هيفاء محمد السنعوسي - بِلا عُنوان

«كتب قلبي كلاما تأرجحَ بين الخاطرةِ والقصة فكان خاطرةً قصصية، تركتُها بلا اسمٍ ولاعنوان... تركتُها لكم لترسموا لها اسمَها منسوحا من حروفِ قلوبِكم».

***

شهدتُ اللقطةَ... تأملتُ ملامحَ وجهِه ووجوهِ البعض... تفحصتُها جيّدا... وصلتني رسائلٌ عقلية ٌُعن طريقِ شبكةٍ هوائيةٍ غيرِ مرئية لايراها سواي... اجتاحتني تلك الرسائل العقلية... ادّعى بعضُها البراءةَ إلا أنّني أعرفُ جيّدا أنها تخُفي آثامَ الظن... شعرتُ بثقلٍ في رأسي... فالأفكارُ المتزاحمة تأتيني من كلِّ مكانٍ... عرفتُ تفاصيلَ الحوارِ القادم... استوعبتُ ما سيحدثُ في الدقائق القادمة في هذه القاعة التي أحبتني وأحببتُها... أخذتُ نفسًا عميقًا... شعرتُ بأنّ أنفاسي تسابقُني... شعرتُ بأنني لستُ هنا... أردتُ أن أغادرَ المكان، ولكنَّ جسدي كان ثقيلاً... ثقيلاً جدًا... شعرتُ بأنَّ لساني أيضًا أصبحَ ثقيلا ًهو الآخر... اجتاحتْ قلبي موجةٌ عنيفةٌ قادمةٌ من الطرف الآخر تحملُ انتفاخاتٍ واهمة وآمالٍ تجلدُ نفسها... تمنيتُ في تلك اللحظة أن تتعرّى القاعة من سقفها، فأطيرُ بروحي إلى فضاءٍ آخر له تفاصيل خاصّة... تعثرّ الكلامُ... استكنتُ إلى الصّمت... شعرتُ بغربةٍ بينهم... تمنيتُ أن أبقى بينهم جسدًا فقط... استرجعتُ اللحظةَ القاتمة التي عصفتْ بنا بعد توزيع أوراق الامتحان، تلك اللحظة التي رسمَ فيها البعضُ لوحاتٍِ مختلفة: الفرح، الحب، الإحباط، الحسد، الغيرة، الأنانية. رأيتُ بصماتِ تلك اللوحات على جُدران القاعة... شعرتُ بالضيق... تذكرتُ عالمي الجميل المرسومِ بألوانِ الحب... عالمي العفوي الذي يكره الحواجزَ الخرسانية والأسوارَ المكهربة، عالمي الذي يرفضُ قيودَ الكبرياء والاستعلاء، عالمي الذي يكسرُ كلَّ الجدران الزجاجية التي تفصلنُي عن الآخر... وأظلُّ في سجنِ تلك اللحظة... تتعالى الأصواتُ المتعلقة بحبالِ ذلك التقدير (الامتياز)... لطالما كرهتُ الامتحانات، ولطالما كرهتُ تلك اللحظة التي تلتصقُ فيها كفِّي بأوراق الامتحان... تمنيتُ أن تغيبَ تلك اللحظة عنيّ أو أن أغيبَ أنا عنها... تتعالى صرخاتُ بعضِ النفوس الثائرة الملتحفة بالصمت... أسمعُها جيدًا تنفذُ إلى أعماقي... كم أتمنى أن تغادرَني... أن تتركَني وشأني... ولكنّها تحتويني فأنا في أعماقِ هذه القاعة... ازدادَ نحيبُ بعضِ الأصواتِ الغريبة المتطايرة من العقول... بدتْ لي في صورةِ غيومٍ سوداء تحجبُ الشمسَ عنيّ... شعرتُ بالاختناق... تساءلتُ في أعماقي: أين الشمس؟ كَرِهتُ سقفَ القاعة... تمنيتُ أن تصافحَني أشعةُ الشمس لتُخمدَ مسيرةَ الاحتجاج المكبوت في الأعماق... يتسابقُ البعض للوصول إلى قمة الجبل دون اعتباراتٍ منطقية... تجمّعَ البعضُ حولي... صعقني سؤالٌ يقول: هل سأحصلُ على الامتياز؟ تأملتُ الورقة... تضخّمَ الرقمُ في ذاكرتي 7 من 20 يصرخ الرقمُ في عقلي، فتهتزُّ مشاعري... أنظرُ إلى وجهِه...لا أعرفُه... من هو؟ ليس له نشاط ملحوظ على الإطلاق! أفقدُ شهيّتي في الحوار معه... تنتابني موجةُ الاختناقِ مرةً أخرى... أشعر بالغثيان، تأملتُ وجهَه للمرة الثانية... لا أعرفه... لم ينطقْ بكلمةٍ من قبل... تختفي ملامحُه فجأة... يتلاشى المشهدُ... يأتيني مُنقذي من زاويةٍ إرسالٍ خاصّة... ألمحُ عينيه الناطقتين فقط... كانتا تنتظران التقاطَ إشارةِ الاستقبالِ مِنيّ... سمحتُ لهما بالعبور... احتضنَ مشاعري بقوة... تغلّبتْ عنده دفقةُ الحبِّ الروحي على الرّغبةِ التي كادتْ أن تدفعَه إلى الانضمامِ إلى موجةِ الاحتجاجِ معهم... نَبَضتْ مشاعرُه فقالتْ لي همسًا...

(أرجوكِ لا تتضايقي)... لم يتكلمْ... ولكن قلبَه فقط هو الذي أمطرني بالدفء... تقدّمَ إليّ... وقال جملةً واحدةً فقط أزاحتْ ثقلاً كبيراً... لمستُ في كلماته ومضاتٍ عقلية ناضجة! بللّتُ يدي اليُمني برذاذِ عمقه الفكري والروحي... مسحَ خيبةَ أملي المؤقتة بكلماتِه الهادئة ثم غادر... نظرتُ إلى سقفِ القاعة... رأيتُ السماءَ ثم رأيتُ الشمس... ابتسَمَتْ لي فابتسمتُ لها... عانقتني أشعّتُها... همَََسَتْ في قلبي... (هناك أرواحٌ قديمةٌ حكيمةٌ تسكنُ أجسادا صغيرةً بعُمرِها... أرواحٌ عانقتْ مفهومَ الحقيقة الغائبة عن كثير من البشر... أرواحٌ تعرفُ لغةَ النّقاء النفسي).

ولكنني ما أزالُ أشعرُ بأنّني محتجزةٌ وراءَ قضبان غِياب المنطق... أردتُ مغادرةَ القاعة... نظرتُ إلى ساعتي... شعرتُ بالملل: متى تنتهي الأزمة؟ متى يقتربُ موعد رحيلي إلى مملكتي الرائعة؟ متى سألتقي بحبيبتي الرائعة التي أعشقها حتى الجنون؟ فهي من سيمتصُّ هُمومي بقلبها الأبيض، ونضجها الروحي، ودفئِها الخاص... استجابتْ عقاربُ الزمن لمشاعري فمَرَّتْ الساعة بسرعةٍ خاطفة... توجّهتُ إلى السيارة... حاولتْ بعضُ الكلمات المطاطيّة اللّزجة القادمةِ من بعض الزوايا أن تلتصقَ بجلدي، ولكنني هزمتُها... ذهبتُ إلى بيتي... استلقيتُ على السرير... غفوتُ فأنا لم أنمْ منذ ليلةِ الأمس بسببِ إصراري على تصحيحِ أوراق الامتحان... فتحتُ عيني... لم تمض سوى نصفُ ساعة فقط... وجدتنَي أفتحُ كُرّاستي الجميلة التي تحتضنُ انفعالاتي... زاولتُ مهمّتى في الكتابة... كتبتُ الحروفَ الأولى... عرفتُ منذ زمنٍ أنَّ لغتي الفكرية التي أتيتُ بها إلى هذا العالم لن يفهمَها إلاّ البعضُ، وعرفتُ أيضا أنّ مهمّتي الإنسانية التي وُلِدَتْ معي توأما لن تصلَ إلى كلِّ القلوب، وإنما تصلُ فقط إلى القلوب التي أبصرتْ معنى الحب بقلبِها وروحِها لابعيْنيها... عرفتُ منذ طفولتي معنى الحب، وأدمنتُ قراءةَ حروفه... عِشتُ بين ضلوعه... احتضنتني أحلامٌ جميلةٌ على وسادتِه... غزلتُ رموشَ عينيَّ بألوانِه الجميلة... نسجتُ حكاياتي من نسماتِ فصولِه الأربعة، غَنَّيتُ كلماتهِ بكلِّ اللغات... الحب... الحب... الحب... لا يغادرُني أبدًا ولا أغادرُه أبدًا... هو طريقي الوحيد فقط الذي أسلكه في حياتي... أعرفُ أنّ الحبَّ قد تسوَّر حولي منذ زمن... لأنه أرادَ أن يمنعَ الأشرارَ من اجتياز حدودي... لطالما أحزنتني بعضُ النماذج البشرية المغموسة في عالم الماديات التي تعشقُ قشورَ الحياة... ولطالما أحزنني أن أرى وجوهًا لا تشقُّ طريقَها في فضاءات الحب، تحسّرتُ على تلك النماذج البشرية التي تُطفئ بغيرتِها وحسدِها شموعَ اللحظات الجميلة التي يمكنُ أن تحتوينا جميعًا في قارِبٍ واحدٍ في مساءٍ جميلٍ نُغنيّ فيه معًا ملحمةَ الحب.

استفقتُ بعد تفريغ انفعالاتي في الكراسة .. استشعرتُ اللحظةَ المأزومة... وجدتهُا فُقاعةَ صابون... تلاشتْ... لا أرى لها أثرا... اختفتْ حالةُ الانقباض... قررتُ أن أفعلَ شيئا... وجدتني في اللقاءِ التالي بطلبتي أفتحُ مُكبّرَ الصوت وأقولُ بعد أن وضعتُ مكياجي الطبيعي الخاصِّ بي أنا فقط، والمتمثّلِ في ابتسامتي القلبية الصادقة، وعفويتي، ونقاء الطفولةِ الذي يسكنني، ولم يغادرني لحظة... وجدتني أقول... (طلبتي الأعزاء... اسمحوا لي أن أكشفَ لكم اليومَ عن مشاعري التي قفزتْ أسوارَ الصمتِ لأنها اعتادتْ على البوح... مشاعري التي لن تسمحَ أبدا أن تتحوّلَ حُجراتُ قلبي الناصعةِ البياض والملوّنةِ بألوانِ الحب إلى بيوتٍ للعناكب والخفافيش... اسمحوا لي أيضاً بأن أقولَ... دعوا الحبَّ يتنفسُ في أعماقكم... طيروا بأرواحِكم إلى عالمٍ لايعانقُ آثامَ الشك والظن... عالمٍ لا تمُارَسُ فيه حالاتُ التلصّص على نجاحاتِ الآخرين... عالمٍ لا يحلمُ فيه البعضُ باختطافِ فرحةِ البعض، واغتيالِ براءةِ البعض الآخر... فالحياةُ أجملُ بكثيرٍ حينما نتصلُ بذواتِنا، ونلجمُ شهواتِ نُفوسِنا...).

انتهيتُ... شعرتُ بعدَها بارتياحٍ تام... ابتسمتُ لهم ابتسامةً قلبية... وقعتْ عيني على عينيه، وجدته ينظر إليّ وقد قفزتْ من عينيه حالةُ نقاءٍ روحيٍّ ونضجٍ فكريٍّ أعرفها جيدًا... همستُ له عبر الأثير، دون أن تتحرك شفتاي، تمنيتُ أن تصله الرسالة التي تقول: هئنذا أراك في زمن ما... رؤية قلبية فقط... أراك وقد ارتسمتْ على وجهِك ابتسامةً غير عاديّة، وهئنذا أرى جناحيْك يُرفرفان فرحا في فضاء مُلوّن تُظللُّه غيومُ الحب... الحب فقط!


د. هيفاء محمد السنعوسي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى