تعبان لو ليونق - إنتحار المعجمي.. قصة قصيرة "

عٌثر على المخطوطات الستّ التالية بالقرب من سرير الضحية (وجد ميتًا)، وهذه سيرته الذاتية: ترك الدارسة في سن السابعة، متحججاً أنها تبديد للوقت. في الأشهر الثلاث التالية، نًشًر مقالات حظيت بالثناء المستحق بصحيفة “الأضواء” Lights وهي مرادفة بالطبع لصحيفتكم “الأوقات” Times. لأسباب غير معلومة، ترك الكتابة ولم يٌسمع عنه منذ ذلك الحين. خصني بالمعلومات التالية لأنني الشخص الوحيد المداوم على زيارته. قال انه كتب العديد من القٍصص القصيرة، بمعدل أربع قصص في اليوم، لماذا لم تنشر؟ لان الناشرون لم يتجرءوا على نشرها. عندما فشلتُ في إلقاء نظرة عليهم، لعنت الناشرين وحسهم التجاري-الحكومي الذي يمنعهم من نشر قصص استثنائية، أو مكتوبة باستثنائية!
قد كان منشغلاً كما قال- كان يُخطط ليصبح ديكتاتوراً على جزيرتنا، ديكتاتور مطلق لها. ما إن يصبح ديكتاتور، سيشرف شخصياً على كتابة معجم “الياء”، اللغة الوحيدة على الجزيرة والتي تتحدثها مائة وخمس وعشرون ألف نسمة وتتألف من خمسين ألف كلمة. التواصل بيننا مع العالم الخارجي نادر جداً، حيث لا مصالح تجارية تجذب الأجانب لجزيرتنا، وكلنا فخر بذلك. آخر ما يتمناه قاطني الجزيرة هو مغادرتها. حتى دون وجود ديكتاتور، كانت الجزيرة منعزلة كليًا عن العالم الخارجي، وفي ديوان الديكتاتور، يبلغُ الأنعزال قمته.
بخصوص المعجم قبل أن أنسى، كان، (وقد استخدم كلمة “هو” عندما كان يخاطبني) مكتوب بطريقةٍ مُختلفة عن المعاجم الأخرى، وبناءً على فكرة الفرادة، كُتب ليكون المعجم الوحيد على الجزيرة. يتم إعطاء كل فرد نسخته مع بداية العام (شهر مايو) حسب توقيتنا، وكل قاطني الجزيرة ملزمون باستخدام الكلمات الواردة في المعجم فقط، وإلا واجهوا الموت.
كان من السهل إكتشاف المهرجلين. كل سبت، عندما يذهب سكان الجزيرة لأستلام قوتهم الأسبوعي من الطعام، كان بالسوق أجهزة إكتشاف ما يدور بخلدهم من كلمات جديدة أو أفكار مختلفة. و بنهاية كل عام، تُسلم النُسخ القديمة للسُلطات لتُبدل بالجديدة، و يسحب من المُعجم خمسمائة كلمة سنوياً.
المخطوطة الأولى:
الحادية عشر مساءً، زرت دار الرياضة مساء اليوم، رأيت مُحاربون- ملاكمون، لم يرق لي ذلك. الرابعة صباحاً، حلمت أنني ملاكم - يا للعار - أولًا، قُدّت لدار الرياضة، دخلت المبنى. وتوجهت لغرفة اللبس (لا ادري لماذا تُسمى غرفة اللبس، بينما في الحقيقة نتعرى فيها). هذه إحدى تناقضات العيش في ظل نظام آيل للزوال.
المخطوطة الثانية:
العاشرة مساءً، كنت على الشاطئ أستحم. كان هناك الكثير من النساء والرجال أيضاً معرضين أجسادهم العارية للماء، الشمس والهواء. أحجام مختلفة، قصر وطول، صراحةً، قد لا يتمكن هؤلاء من حماية أجسادهم من الفقد والضياع.
المخطوطة الثالثة:
الثالثة صباحاً، أشعر بالتعب بعد كتابة نظريتي- أقصد إنجيلي الجديد -. ذهبت في نزهة، دخلت صالة ما، كان هناك أرتال من البشر – موسيقي - أعتلت سيدة ما المسرح، كنت أظن أن لا سيدات هنا، لكنها كانت هناك على المسرح، تحمل مظلة وتتماوج بغنج. ألقت المظلة - تقدمت- ألقت القبعة - تقدمت - و الموسيقى صادحة. تخلصت من القفازات و تساءلت لماذا؟! لكنها استمرت في ما كانت تفعل غافلة عن نظراتي المستجوبة، خلعت ثوبها، لامس شعرها أسفل ظهرها. عندما مالت للأمام، غطى شعرها نهديها، كان للنهدين حمالات صدر مما تعني عدم حاجتها للتخفي خلف الشعر. بدأت ترقص بهياج في ملابسها الداخلية، (للقصة بقية).
المخطوطة الرابعة:
الثالثة والنصف صباحاً، أشعر بالنعاس، غير قادر على مواصلة السرد بتسلسل وتناسق. أتذكر إني طُردت سقف المنزل الساعة أربعة ونصف صباحاً.
المخطوطة الخامسة:
الرابعة ونصف صباحاً. طُردت، متوجهاً لمنزلي أعترض طريقي أربع رجال عُراءة ملثمون. كانوا بلا مال، أو أدوات كتابة، ولم يختبروا يوما مُتعة العيش مُشرداً ليومين. إن شئت، كان بإمكاني أن أصنع لهم جميلاً ببدلتي وجيوبها، بنظارتي، مقبضها وعلبتها إن وجدت. أو بساعتي، لفافتها وطوقها. حذائي بخيوطه وجواربه (ثقوبه ورائحته يستحقون العناء كما يقال)- بنطالي (أزراره وثقب الأزرار أيضاً) والسوستة. حزامي، إن كنت املك واحدة (حيث أنهم ضليعون في ذلك) قميصي، وربطة العنق ومشبكها، الصدرية وملابسي الداخلية، لكنني لم أتمكن من فهم لغتهم.
المخطوطة السادسة:
الخامسة صباحاً، حلمت الليلية الماضية أنني داخل فصل، مُدرساً- (حلم طفولتي)، هناك أمام تلاميذي، دخل مخربون. حشد منهم تمتع بالجراءة لدخول الفصل و وصفي بالمديون. خلال ثوان أستردوا كل ما أُدين لهم بهه، كل شيء، كل قطعة، الأعواد والحشائش المزعوم إني أخذته منهم. بدأ قضم بشرتي (ملمتر، ملمتر) بدءً بأصابعي و أظافري. أحسست بحتمية الزوال . لحسن الحظ، زلت سريعاً لأنهم كُثر. توقفوا لبرهة قبل أن يهاجموا قلبي؛ حتى إنهم لفتوا إنتباه تلاميذي المتحيرون قائلين "كان بإمكان قلبه أن ينقذه لكن . . . " ضج الفصل موجة إستهزاء قبل أن يكملوا هذه الجملة القدرية. واصلوا العمل مرة آخرى بحيوية مُتجددة، أستخدموا مخالبهم، أسنانهم وحلوقهم الواسعة، كانت مهمة غاية السهولة. مروا من الرئة للكبد والحلق والرقبة و عندما بلغوا راسي، أمروا سُكانها بأخذ ممتلكاتهم والمُغادرة. هؤلاء من سعوا للظفر بحواجبي، رموشي و لحيتي (أنا مثقف إن كنت لا تعلم) وأيّ شعر على وجهي واصلوا مهمتهم، ازاحوا الجلد عن وجهي (الأذن والأنف أيضًا)، فصلوا الفك الأسفل، اللسان والأسنان والحنجرة. مخلوقين (أظنهم، رجل وامرأة) لعقوا عيوني، أكلوا جمجمتي وحظي ديدان الأرض بإمتياز التمرق في مخي.
خاتمة:
اذكر رجلاً إعتاد التهربُ من دفع الضرائب بإدعاء الجنون. كان يُغني، يضرب على الطَبل ويرقص. وأخيرًا، يُنهي العرض بمشاهدة نفسه يغني، يضرب على الطبل ويرقص.

تعبان لو ليونق / جنوب السودان
  • Like
التفاعلات: تسنيم طه
أعلى