طلحة محمد - بين الضّفّتين

في احدى صباحات اغسطس استيقظ المحامي على وقع فاجعة أليمة لم تكن في الحسبان فانقلبت كل موازين حياته رأسا على عقب ، كان في تصوّره أن يكون هذا اليوم بمثابة شهادة ميلادة جديدة سيتحصّل عليها أخيرا لتحقيق حلم أمّه التي طالما انتظرته منذ عقدين كاملين من الزّمن .
فقد كان هذا اليوم يوم تخرّج ابنها الوحيد من معهد الحقوق الذي رأت فيه محام وحقوقي مشهور ليحقّق حلم أبيه أيضا الذي قضى معظم أوقاته عاكفا على الجرائد وسائرا في زحام العناوين العريضة التي تعتلي صفحاتها .
كان يتمنّى ان يصطدم باسم ابنه يوما ما محبّذا أن تنصفه الصّدف بصورته التي ترافق عبارات الصّفحة بأكملها فيختارها ويعلّقها على جداريّة غرفته كما يفعل مع صور الشّخصيات التي تستهويه ويدوّن في آخرها عبارة الحلم يتحقّق أحيانا رامزا إلى ابنه ويَتْبَعَهَا بامضائه .
لم يَصْدُق تصوّره ووجد نفسه متقوقعا كحلزون في زاوية المطبخ تقابله جثّة أمّه الهامدة مسترسلا في تصوراته الفضيعة التي تدعوه إلى الوقوف مرافقا أمّه إلى المعهد ومن ثمّ إلى السّماء .
مسك بيدها ورفعها إلا انها انفلتت منه وسقطت كجثّة هي الاخرى ، هنا أدرك أنها تخلّت عنه وتركته وحيدا أسير الوحدة والألم .
سرح بخياله لثوان معدودات ثم عاد وحرّك رأسه يمينا وشمالا ورفع رأسه إلى السّطح وهوى بجسده ساقطا من وقع الصّدمة ومستكينا على مضض .
بعد الكثير من محاولة أطبّاء الإنعاش استيقظ أخيرا ليجد نفسه ملقىً على سرير يخطف أنفاسه الطّبيعية جهاز التنفّس ويزوّدها بجرعات اصطناعية ، تتلاعب بنظره الكثير من الأضواء وترعبه عيون الاطباء والممرضين من حوله .
مرّت الأيام والأسابيع حتى استعاد عافيته بشكل كاف.
وبعد الاجتماع العلمي للأطباء المعروف ب " colloque " قرّروا أن يبقوه في المستشفى لمدّة أطول فأبى وراح يقنعهم أنّه تعافى كلّيا وبعد إلحاح شديد وافقوا على طلبه بشرط الخضوع الى الرّعاية النّفسية في المنزل من طرف أحد أفراد عائلته وهذا بعد استشاراتهم له حيث أجابهم بأن زوجته بانتظاره وستكون سنده وعونه وراح يسرف في هذيانه.
عاد إلى بيته الموحش كمكان لعين كونه فقد فيه أمّه وكونه لم يتّسع لكليهما .
استأنف عودته بتحضير كوب من القهوة وجلس لارتشافه على سفرته المعتادة متوسّطا المطبخ تحيط به ارواح غريبة في كل زوايا الغرفة .
استجمع قواه و باشر في النّقاش مع أحد الأرواح السّاكنة وراح يردّد الأسئلة تارة ويجيب عليها تارة أخرى ثم ينهي جَدَله بابتسامة مرغمة.
عاد إلى طبيعته يحاصره الخوف الشّديد ، لجأ إلى غرفة نومه وأشعل شموعا ثم ّ شغّل المسجّل ليسمع المدائح الصّوفية علّها تحمي روحه من الفراغ ثم ّ أخرج كتاب العلوم الطّبية ليقرأ عن حالته المرضية ويشخّصها بنفسه ثمّ يمارس استشفاءا منزليا لحالته العصيّة ظانّا أن ما يراوده من وساوس وتهيّؤات ( قصّة زواجه الوهميّة ) سببها كثرة الأدوية التي استهلكها من أكثر من طبيب .
توالت الأيام المتشابهة وهو في روتين يومي اعتيادي في منزله رافقه اسرافه في شراء الأدوية على اختلاف استعمالها بسبب أنه كل ما قرأ عن مرض أحس ّ أنه يشكو منه فلزمته الحالة النفسية المعروفة ب : "hypocondrie " لأكثر من سنة مما قاده لاستهلاك كميّة كبيرة من الادوية التي تفنّن في إلصاق طوابع عُلَبِهَا على صفحات كتابه .
الغريب في الأمر أنّه لم ينطق ببنت شفة طيلة هذه المدّة المريرة وكان دوما في صراع مع شكوكه الواهمة بأنّه لن يتكلّم مجدّدا .
بعد مرور سنة إلا يوم منذ وفاة أمّه جلس في مكتبه ومزّق ورقتين متتاليتين من الأجندة الميلادية ليتجاوز ذكرى وفاة أمه الاولى ثمّ أخرج كتابا فلسفيا من درج مكتبه و طالع بشغف عدّة نظريات لأمّهات الفكر الإنساني عن الوجود .
أغلق الكتاب على الصّفحة 198 دون أن يكمله لأن ّ نوما فجائيا باغته على غير العادة وحين استفاق أخيرا من كوابيسه فتح عينيه على يوم جديد من حياته ، هرع إلى المرآة وتأنّق كعادته السّابقة حينها كان قد مسح سنة كاملة .
أقفل بابه نهائيا عن العزلة والوحدة والكآبة وخطى بخطوات متفائلة ليجد نفسه واقفا عند قبر أمّه ويفهم أخيرا الفاصل الكبير بين الضّفّتين.
  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى