتحليلا فذا لأضطراباتهم الروحية وتشخيصا لأحوا ل العجز التي تنشأ في تلك المنطقة الحساسة للغاية من الحياة الشخصية التي هي حالة التماس مع الإنفعال والواقع. ومعلوم أن الشاعر لدى كيركيغارد ليس ( كا تب أبيات شعرية أو نصوص ) بل هو إسم عام محايد أزاء التخصصات الكتابية ، وهذا الشكل من الأدب وذاك ، وبأوسع معنى يكون الشاعر ، عنده، تحديدا لوضع إنسا ني خاص صار الأدب والخلق الشعري ، بالمعنى الضيق للكلمة ، تجسيدا وتكثيفا له. فكلمة الشاعر الواردة في أعمال الفيلسوف الدنماركي تملك أولا معنى أنثروبولوجيا – وجوديا ومن ثم المعنى الآخر: المهني والتقني – الأدبي. والشعر الذي مارسه كيركيغارد كان شعر الأفكار وليس فنيتها التي إعتبرها ، في أفضل الأحوال، مجرد غلاف لها. وليس بصدفة أن ينعت دارسو أعمال هذا المفكر المادة الشعرية في أعماله والتي إمتزج الإنفعال فيها بأفكاره وتأملاته المكرسة له ب( جدلية العواطف ). فهو قد أدرك وظيفة الأمزجة في كامل حياة الفرد. وبالفعل نلقى في أعماله كل أصناف الأمزجة ، وبها بدأ طريقه ككاتب أي تحليل فكرة السخرية في دراسته الجامعية. ولقد ربط كيركيغارد المزاج ، عضويا ، بالموقف الأستيتيكي من الحياة ، وموقف الشاعر ومعاناته لمصيره وعلاقته بالآخرين والواقع. وقد سمّى هذا المزاج بالميلانخوليا التي رسمت تلك الهالة التي تحيط بالشاعر على الدوام. والشاعر هو سجين هذه الميلانخوليا وحتى لوقام بأكبر الغزوات ونقل الواقع الأكثر مقاومة الى منطقة الإمكان وقام بتكييفه الى رغباته الأستيتيكية. فالشعر لايروي ظمأه الشخصي والوجودي لذلك يغرق في الميلانخوليا التي وجدها كيركيغارد نوعا من مرض الروح المزمن. وكما الحال في الإضطرابات العاطفية الأخرى التي لاتتكشف، بالضرورة ، من خلال سلوك شاذ بل تبقى في طور الكمون، يكون السبب الجوهري للميلانخوليا هو إنجرارالشاعرالى حالة تناقضات وجوده الخاص - الأستيتيكي وعجزه عن حسمها. وأحد هذه التناقضات يجد تعبيرا له في أن شهوة الشاعر الأستيتيكية هي غير ملباة البتة ، ولأن شروط ا لتطمين توجد خارج الشاعر ، أي في مادة الإشتهاء التي هي نادرا ما تكون خاضعة له وحتى إذا كانت فهو ليس على يقين بأنه يمتلكها كاملة. إذن يكمن في داخل الشاعر ، وحتى عند الإنتصار، الوجل والرهبة ، ومنهما تنبجس الميلانخوليا واليأس. فالعجز عن إزالة التناقض يقود الى الميلانخوليا. وليس مرد العجز ضعفا في الإرادة أو ظروفا طارئة بل لأنه قائم في وضع الشاعر نفسه. فهو لو إتخذ قراره لكان على قراره ، شأن أيّ قرار ، أن يخص الواقع. والشاعر كائن لايمكنه التخلص من الواقع وتحويله الى إمكانية ، الى تيار من الفنتازيات والتداعيات الحرة كما ليس بمكنته تغيير الأشياء وخصائصها والأحداث ، الى حالات وجود للكلمة حسب. وعلى ضوء تحليلات كيركيغارد يتبين أن ا لشاعر ذلك الغاوي الذي ينصب الفخاخ للآخرين، هو سجين أبدي في فخ وجوده الشعري ، ولاغرابة في أن الميلانخوليا كانت ذلك ( المرض حتى الموت ) الذي قد يكون أشد خطرا من شلل الجسم. وهناك من وجد أن كيركيغارد كان شاعرا فلسفيا ولاهوتيا لكنه كان أكثر قربا من دانتي وليس توماس الإكويني. وبالرغم من أن كتاباته تبدو ذات طبيعة نظرية لكنها ليست الا نتاجا مفرطا في عقليته بل هو مجازي . إن ما يقترحه كيركيغارد على فن الشعر هو التوسيع غير المتناهي لحدوده، وبدل خطا ب الشعرية صارت تجربته بكاملها تخص شعرية الخطا ب ، كما تكشف عن عقم مقولة با ختين حول أن المثل الأعلى للغة الشعرية هو السعي الى المطلق اللغوي، وأن على كل كلمة أن تعبّر ، مباشرة ، عن القصد كما لاينبغي أن يفصل أيُّ بونٍ الشاعرَ عن كلمته. إن الشعرية ( أي موقف كل من يكتب عن ظواهر الوجود بلغة " غير واقعية " ) عند كيركيغارد لم تكن ملكية لشيء مدوّن بأسلوب خاص على قطعة من الورق أو نظاما للكلمات أو نصّا مبن وفق مباديء معينة ، بل كانت ملكية للوجود. وأن تكون شاعرا يعني الأمر أنك ( موجود ) بأسلوب معين و( تحيا بصورة شعرية ) ، وبعبارة أخرى نزع كيركيغارد عن الشعر ، بل كامل الأفعال الأدبية ، الأطر ( المهنية ) وحقق للأدب إمكانية الإنتشار في كل طرف من أطراف الحياة.



المصدر الرئيسي : <p> </p>

- الأعمال الكاملة لسورين كيركيغارد:



Søren Kierkegårds skrifter og G.E.C.Gads Forlag , København, 1997 <p> </p>
أعلى