يوسف المساتي - اليسار والدين: بحثا عن لاهوت التحرير

لعل أبرز التحديات الحالية التي تواجه اليسار والقوى التنويرية ككل هي الصعود الصاروخي للأصوليات الليبرالية والدينية وتحالفها مع الاستبداد السياسي، مكونة بذلك ثالوثا مقدسا يتجه نحو تشكيل العالم وفق رؤاه وتصوراته ونسقه القيمي القائم على تسليع العلاقات الإنسانية والإعلاء من شأن اقتصاديات التدين والصدامات والتوترات المسلحة وسيادة النمط الاستهلاكي، ولن نبالغ إذا ما قلنا أن مقولات من قبيل صراع الحضارات والعمليات الارهابية للتيارات المتطرفة ذات المرجعيات الدينية...الخ، هي في الواقع مجرد أدوات تمويهية بيد الليبرالية وتوابعها لصنع حروب تخدمها وتضمن مصالح الشركات المتعددة الجنسيات.
إن جذور هذا التحالف ليست وليدة الفترة المعاصرة، مثلما يعتقد البعض خاصة ممن يرجعونه إلى التحالف الامريكي الوهابي لضرب الأنظمة والتيارات التقدمية بالمنطقة العربية، أو المعركة الافغانية عندما استعمل الدين كأداة من أداوت المواجهة مع الاتحاد السوفياتي على أرض أفغانستان، بل هي ضاربة في أعماق التاريخ، إذ أن كل الإمبراطوريات والقوى العظمى في سعيها للهيمنة كانت توظف الدين كآلية من آليات السيطرة والتمدد، ويكفي هنا أن نحيل إلى محاولات الفرعون المصري آمون توحيد مصر من خلال إقرار عبادة الإله الواحد (التوحيد)، واعتراف قسطنطين بالمسيحية كديانة رسمية لتوحيد الامبراطورية الرومانية، وتوسعات بني أمية وبني العباس تحت ستار نشر الدين الإسلامي، والمجازر التي ارتكبت في أمريكا اللاتينية في حق سكانها الأصليين باسم نشر المسيحية، وصولا إلى الكيان الصهيوني وانطلاقه من نصوص توراتية لشرعنة وجوده على أرض فلسطين.
إن هذه المحاولات وغيرها، على مدار التاريخ البشري تكشف بجلاء أبعاد التحالف الذي نتحدث عنه وخطورة توظيف الدين وإمكانياته التجييشية التي استغلت وتستغل في تأييد الاستبداد وشرعنة حروب يجني ثمارها رجال المال والسياسة ويخسر فيها الإنسان.
فإذا ما نحن انتقلنا إلى الرقعة الجغرافية الممتدة من المحيط إلى الخليج وبفعل تراكمات عقود من تحالف رجال الدين والاستبداد منذ بيان الاعتقاد القادري الشهير الذي أعلنه الخليفة العباسي القادر أوائل القرن الرابع الهجري، والذي انتصر لرجال الفقه الحنابلة وحدد النموذج الوحيد للعقيدة الشرعية، وكفر وزندق أي محاولة للتفكير خارج الخط المرسوم، وشن حربا ضروسا على المعرفة العلمية ليتم اجهاض بوادر الحركة الإنسية التي كانت آخذة آنذاك في الانبثاق والتبلور، تحت مسميات التكفير وصيانة بيضة الاسلام والعقيدة من الهرطقة والزندقة، لتتحول البنية الذهنية لهذه المجتمعات إلى بنية مغلقة تعلي من شأن المقدس وترفض النقد والمساءلة وتتقوقع داخل الذات، والأخطر من ذلك، هو النظر إلى المستقبل من خلال نوافذ مشرعة على تصورات أنموذجية لماض مفترض لم ولن يتحقق إلا على صعيد الوجدان والتمني، لتعيش هذه المجتمعات أزمة التباس الماضي/الحاضر/المستقبل.
وقد ساهم في هذا الوضع، إغفال اليسار والقوى التنويرية لأهمية الدين ولخطورة وامكانيات توظيفه، بل إنه في أحيان كثيرة جعل من الدين تناقضه الرئيسي، واصطدم في أحيان أخرى مع المعتقد الديني في معارك خرج منها دائما منهزما، ومتناسيا أن الخطاب الديني قابل لشتى التأويلات والقراءات، وبرغم بعض المحاولات الفردية لبعض مثقفي اليسار والمفكرين التنويريين، ورغم تنصيص أدبيات مجموعة من الأحزاب اليسارية على استثمار الاضاءات المشرقة في الحضارة العربية الاسلامية، إلا أن المواقف الفعلية تسري عكس ذلك، بل إنها في مواضع عدة تسهم في ترسيخ قراءات تقليدية، تزيد من تقوية التيار التقليداني، وتسهم في تضعضع شعبية اليسار.
في مقابل هذا، تمددت حركات سياسية بلبوس ديني، تمكنت من تطوير أدبياتها السياسية بشكل لافت، بل ووظفت مجموعة من أدوات ومفاهيم وطرق اشتغال اليسار وقولبتها وفق تصوراتها ورؤاها الفكرية التقليدية، في حين اكتفى اليسار بموقف الدفاع وتكرار مقولات تقليدية دوغمائية تجاوزها التاريخ ومعطيات الواقع الحالي، وفي أحيان كثيرة يجنح البعض إلى الدعوة إلى الإقصاء الكلي للدين أو استئصاله من الحياة العامة، وهو ما بدا فشله جليا في الدول التي تبنته كخيار سياسي للحكم، حيث عادت حركات الإسلام السياسي (تونس، تركيا) أو الإسلام المسلح (العراق، سوريا) لتصبح فاعلا أساسيا بل ومحركا وصانعا للأحداث، وهو ما يؤكد بالملموس فشل أطروحة الاقصاء، وفي نفس الآن سقوط مبررات ودعاوى التجاهل.
إن استقراء كافة الثورات التحريرية الكبرى على مدار التاريخ البشري يجعلنا نكتشف الدور المركزي الذي يلعبه الدين في مسارات التغيير، انطلاقا من محاولات دوناتوس الذي قاد حركة اجتماعية-سياسية في القرن الثالث الميلادي من خلال تطوير وتثوير مجموعة من المفاهيم المسيحية المرتبطة بالعدالة الاجتماعية، وهو ما سيعيده أريوس في مواجهته مع محاولات الكنيسة التقليدية فرض نموذج معين والانتصار للسلطة السياسية القائمة، مرورا بمحاولات أبي ذر الغفاري في نزاعه مع عثمان بن عفان أثناء مناهضته للبوادر الأولى للإقطاع في التاريخ الاسلامي، ثم كافة الثورات الاحتجاجية المنطلقة من تثوير المفاهيم الدينية، إضافة إلى المجهودات النظرية للفرق الكلامية والمعتزلة والفلاسفة المسلمين، ومحاولات لوثر وكالفن التي مهدت لعصر الانوار بأوروبا، وحتى الثورة الماوية التي ما كان لها أن تنجح ماو لولا استثمار القيم الكونفوشيوسية، ولعل تجربة لاهوت التحرير بأمريكا اللاتينية تؤكد إلى أي حد من الممكن أن ينجح اليسار والقوى التنويرية في توظيف المعتقد الديني لتحرير الإنسان.
من هنا اذا، تظهر ضرورة الدخول في صلب المعركة الدينية وتقديم قراءات تجديدية وتنويرية للنصوص الدينية والتراث التاريخي من منطلق نقدي في مقابل القراءات الاحادية لرجال الدين التقليديين حتى تصل إلى الحد الذي تسهم به في انفتاح عقل المجتمعات الإسلامية وإيمانها بنسبية المقدس وتقبل الاخر والمختلف ومحاورة منظومتيها الثقافية والدينية من الداخل لا الخارج.
إن صعوبة الاشتغال على تثوير النصوص الدينية تنبع من ضرورة الاشتغال على مستويات عديدة بشكل جماعي وتنسيقي بين مختلف المجهودات ومن خلال تصور متكامل يمتح من الاشراقات التنويرية داخل الحضارة العربية الاسلامية ويؤسس لخطاب نقدي يسهم في طرح أسئلة تحرر عقلية المجتمعات الاسلامية
وصفوة القول أن أول خطوات المشروع التحريري الذي يجب تبنيه لا بد أن تنطلق من إعادة قراءة التراث الديني بغية كشف التراكمات التاريخية التي تعرض لها، ومحاولة تحرير النصوص التراثية من القراءات الأحادية التقليدية في أفق مشروع تحرير إنسي جديد.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى