إبراهيم محمود - مظلومية الفرْج

لعل مفهوم " مظلومية الفرج " يخرجنا في بنيته هذه، من الجغرافية إلى التاريخ، ليعيدنا بعدئذ من التاريخ إلى الجغرافية، وقد ازددنا علْماً وتنويراً بخاصية هذا المفهوم، في إثْر المتعلق بمقال " فرجنة النص ".

ليست " فرجنة النص " تحميلاً للقضيب ما يتحمله، ولا نزْع الفرج من أي مسئولية رمزية بالمقابل. جرَت فرجنة النص في نطاق المتابعة لتلك النصوص المختلفة التي طالت جسد الرجل والمرأة معاً، وكيفية تسيير العلاقات فيما بينهما، لتبرز السلطة في بنيانها الذكوري، وهي سفورها في مقام القضيب المنتصب، وهذه تركيبة فرويدية، ومن ثم تجديد من قبَل جاك لاكان، حتى على صعيد اللاوعي بوصفه خطاب الآخر، وهو في مرتجعه ذكوري.

أي اعتبار يبقى للمرأة كمفهوم فرجي، إلا أن تقوم بدور " خدمي " أن تستجيب للقوة الطاغية للرجل الذكر، أن " تفتح " بابها الجسدي السفلي له، تعبيراً عن طبيعة العلاقة بينهما، لتكون في محصّلتها نصاً، والرجل القضيب كلاماً- كتابة.

لا يُختزَل التاريخ بالطريقة هذه، وكما يعلِمنا التاريخ نفسه بذلك. إذ إن هذا الذكَر المعرى، يواجه من الأهوال والمخاطر في أن " يُطعَن فيه " أن يُتربَّص به، وهو المكشوف، أكثر من العضو الأنثوي بالذات.

ربما من السهولة بمكان القول: إذا كان الفرج قد صير فرجاً، فلعله هو من رأى في تمثيله هذا، أو قبوله لهذا التمثيل " الاحتوائي " التعبير الأكثر اطمئناناً له، على أنه في مأمن أكثر من المخاطر، فهو ليس مسحوباً إلى الداخل، وإنما هو داخل لا ينفصل عن الخارج، بمقدار ما يكون مطلاً عليه، وأن المرأة تاريخياً التي لم تدخر جهداً في إيلام الرجل، باعتباره هو الآخر وضعية فحولة، والمحوّل لكل بارز إلى تمثيل لعضوه، ليكون هو نفسه مجرد عضو منتصب، خلافها، وهي لا تنفك تتعرض لـ" غزوه " أو مداهمتها في داخلها، وما في ذلك " فرْز " علامة القهر فيها، وليس استجابة لمتعة لا يد لها فيها، بما أنها تتكلم الرجل جنسانياً، لتكثّف من حروبها الرمزية عليه إلى هذه اللحظة، في نطاق " تاريخ قهر النساء " مستعينة بشاهد عيانها : فرجها: دالة أنوثتها، ولسان حالها في مكاشفة " عنف " الآخر، والتعتيم على ما يعنيها جهة المسئولية، بأنها لا يجب أن تغفل عن دورها في هذا المضمار، على صعيد " مظلومية الفرج "، إذ ما يفيدنا به التاريخ هنا هو أن الفرج أبقى من الذكَر، وأن مغامرات الفرج لا تحصى في هذا المضمار، وأن ليس كل " اقتحام " له، ترجمة " محلَّفة " مباشرة لعنف ذكوري، يجري تعميمه هنا وهناك، لنشهد بالتالي، أطول معركة في التاريخ، وتشغل التاريخ على خلفية من هذه العلاقة " الموجَّهة باسم الذكر، لتستحيل المرأة وعبر " بوابتها " الجسدية العضوية طبعاً، الضحية التي تتجدد على مذبح شهوات الرجل، وليس لأنها هي من تمارس تهديداً للرجل بفاعله القضيبي، أو بوصفه قضيباً، حيث أجله أقصر في فقدانه النشاط الدال على خاصية الإخصاب أو منْح الرجل المتعة، مقارنة بالمرأة الذي لا يني يحافظ على هيئته، وإن كان الجسم الحامل له يثقَل بالعمر.

ما أثير في فرجنة النص توصيف لوضعية معينة على مستوى الذكورة، وليس تشهيراً في الرجل، وإشهاراً للدَّين التاريخي المزعوم الذي يدين به الرجل لها، مما قبْل التاريخ المكتوب نفسه، وما تلاه كتابةً، وفْق تصور كهذا، دَين لا يمكن سداد أو تعويضه بأثر رجعي على وقْع هذا الثقل " التجريمي " كما لو أن المرأة هي هامش الرجل على مدار التاريخ .

أن نضع الباحثة الكبيرة الشأن جوليا كريستيفا، في مواجهة جاك لاكان الخليفة الأكبر لفرويد وطقوس التنصيب القضيبية، وما للقضيب من دلالة مفصحة عن الرجل وذكورته، في مواجهة المرأة وعضوه بوصفه منزوع القضيبية، أو العضو الناقص، وما يترتب على هذا التشخيص من سحب شهادة " السوية الجسدية " لوجود هذا " العطب الوجودي " داخلها، من خلال الفقدان التاريخي الشهير للقضير، تحوير ابتزازي للرجل الذكر كتمثيل للقضيب، بما أن ذلك " القضيب الأجوف "، كما يجري وصفه، ينزع عن المرأة خاصيتها كجسد مستقل، ولن تكون معرَّفاً بها من خلال استعارة قضيبية، فثمة الفرج الدال عليها، وليس لأنها تكون مجرد فرج، مثلما أن الرجل الذكر لن يكون مجرد ذكَر، ففي ذلك ما يكشف عن صراع دائر في المحصّلة.

يعني بطريقة أخرى، أن هذا العضو الذي يشار إليها كلاماً وكتابة نسويين، ضحية تاريخ كامل، ويستبقي المرأة " تحت " بالمفهوم التراتبي، مقابل استبقاء الرجل " فوق "، لا يدقَّق في الحالة هذه بالذات، أن الكائن " تحت " لا يتوانى عن التحرك من " تحت " لـ " تحت " وهو يشد من هو " منتصب " إليه، أو يستدرجه، ليستهلكه، تحدياً له.

كريستيفا بخاصيتها النسوية، في نطاق " أنتي قضيب: أنتي فاليك "،من خلال مقالها الأثير " غرائبية القضيب De l'étrangeté du phallus "، تعمّق أثر هذا الجانب، بوصفه " جرحاً " تاريخياً، لا يندمل كمعطى مجازي، يكون الرجل وراءه، اتخذه الرجل للنيل منه، ما استطاع إليه سبيلاً. إذ بالتوصيف الجنساني هكذا: كيف لـ" مصابة " تاريخية ، وهي تنزف باستمرار، كما لو أنها تعيش تمزيقاً أبدياً لداخلها وبعثرة لقواها، من خلال خاصية " البكارة " التي تتجدد، وفْق هذه المكاشفة، وما تجلبه الصورة المدفوعة الثمن هذه من إيلام لعموم جسدها، كيف لها أن تكون شاهدة عيان دقيقة في وصف الجاري داخلها ومن حولها، وإزاء من يُعتبَر " فوق " ؟

إننا إزاء هزيمة قائمة، مسجَّلة، مستقدمة من خيال مضخّم: فرجي الأثَر غالباً، ومتحولة بصورتها هذه، إلى انتصار غفْل من التسمية ضداً على الرجل ومنطوق الذكورة فيه ؟

يُهمَل الجسد هنا بالمقابل، في الحالتين، بمقدار ما يجري تفكيكه لتركيبه نقيض حقيقته، فثمة ما يبقيهما معاً، بعيداً عن هذه " الأوهام " المركَّبة أو المولَّفة .

إذ بالمقدار الذي يحفّزني على قراءة تاريخية القضيب وكيفية تعظيم أثره لدى أمم مختلفة، كما هو الممكن تتبعه في كتاب كليفورد هوارد " عبادة الجنس" شرح لأصل أديان عبادة القضيب، الترجمة العربية، دار المعقدين، البصرة، العراق، 2016، الفصل الثاني، مثلاً، ص27، وما بعد "، هكذا أجدني متحفزاً لقراءة تاريخية الفرج، وكيفية تعظيمه لدى أمم مختلفة ، مع القضيب أو لوحده، في كتاب زينيفريد ميليوس لوبل" تحولات باوبو: أساطير الطاقة الجنسية عند المرأة، الترجمة العربية، وزارة الثقافة السورية، دمشق،2007، الفصل الثالث، مثلاً، ص 43، وما بعد " حيث إن " باوبو " كاسم، دال على الفرج، ومفصِح عنه بعمق، وهذا ما يحرّر كلا الاسمين: القضيب والفرج من حالة التسلط للأول والمظلومية التي تُجذّر في اللاوعي النسوي للثاني.

لا يعود النص بالطريقة هذه مجرد إمضاءة ذكورية، وإنما حمولة أنوثية بالمقابل، وأن المفهوم الأكثر شهرة في تاريخ الجنسانية وهو " الإيروس " وما له من دلالة لافتة، كخير معبّر عما هو ذكوري، أو ذكري، على الأقل، أكثر من كونه مفرداً أحادي الدلالة، كونه يتكلم بلغتين، ويترجم نفسه في الاتجاهين، بما أنه تمثيل لطاقة الحياة، كما جرى الحديث مطولاً عن مفهوم " الليبيدو " المعادل الموضوعي هنا للإيروس، باعتبار ذاك، أكثر من كونه مجرد الدافع الجنسي المحض، وما يتردد مقابل الإيروس كنقيض له، وكمهدد لجوهره أساساً " الثاناتوس "، القوة المدمرة، أي الموت، في مواجهة الحياة التي تبرز بلسانين، بقوتين متفاعلتين: جهة التذكير والتأنيث .

وبالتالي، فإن كتابة النص، من جهة المرأة، ومن زاوية " القضيب معكوساً " أو كما لو أنها تردُّ القضيب الممدود، المنتصب، بقضيب محوَّل وداخلي، لا تعدو أن تكون اعترافاً بذلك القضيب في حالتين: حالة وجود قضيب متعال، لا يقهَر، وحالة تفعيل أثر قضيبي لا وجود له، ترى فيه المرأة دمغة دالة على وجود الآخر: القاهر، ومن ثم، تتخذ الكتابة المحرَّرة هذه طابعاً ماورائياً بالمقابل، من القهر الوجودي، حيث الفعل المقاوِم ينطوي على ضرب من طرد الآخر من محمية الجسد الأنثوي " الفرج " المنمذج، وإشهار استقلال " الأمازونية " داخلها، وما يترتب على علاقة كهذه من الجهتين، من انزياح المبنى، وتمسيخ للمعنى بالذات.

يكون النص المعزَّز بالحضور الاثنيني متصاهرين إعلان انعطافة تاريخية- جغرافية معاً!

إنه الوعد المضروب لكتابة، ربما لاتزال في حكم المؤجَّل، أو اللامفكر فيه، طالما أنه لم يجر العمل بموجبها، طالما أن الخروج من " أوهام الكهف " بعائدها الفردي، و" أوهام السوق " بعائدها المجتمعي، لم يتم بعد، ليكون المكتوب أو المقروء أو المقروء نفسه، متراوحاً بين حدّين متباغضين، باعثين على البغض أو الحيلولة دون إنماء النص نفسه، بالصورة المنشودة، حيث إنه يستحيل التعامل معه على أنه مجرد سطور بين طيتين، أو غلافين، إنما النص السلطة، أو النص اللغة التي ما أن تُسمَع ولو هسهسة، ما أن تحل في " مهبط " صفحتها، حتى تعلِم بأوان سلطتها، برد فعلها الذي يتناسب والوديعة الاعتبارية للنص موضوعاً ذا نسَب تصور ثقافي.

لا نص وليد النص المحكوم، إنما نظير النص الحامل لاسمه الفعله كنسيج لا يحاط بمتنه، أو بخاصيته الجنسانيته، أبعد من ذبذبة " الفاليك " وغبغبة " الفرج "، بتعالق الداخل والخارج.

ذلك ما يعطي النص حضوراً أكثر جاذبية لتعددية معان، لوجه لا ينظَر في أمره على أنه مرئي، وجه ذكري، ملتح، أو مشورب " من الشوارب " إنما في شريكه الآخر، وهو ليس الآخر هنا بالتأكيد، إذ يستحيل النظر في النص، أي نص، مهما بدا بليغاً بمأثرة النفوذ الذكوري، دون لمسة أنثوية، دون تلك الرائحة بمرجعيتها البهاراتية المهجنة، وأعني بها رائحة تسمّي المرأة أكثر من كونها إيجازاً فرجياً، أو ينتهي أمرها بمجرد ما تتم تهجئة الفرج.

النص استيلاد جنساني، كما هو حال كل شيء، لحظة النظر فيها، بعيداً عن وصاية فرويدية ومن صار يتكلم باسمه تعزيزاً لما هو قضيبي فيه، بعيداً بالمقابل، عن شعائرية حِدَادية لسيمون بوفوارية: حيث لا تكون الجنس الثاني، أو كريستيفانية، إذ لا تكون اغترابية الفرج، إزاء غرائبية القضيب وغرابة أطواره.

الشعور بمتعة النص، بلذته، بوصفه مانح نشوة متعالية، ربما أكثر مما تخيله بارت نفسه في أثره التاريخي " لذة النص " تحت نزوع قضيبي معين، فهو نص اللذة بالمقابل، ومن المستحيل بمكان التعايش معه، باعتباره النص الفرج والملحق بالقول الكتابة: القضيب، لأنه بالطريقة هذه، نكون إزاء " مأتم النص، ترمله، أحادية الجنس فيه "، وليس من معنى لنص لا يشهِر مؤالفة مركَّبة عبره أو باسمه، كما هي حالة الولادة، الإخصاب الطبيعي، وقد تواشجت علاقات القربى بين القضيب والفرج، وبالعكس طبعاً *.



*- هذا المقال، ربما ما كان يُكتَب بالطريقة هذه، لولا النقاش الذي استمر قرابة ساعة بيني وبين صديق عزيز يقيم في أوربا، وصديق آخر، يقيم هنا، في دهوك، طرح سؤالاً له بعده التنويري، لهذا، يكون المقال مهدىً إليهما، وما أن يطّلعا عليه، سيعلمان بذلك.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى