رجب سعد السيِّد - هوم سيكنيس.. قصة قصيرة

كنت آخر المغادرين عند انتهاء دوام المساء. آخر كلمات أسمعها- واليوم ينتهي- لا أكاد أفهمها.. البنجلاديشي يقترب ويرطن. لا أفهم من رطانته غير أنه معجب برباط عنقي. أغلق الباب ورائي.
تركت الجدران الدافئة إلي الشارع المتسع. تبدأ البرودة تتهابط فوق أسفلته. تمسح مقدمة رأسي العارية ليتني أجد الباص العام سريعاً.
تسربوا من الدار واحداً بعد الآخر.. لم أعد وافداً جديداً. وفقدت غطاء مجاملاتهم. لم أسع إلي منافسة. ولكن بعضهم استشعر في مجيئي خطراً علي وجوده. فشحذ أظافره. مضوا في سياراتهم. عرضت مقابلاً للتوصيل.. لعله لم يكن مغرياً. أنهي "ماجد" حديثي عن الغربة في قسوة واضحة: "دعك من التخاذل.. افتح علي آخر سرعة. واترك العداد يعمل.. لماذا أتينا إلي هنا. إذن؟!". كان يترك مكتبه بالطابق الاعلي ويمر علي. يمازحني. وقد يجالسني. نشرب الشاي. إذا لم يكن صاحب الدار موجوداً فجأة. لم أعد أراه. وأصبح يرد علي بكلمات قليلة. عندما أرفع السماعة لأجيبه. في الصباح أو المساء. لعله خاف أن تخترق عدوي الغربة درعه الواقية.
هل سيطول انتظاري. والهواء البارد يضغط علي رأسي ووجهي؟
لماذا وافقت علي هذا المسكن البعيد؟
اضطررت لقبول الشقة. برغم إحساسي بالنفور منها. بمجرد مواجهة بابها الحديدي. أسميها "الزنزانة" كنت في الفندق غير محتاج لان أطبخ. وأجد ملابسي. في نهاية اليوم. مغسولة مكوية. تعجلت مغادرة الفندق. وطلبت من عامل الخدمات السوداني أن يساعدني لأجد مسكني الخاص. من أجل حريتي. ظل يتلكأ. وأنا- في كل وجبة- أنزل إلي المطعم. وأجمع بعض الطعام في طبقي الوحيد. وأجلس أحدق في الفراغ يأتي خادم المطعم الفلبيني. يحوم حولي قليلاً. ثم يدخل دائرتي: "هل تطلب شيئاً إضافياً يا سيدي؟" "شكراً يقف في نهاية المطعم الخالي من الآكلين. ولايكف عن ملاحظتي يعود فيقترب "هل لدي سيدي مشكلة في الطعام؟. لعل سيدي يريد أصنافاً أخري؟! "أشكرك" يستدير ليبتعد استوقفه" من فضلك يا صديقي.. هل يعمل معكم هنا مصريون". "نعم يا سيدي.. نعم.. كثيرون". "إذن. إحضر لي واحداً منهم!"
ينصرف الفلبيني المندهش. يقترب مني- بعد لحظات- شاب صغير.
ابتسم عند دنو ملامحه. يتحدث لساني بسهولة وبساطة. يقول: "خيرا" أسأله: "أين تعيش في مصر؟" يقول: "أنا سكندري.. من باكوس!".
أصيح: "وأنا أيضاً من باكوس.. محطة السوق!" يقول: "بيتي خلف سينما ليلي!" يعود ليسأل: "خير.. هل لديك مشكلة في الفندق؟" أقول: "نعم لدي مشكلة.. أفقد شهيتي للطعام يوماً بعد يوم!".
أطلب منه أن يجلس أمامي. أبدأ في التقاط بعض ملاعق الارز. أقول: "أريدك أن تحادثني.. كلمني عن "بحر جليم"! يدقق النظر في مستغرباً أشجعه: "أنت تري أنني بدأت في الاكل.. حدثني لاستمر "يضحك ويقول: "بسيطة.. أنا عائد من اجازتي السنوية.. قضيت معظمها مع خطيبتي علي شاطئ جليم!" قلت: "نعم.. نعم.. حدثني عن النساء.. قليلات هن اللاتي يرتدين المايوهات الآن! تتسع مساحة الاستغرا ب في وجهه يظل محتفظاً بابتسامته وتحرجه.
أعاود الاعتراف له: "أسبوعان دون أن أري وجه امرأة.. صعب.. ألست معي.. حتي ابن خال زوجتي. دعاني إلي بيته. وحجب عني زوجته التي طالما جالستها في الاسكندرية. قبل وبعد زواجه منها!" أتيت علي نصيبي من الطعام. أشرت للخادم. أسرع إلي. طلبت منه مشروبين.. لي ولجليسي.
اعتذر محدثي عن عدم قبول المشروب. لانه لايزال في الدوام الرسمي. قام طلبت منه أن يعدني بالحضور كل يوم. هز رأسه موافقاً. ومضي كيف فاتني أن أسأله عن اسمه!.
عرفت أنوار الباص من بعيد. رفعت ذراعي ليراني السائق فلا يتجاهل المحطة ويتركني مستمراً في مكابدة العراء. قفزت إلي المكان ذي السقف. وحصلت علي مقعد. فأمنت. أخذ الريالين. صمت يغطي وجوها مجهدة.
لم أفكر- منذ جئت- في امتلاك سيارة جئت من أجلها. ومن أجل نقود أكثر. وحلم- كان يتباعد عني- بالخروج من محطة السوق والاقتراب من بحر جليم. فلماذا جاءت معي كل تلك الوجوه. للفلاحات بائعات الخضروات في شارع المحطة. ووجوه محصلي قطار أبي قير.
في اليوم العاشر لي. في هذه العاصمة التي قدت من خرسانة مسلحة. نصحني طبيب أن أتردد علي مجالس للسمر. وأشاهد أفلاما ومسرحيات مضحكة. كنا في ضيافة صديق مشترك. وقلت للجالسين أنني لم أذق طعما للنوم منذ جئت. وأنني دائم التوتر والقلق قال الطبيب: "حاذر من الهوم سيكنيس!".
نصحني الناصحون: لا تسكن وحدك.. الوحدة قاتلة! وأنا لا أطيق مشاركة في مسكن. دفعت إيجار الشقة لستة أشهر. وضاع باقي المبلغ- وجزء آخر مستدان- في سوق الاثاث المستعمل. حصلت علي حجرة نوم مزعجة. وأجهزة منزلية تسارع إلي النهاية. رضيت بمذياع صغير. وقلت يكفيني هذا.. التليفزيون غول يهدر الوقت. ثم إن بثه لايغري علي التشبث به. مر علي بالفندق أربعة أيام قبل أن اكتشف وجود تليفزيون بالحجرة. وكلما أفتحه أجد نشرة أخبار طويلة. كلها استقبالات وينقضي وقت طويل في تلاوة أسماء لها ذيول طويلة من ألقاب متنوعة. وتتوالي مشاهد لأناس يقضون معظم يومهم في تبادل طقوس بليدة للتحية.
تباطأ الباص. ثم توقف في بقعة مظلمة تماما تمنيت ألا يكون أصابه عطل إذا غادرته هنا فلن أعرف أين أنا. وقد يستحيل مرور باص آخر. وحتي إذا تراجعت في إجراءات التقشف وفكرت في ركوب تاكسي. قد لا يأتي إلا بعد وقت طويل تبينت ان السائق توقف ليصعد ركاب جدد. لم يكونوا ركابا كانوا بعض أفراد الشرطة اضطربت أحوال بعض الركاب القلائل. سمعت عن الحملات التفتيشية ونصحت أن أحذرها قلبوا في الاوراق. أقتادوا معظم الركاب إلي خارج الباص. اقترب أحدهم مني.
أخرجت ورقتي المعتمدة. خرجت معها- بالصدفة- أوراق غيرها. قلت: "وافد حديث.. لم تستخرج لي بطاقة الإقامة بعد". لم يرد لم ينظر في الورقة المؤقتة. أشار إلي الأوراق الأخري بين يدي. مد يده. وانتقي من بينها بطاقة.
قال: "أنت صحفي". قلت "كاتب". قال: "أفهم.. أفهم.. تكتب في الصحف "لم أشأ أن أجادله. وأخيرا. رأيت ابتسامته في الضوء الباهت. قال: "أنا أيضاً أكتب!". وأعاد إلي ورقتي وبطاقتي. دون أن يزيد. غادروا الباص.انطلق السائق وقد فقد نصف ركابه.
لم أكن خائفاً عند المواجهة. ولكن التوتر عصف بي بعد أن عاود الباص سيره. سمعت حكايات عن تعساء الحظ الذين يقعون في أيديهم. أكد لي أكثر من شخص أن ورقتي لاتكفي للسير بها في شوارع المدينة. حفزني ذلك لمحادثة المدير "حسن" بخصوص الاسراع في استخراج بطاقة الاقامة.
يتعمد إهمالي. ويرفع إلي رأسه المحملة باللحية الكثيفة. يسدد عينيه إلي. ولا يحاول الابتسام. ويقول في حيادية مذهلة: "لماذا أنت قلق هكذا؟.. أنت كاتب. تستوعب العالم كله.. افترض أسوأ الظروف.. إذا أخذوك. سنذهب ونخرجك!.. ها..ها..ها!!" وكان ينجح في إسكاتي. نفوراً من حضرته الراسبوتينية.
واكتشفت أنه يسخر مني. فهو يردد بعض كلمات قلتها في جلسة عمل. ويبدو أنها لم تعجبه أصبحت أميل إلي تصديق كل ما يقال عنه برغم توصيات مخلصة بألا استمع للاغتيابات.. لم أجد أحداً لا يغتاب الآخرين. قال لي محرر الاعلانات إنه يعرفه.. لم تكن له لحية. بل لم "يركعها" في حياته.. قال أيضاً: "إن كمية الشر بداخله لا حدود لها. وأن مظاهر التدين لا تفلح في كبحه!". وكان المدير "حسن" أول من استقبلني عند قدومي. أكد أننا أبناء وطن واحد وأنه يسعده خدمتي. ثم أوحي إلي أن أحترس من الآخرين!..
كان الباص لايزال يسير في ظلام. كأنه سلك طريقاً مختلفاً أطول من المعتاد. غريب ذلك الاحساس بالتواجد في الظلام. الشوارع متسعة. عامرة بالبنايات الضخمة.. أسير فاشعر بالضيق.. الضوء خافت.. مخنوق.. تعجز أشعته عن الامتداد من مصادره إلي مسافات أبعد.. كأنما عليها أن تبقي علي الطوار.
أخيراً. تهادي الباص وهو يدخل إلي الميدان.. نظرت في ساعتي. راعني أنها لاتزال التاسعة. غادرت الدار مع انتهاء الدوام المسائي. في الثامنة. فكيف اتسعت ساعة واحدة لكل ذلك؟!
نزلت إلي الميدان المزدحم. لا خطط لدي. لا أمل في لقاء أحد من الزملاء أو المعارف فكرت في أن هذا الاحساس المتزايد ببرودة الهواء ربما يرجع إلي خلو المعدة حسنا.. أعرف طريقي إلي ذلك المطعم أكره الفول والطعمية ولكنني أجد هناك فرصة لتبادل الحديث مع العمال استوقفني أحدهم وقال انه شاهدني أكثر من مرة في محطة تليفزيون الاسكندرية احتفي بي وأضاف إلي طبقي بعض الخيار المخلل أمضغ الطعام علي مهل.. ليس لاضطراري إلي تناول عشاء رخيص لا أحبه. ولا لأن معظم ضروسي سقط كان هدفي ان أزحزح الوقت المتباطئ. قبل أن أعود أكابد الوحدة والقلق في فراشي.
بالقصة أسماء لبعض المناطق السكنية والشواطئ الشهيرة بمدينة الاسكندرية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى