ثقافة شعبية د. الشيخ سيدي عبدالله - شعر التبراع في موريتانيا.. عندما يولد الإبداع من رحم الحرمان

يطرح مصطلح “ الشعر النسائي” إشكاليات متعددة في أوساط النقد سواء العربي منه أو العالمي، ذلك أنه يفتح الباب لتساؤلات كبيرة أهمها: هل صفة “ النسائي” التي ترافق كلمة “ الشعر” تخضع لمعايير فيزيولوجية يتمتع بها الجنس النسائي دون الجنس الآخر، أم أنها تخضع لمعايير فنية تميز هذا الشعر عن صنوه الرجالي؟
لم يعتمد النقد الحديث رغم استيعابه لكل النظريات العلمية واستفادته منها الظاهرة الفيزيولوجية كمنطلق لدراسة خصائص النص الأدبي، وذلك لأن المناهج النقدية المعاصرة اتفقت على أن يتم فصل النص عن المبدع في اللحظة التي يكون فيها هذا الأخير قد انتهى من عملية الولادة الفنية. وهو ما يعني أن جنس المبدع لا يشكل “ نصا موازيا” للناقد في حالة تعامله مع النص. لقد بينت الاجتهادات الحديثة في مجال “ علم النص” أن نظرية “ تين” حول العلاقة بين المبدع والطبيعة لم تعد صالحة للتعامل مع الظاهرة الأدبية، بل إنها لم تكن أصلا دقيقة في نتائجها الأمر الذي جعل البعض يصفها بالنظرية العنصرية في الأدب. ويبرز هنا سؤال مهم وهو: كيف يمكننا أن نصنف نصا مجهول المصدر أنه نص نسائي؟ قد يعتمد البعض في الإجابة عن هذا السؤال المعطيات النحوية، فيرصد في سبيل ذلك الضمائر النحوية التي توحي بأن كاتبة النص امرأة، ولكن هذا المعيار يقف عاجزا أمام النصوص التي كتبها مبدعون رجال على ألسنة نساء. ولكي لا ندخل في جدلية نقدية قد لا يسمح الحيز المخصص لهذا المقال باستعراضها، دعونا نتفق أولا على أن هناك بونا شاسعا بين الأدب الفصيح والأدب اللهجي، وفي هذا البون تتدخل الثقافة بكل تفرعاتها، حيث أن الأخير قد لا يتطلب بالضرورة معرفة الكتابة والقراءة، وهما العمودان اللذان يشكلان ضرورة لوجود أدب فصيح، بل إن التعامل النقدي مع الأدب الفصيح ينطلق من بنية النص الداخلية والخارجية، هذه البنية التي تسيرها اللغة، وتلك اللغة التي تحدد مستوى التلقي والقراءة، وضدا على ذلك تكون الإبداعات اللهجية محكومة بالصبغة المحلية، ولذلك فالمبدع في انسجام تام وتواصل منطقي مع الذي يقاسمه البيئة نفسها واللهجة نفسها. وانطلاقا من هذه المعطيات البسيطة تكون خصائص الأدب النسائي الفصيح غير خصائص الأدب النسائي اللهجي، فلكل منهما معطياته وميكانيزماته الفنية
اعتقد أن الطفرة الأدبية الحديثة قلصت من الفوارق الفنية بين الأدب النسائي والأدب الرجالي، وأصبح مصطلح “الشعر النسائي” مصطلحا يخضع لمعايير إحصائية، تتوخى معرفة الرقم النسائي الذي يتخذ الأدب وسيلة للتعبير، أما الفروق الفنية بين الأدبين فليست مهمة ولا تلفت أي ناقد حديث. يوجد جنس أدبي نسائي خالص في منطقة المغرب العربي مكتوب باللهجة المحلية ويحمل اسما يختلف من بلد إلى بلد حيث يسمى في المملكة المغربية “بالرباعيات” انطلاقا من مستواه الموسيقي وتشكيله البصري، أما في موريتانيا فيسمى “بالتبراع”، ويتميز الأول بأنه يكتب على شكل التناظر الخليلي المعروف، وعلى أربع أبيات منفصلة عن الأربعة الأخرى، وقد لا يعتمد القافية نفسها. أما الثاني فيعتمد “الكاف” الواحد أو “البيت” الواحد، والذي يختلف وزن شطره الأول “التافلويت” عن شطره الثاني. فما خصائص فن” التبراع” في موريتانيا؟ ولماذا لا يبدعه غير النساء؟ تتألف الثقافة الموريتانية من مجموعة من الثقافات المختلفة المنشأ، والمتجانسة في تعاطيها ذلك أن هنالك قاسما روحيا يربط بينها هو الدين الإسلامي، فهو الآصرة التي انصهرت فيها جميع الثقافات التي جمعها القدر يوما على هذه الأرض، فأضحت هناك نقاط تجانس بين هذه الأعراق والاثنيات المؤسسة للطيف الاجتماعي الموريتاني، وتعتبر العلاقة بين المرأة والرجل من أهم المداميك التي اتفقت عليها هذه الأطياف، ولذلك جذور في التكوين السوسيولوجي لكل فئة، فالمرأة هي بداية الشرف الأسري وهي نهايته وعليها تدور كل الأساطير والخرافات التي تكون الموروث الفلكلوري لكل طائفة، هذا الموروث الذي أعطانا صورة دونية عن المرأة بوصفها كائنا يحتاج للرعاية والحماية والحراسة خوفا عليه حتى من نفسه، ولهذا نجد نوعا من القسرية والتزمت في كل ما يتعلق بالمرأة من تصرفات وأقوال، من ذلك مثلا أن بإمكان الرجل أن يعبر عن غرامه أمام الملأ، فيما يعتبر ذلك عيبا وحراما على المرأة، بل إنه يشكل وصمة عار في جبين أسرتها ومحيطها الاجتماعي، ومن اجل ذلك اضطرت المرأة للتعبير عن حالات نفسية ذات صبغة حميمية أن تتخذ السرية والحديث وراء الستار وسيلة للترويح عن آهاتها الغرامية، ومن هنا ولد فن “التبراع” الذي يشكل غرضا شعريا أنتجته المرأة الموريتانية لتعبر من خلاله عن مدى حرمانها وترسم فيه قصة غرامها الفاشلة أو تلك التي نجحت في فترة ما وتم تذكرها في فترة أخرى. قد يكون أصل كلمة “التبراع” تحريفا لكلمة “الترباع” وهو ما يشي بعلاقة تاريخية بين اسم هذا الغرض الشعري في موريتانيا واسمه في باقي بلدان المنطقة (المغرب مثلا)، حيث يسمى “الرباعيات”.أما الاحتمال الآخر فهو أنه قد يكون تحريفا لهجيا لكلمة “التبرع” الفصيحة، ذلك أن المتبرع في الإسلام يتوخى عدم ذكر اسمه طلبا للثواب الجزيل فيكون عطاؤه “تبرعا” لا يريد من أحد جزاء ولا شكورا عليه، والحال نفسه مع “التبراع” الذي يتميز بأن صاحبته مجهولة وهي تتبرع على العشيق “بكاف” يخلد حبها له، ولذا فإن تبرعها ليس حبا في عطاء أو شهرة، وانما هو ترويح عن قلب مكلوم ونفس معذبة. لقد شكل بيت “التبراع” الواحد قصة متكاملة لا يمكن لأي غرض آخر أن يطرقها بأكثر من قصيدة كاملة، ومع ذلك فهو يفتح لك بابا للتأويل وإعمال العقل والفكر، فهذه سيدة عاشقة تشكو من التقاليد والتقسيمات الطبقية في المجتمع، تلك التقسيمات التي جعلتها لا تستطيع الزواج من حبيبها أو حتى الإفصاح لصاحباتها بحبه: “وَيْلِ ما شْقانِ منْ عَوايدْ موريتانِ” فهذا البيت اليتيم استطاع أن يصف معاناة مجتمع بكامله، وهو في معناه لا يقتصر على مجرد التأويل الذي سقناه سابقا، بل إنه مفتوح للتفسيرات في ظل عدم معرفة صاحبة الكاف ومعرفة المعنى الذي تقصده هي بالذات، وهذا هو سر عظمة الشعر، حيث يمنحك دائما الشعور بالزهو لكونك تستطيع فك شفرة ما على قدر فهمك، إن الميزة الأساسية في المعجم المستخدم في “التبراع” هي أنه معجم لوعة وعذاب وألم مستديم، حيث تعطي الكلمات البسيطة والمألوفة حمولة معقدة ومؤلمة، فتشحن المعنى بنَفَسِ تلك العبارات الشائعة: “الْحبْ الْمَجْحودْ اعْلَ مُلاهْ اثْقيلْ ايْعُودْ مَنْدرْتِ مُرادْ كانُ يَعْرفْ ذَالْفِلْفُؤادْ بَالِ بيهْ أنُّ ذَالْيبْغِ مُكَردْ عنُّ” وقد يتحول الغزل إلى هجاء تفوح منه رائحة الغرام المكبوت، ذلك أن ما وراء اللغة على حد تعبير “الدكتور عبدالسلام المسدي” يوحي أن المعنى المقصود ليس هو المعنى الظاهر من الكاف، وبأن الكاف نفسه ليس سوى ردة فعل آنية تزول بعد زوال الغمهْ: “الرَّجالَ والُ خْيرْ اْلمَادَخلُ بَال” فصاحبة هذا الكاف تصرح بنقمتها على الجنس الرجالي عموما، لا لشيء إلا أن حبيبها آثر صدودها، وهو الأمر الذي تم سحبه على الرجال بشكل عام، ولكنها بعد لحظات تتذكر أن الأمر لا يعدو أن يكون ردة فعل تتغير بتغير الظروف: “مِنْ مِتْنْ إحْزيمُ نَفْتَحْ نِسْتَنْشَقْ نَسيمُ” هذه الآن مجرد صورة عن الحالة النفسية التي تعيشها المرأة أمام عشقها لجارها، الذي تتمنى في آخر المطاف أن يجمعهما قفص واحد: “سَعْدْ الشدُّ جارُ وِحْلفلُ مَا يِمْرِك دارُ” قلنا سابقا إن ميلاد هذا الغرض الشعري كان في بيئة محافظة، تنظر إلى المرأة من الزاوية الأخلاقية، مما ولّد لديها شعورا بالكبت والحرمان، وكانت في قرارة نفسها تطرح السؤال التقليدي المألوف: لماذا يحق للرجل أن يعبر عن مشاعره تجاه المرأة ولا يحق للمرأة أن تعبر عن مشاعرها اتجاهه؟ وذلك لم يمنع المرأة من التجاسر أحيانا على تلك المثل التي حددها الرجل لخدمته دون غيره من الأجناس البشرية الأخرى، مع وجود حالات من التعزير طالت بعض الشعراء الرجال لمجرد أنهم كتبوا شعر الغزل “قصة تصفيد الإمام ناصر الدين للشاعر حبيب الله ولد بلا اليعقوبي بسبب البيتين اللذين كتبهما في الغزل”.وهما: “رب حوراء من بني سعد اوس حبها عالق بذات النفوس جعلت بيننا وبين الغواني والكرى والجفون حرب البسوس” حيث يشعر المرء إزاء تلك الصورة أن الشاعرة تعيش في اللحظة تلك نوعا من “التحلل” الصوفي، الذي يخلق الاتحاد مع النفس لدرجة تنتفي معها الكوابح كلها، وهو ما يمكننا استنتاجه من خلال التساؤل المؤسس للكاف. إنها لقطة “سوريالية” بامتياز، حيث لا سيطرة للعقل على القلب ، ذلك أن السوريالية تعني “الرفض والثورة وهدم المثل والمعايير، وكان يدفع أصحابها شعور قوي بالحاجة إلى الصدق في التعبير لاعتقادهم بان حالات الوعي في كيان الإنسان لم تعد كافية لتفسيره لنفسه وللآخرين وبان لا شعوره يتضمن جانبا من كيانه أوسع وأكثر أصالة ودقة”. إن المتتبع لفن “التبراع” الموريتاني سيلاحظ أن هناك تطورا مسه مثلما مس جميع الأغراض الشعرية الأخرى، ذلك أن لغة حديثة ومصطلحات جديدة بدأت في التسرب إلى قاموس هذا الفن، وأهم هذه المصطلحات، مصطلحات الآلة، لكن الشيء الذي لم يتغير في “التبراع” هو الوزن الذي اعتمده منذ النشأة ولا زال يعتمده إلى الآن والمتمثل في أن “التافلويت” الأولى تنتمي “لحثو اجراد” و”التافلويت” الثانية من “لبتيت التام”. ولكن المقامات الموسيقية التي يتم فيها الغناء بهذا اللون الشعري تعددت بتعدد الآلات الموسيقية واختلاف الذائقات، فهو الآن يخضع لثلاثة مقامات هي: “اللين” و”لبتيت” و”لكحال)، هذا الأخير الذي يشكل نقطة تلاقي بين الموسيقا الموريتانية ونظيرتها المشرقية، حيث يقابله هناك مقام “الرست”. هكذا إذا أثرت الحياة المعاصرة في المعجم المستخدم في هذا الفن الأصيل، كما أثرت في مستويات تلقيه، ولئن كان المتلقي الموريتاني القديم عاش نشوة تكسير أفق انتظاره أمام فن “التبراع”، ذلك التكسير الذي أسهمت فيه الموسيقا إلى حد كبير، فإن المتلقي اليوم يجد في حمى التجديد الموسيقي ما يمكنه من التماهي صوفيا مع هذا الغرض الشعري، وذلك لما يميزه من صلاحية لجميع العصور. وهناك ظاهرة أخرى تميز التبراع الحديث وهي أن صاحباته إن لم يصرحن بأسمائهن فإنهن يصرحن باسم المغزل به تارة ، وقد يكون هذا الأخير متضمنا في اسم مستعار يحمل شفرة سرية تتمثل أحيانا في فعل رجاء أو تمني أو صيغة اسمية تدل لغويا على أن التكتم على اسمه أمر مقصود : “يَاربِّ لعادْ يتْخَمَّم بالْغَيْرِ مراد إبْعِزَّكْ مِفْتخْرَ وُتْرَابْلادْ الْماراتْ إخْرَ إمْشَ “فَتىً” آمنت بالله ربا” وقد يصل الأمر إلى حد إرسال شفرات لغوية يتفق عليها الطرفان عن غير قصد منهما وهو ما تشرحه الضمائر اللغوية المستخدمة في الكاف: “إتْمِرْ إنت يَلِ تَنْسانِ وان تَحْجلِّ مِرْ انت يَلِّ حد ابغاك اعليه اتْغَلِّ” وهنا من المفروض أن يكون الشخص المستقبل لهذا الخطاب مدركا لما يعنيه الحديث ومقتنعا بأنه موجه إليه، كما أن لغير الطرفين الحق في تبني اللحظة الشعورية للكاف، إذا كان هناك وجه شبه بين الحالات النفسية والعاطفية لكليهما. ولا نعدم في هذا المجال وجود بعض الأشعار التي تصف حادثة يصعب على المتلقي أن يفهمها أو يفسرها، ولكنها مع ذلك تصادف هوى في نفسه : “وَيْلِ ياحرِّ من ذ القرار الْمُطَرِّ مِتّهم شِ ضِدَّكْ وُالْبالْ ألاَّ حدُّ حَدَّكْ” إن نظرة سيميائية مبسطة لهذين الكافين توحي بأنهما يحكيان حادثة معينة، وهذه الحادثة يمكن تخمينها والتفكير في خلفيتها، وبذلك نكون قد وصلنا إلى الذروة القصوى في تلقيهما، وهو ما سماه رولان بارت “لذة النص”. حيث يقول: “إن لذة النص هي تلك اللحظة التي يتعقب فيها جسدي أفكاره لأنه ليس لجسدي الأفكار نفسها”. بقي أن نشير إلى أن إشكالية جديدة بدأت تعصف بهذا اللون الشعري الصادق وهي أن بعض الرجال دخل على خطه الثاني وأصبح يقرض فيه أشعارا ليست عاطفية كما أن ظهور بعض “الأشوار” الغنائية القصيرة التي يمكن أن يتم فيها تلحين مثل هذا الغرض أسهمت هي الأخرى في تحريف الصورة العاطفية التي ألفناها عن فن “التبراع”. إن هذا الفن يحتاج منا كنقاد وكمهتمين بحركة الشعر في موريتانيا إلى لفتة واعية وتدوين يأخذ الإبداع مطية للوصول إلى الغاية الكبرى والتي هي “قراءة اللحظة السيكولوجية للمرأة الموريتانية الشاعرة والعاشقة والمحرومة”.

د. الشيخ/سيدي عبدالله

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى