عمر سيدي محمد - الأمراض والطِّبُّ والتَّداوي في الزَّمَن الأوّل.. الجزء الأوّل.. ( يوميات فتى من صنهاجة جنوب موريتانيا)

عادات الناس وثقافتهم وسلوكهم في حياتهم اليومية لها دور كبير في صحتهم العامة.
ولقد كان للناس في تلك البوادي من أرض صنهاجة عاداتٌ جميلة تساعد في الحفاظ على الصحة وأخرى لها تأثير سلبي على الصحة.
ومن العادات الجميلة:
1- الْحِمية وعدم إدخال الطعام على الطعام، وعدم الخلط في الوجبة الواحدة بين طعامين أو أكثر، ولاتكاد ترى إنسانا بالغا يأكل خارج وقت الطعام المعتاد بل تلك عادة الأطفال الصغار.
2- عزل المريض غالبا وعدم استعمال فضل طعامه، فترى المريض حريصا على إعطاء باقي طعامه لكلب الخيمة.
وكانوا يقولون كلّ مرض ينتقل ويُعْدِي إلّا الكسر.
3- حفاظ الناس على الاستحمام الدائم كَثَقافة عامة منتشرة بينهم. والاستحمام من مياه الغُدران والقِلَات المنتشرة وكذلك الأحساء الكثيرة بمجرى الوديان في فصلي الشتاء والصيف.
4- الحفاظ على صحة الأسنان ونظافتها وللناس في ذلك كثير من العادات الجميلة والنادرة جدا والتي تكاد تكون معدومة بين أهل البوادي في كثير من مناطق العالم. فمنها أن تُقْلَعَ من رواضع الطفل الثنايا الأربع اعتقادا منهم أن ذلك يمنح الأسنان الدائمة قُوّة، وهذا التطبيق جارٍ على البنت والولد كليهما. والسواك الدائم من عادات الناس الحميدة. ومنها أن الإنسان لاينهش في أكله أبدا بل يقطع القطعة من اللحم أو غيرها بيمناه ثم يجعلها في فمه. ويسمون الثنايا "لِمْظَاحِكْ" قاصدين أنها خُلقت للبسمة وليس للأكل، وكان من عادة الناس أن ترى الشخص في السِّتِّين ولا تزال ثناياه بأحسن حال. وأكثر السواك من الشجرة الطيبة "آدْرِسْ" التي تشبه شجرة اللُّبان المعروفة أو من شجرة أَتِيلْ (السرح) أو من شجرة "انْدَرْنْ" (الكلاكل)
5- الفرحة العارمة بالضيف والتسرُّرُ بقدومه وانشراح الصدر له يُضْفي على أهل الخيمة جوّا من الفرح تعجز الكلمات عن وصفه وتتناسى الأم غيظها وغضبها على الأب وتنسى كل الخلاف معه مادام في الخيمة ضيف، وهي فرصة للأطفال أن ينالوا من الإكرام على يد الضيف وفِي سبيل إرضائه. إن الفرح الإيجابيّ له تأثير إيجابي كبير على الصحة.
وهناك عادات أخرى ليست جيدة تؤثر على الصحة وتسبب كثيرا من الأمراض ومنها بل على رأسها:
1- استخدام مياه الغُدران للشرب والطبخ وبالذات في بداية موسم الأمطار (العارظ) وقد تكون مُلوّثة مما ينتج عنه معظم الأمراض التي يعانون منها وهم لايشعرون.
2- شرب أتاي ساخنا يكوي اللسان حرارةً.
3- عدم الاحتراز من أكل لحم الدابة المريضة.
4- تنخيل دقيق الذرة سواءً "تَغَلِّيتْ أو بِشْنَة" ونزع جنينها "ئيگْجَانْ" كذلك مما يفقد الذرة كثيرا من قيمتها الغذائية المتوفرة في هذين العنصرين.
5- استخدام البلاستيك الذي دخل في حياتهم مع منتصف القرن العشرين ولم يكونوا على دراية بالتعامل معه وكانوا يسمونه "لَيْلَّحْ"
6- الملابس كانت متواضعة جدا ولا تقي من البرد الشديد ولا من الرياح التي كانت معظم فصول السنة تجتاح البلاد بصفة خاصة بعد موجات التصحر والجفاف الشديدة والتي بدأت منذ منتصف ستينيات القرن العشرين وبالذات من عام ثمانية وستين (لِخْرِيفة الصَّفْرَة) وما تلاه من نُفُوقٍ جماعي لقطعان البقر (افْرُوغْ لِبْگَرْ) ولم يحتمل كثير من الناس ذلك الوضع فنَفَقُوا هم كذاك.
7- لِبْلُوحْ وهو التسمين القسري الذي يفرض على كل فتاة صغيرة حتى ولو كان أهلها مُعْسِرِين وينتج عنه ابتلاعها لكميات كبيرة من الدهون أو النشويات أو كليهما يوميا وذلك لفترة زمنية قد تصل إلى سنتين اثنتين من العذاب.
من أشهر الأمراض التي كانت تصيب الناس:
1- حمّى الملاريا أو "تَوْجّاط" كما نسميها بالحسّانيّة وهي تصيب جميع الناس تقريبا كل خريف وهي شديدة الوطء وتحصد كل عام مجموعة من الناس.
2- الحمّى الغِينِيَّة أو حمّى الدودة الغينية والتي نسمّيها "بُرُوتُو" وهي مرض مزمن ينتاب صاحبه أوقاتا كثيرة وبالذات في فصل الخريف مسببا له ارتفاعا في حرارة الجسم وقد يُقعده عندالحركة، ولاتخلو خيمة من شخص أو اثنين "ازْحَاحِيف" بسبب بُرُوتو.
3- أمراض الرأس ومن أشهرها التهاب السحايا (بُو ارْوَيْصْ) ومنها الشّقيقة (الشّْگِيگَة) ومنها القَرَعُ الذي هو مرض وليس فقدان الشعر (لِگْرَعْ) ومنها التهاب الأذنين (ؤُجِيعْ الْوِذْنَيْنْ) ومنها رمد العينين والشَّعِيلَة بالعين. ومنها نزلة البرد ويسمونها "اِلنَّازْلَة" أو "المُرْتَفَعْ" من باب التفاؤل.
4- أمراض الفم والرقبة ومن أشهرها "السَّارْگَة" وهي تآكل اللثة وتعرّي الأسنان مما يكون سببا في تساقطها وذلك الذي قد يكون ما يسمونه "مَانْيَة واطياحْ السّتّة اعْلَ الثّْمَانْيَة" وذلك أمر كارثي عند القوم، ومنها تسوس الأسنان (السُّوسَة)
ومنها التهاب اللوزتين، فإن كان خفيفا فهو "السِّيطْ" فإن زاد فهو "اِلْخَرْزَة" أو "اِلْبِحْشِيشَة". ومن أشهر أمراض الرقبة مرض "لِگْوَيْتْرَة" أو "لِگْوَاتِرْ" وهو التهاب الغدة الدرقية، ومنها تكلّس فقرات الرقبة ومايحدثه ذلك من ألم تحت الكتف ويسمونه "النّغّاگَة"
5- أمْرَاض الصدر كالرّبْوِ (الظِّيگْ) أو التهاب الرّئتين (اِلْگِطْعْ)
والقلب ينطقونه "اِلْگَلْبْ" بكاف معقودة وبلام مغَلّظة كلام اسم الجلالة.
ومن أمراض القلب العضوية التي كان يشتكي منها الناس في الزمن الأول مايسمونه:
"اتدَّرْدِيزْ الگلب" وهو عدم الارتياح من طعام مَّا بعد تناوله أو شراب فيقولون "گَاعد اعْلَ گلبي"
"ارْدِيسْ الْگَلْبْ" وهو تسارع نبضات القلب أو تباطؤها.
"احْزِيمْ الگلب" وهو الشعور بالحزن الشديد والقلق.
"التِّخْمَامْ" وهو القلق الشديد والتفكير المُفرَطُ فيه ممّا يجلب لصاحبه الأرق.
6- أمراض الكبد ويسمونها بكل أنواعها "بُو صِفَّيْرْ" براء مغلظة وقد يسمّونها كذلك "آوْرَاغْ"
7- أمراض الطحال وأشهرها الطَّحَلُ وهو تضخمه ويسمونه "البَگْلَه" بلام مغلّظة, فيقولون "افْلَانْ مَبگُولْ"
8- أمراض البطن سواءً الجهاز الهضمي أو غيره كالقولون ويسمونها حسب خطورتها وتدرجا مع شدتها كالتالي:
التّغْيِيرْ، اتْمَژْلِي المَجِبْنَة، التِّخْمَة، الجِّغِّلْ لَدْرَسْ، الثَّمْلَة، الخ....
ويتحدثون عن "الغَرْذُرفْ" وهو ألم أعلى البطن، ويتكلمون عن "المَحْوَرْ" ويقصدون به الحموضة. والتَّجَشُّؤُ يسمُّونه "آگْرَاعْ" براء مرققة، ويستهجنونه.
البطن بصفة عامه يسمونه "اِلْكَرْش” وأعلاه يُسَمّونه الغَرْذُوفْ وماتحت السرّة هو "لِكْرَيْشَة الصّْغَيّْرَة" براءين مرققتين، ثم يأتي "الصّْفَاگْ"
9- الْجُدَرِيُّ ويسمونه "اِلجِّدْرِي" وكان يطوف الناس وباؤه ويحصد الكثيرين وأفقنا على بعض الناس بوجوههم آثاره.
10- الزگار
الزْگارْ"(بزاي مرققة ساكنة): معظم النَّاس في تلك البوادي يتحدثون عن مرض وراثي يُسمُّونه "الزّْگَارْ" من باب التفاؤل والكلمة معناها في الحسّانيّة اكتساب المناعة، وأي مرض يصيب الإنسان مرة واحدة ولايُعاوده كاالحصباء مثلا يقولون عنه "زاگِر من بوحيمرون" والطين الذي توقد عليه النار لتقويته يسمونه "طين زَاگِرْ"
والمتفحص لمرض الزّگَار يكتشف أنه نوع من مرض الزُّهْريّ، وكان الناس يجدون العافية على عقّار البنسلين بعد ظهور المستشفيات الحديثة.
11- التهاب المفاصل والألم في العظام كل ذلك يُطلقون عليه "السّْوَارِگْ" ومايصيب العضلات من ألم بعد أي عمل شاق هو "الْمَرْثَة" براء مرققة.
والأمراض العصبية من أشْهرها مرض الصَّرَعِ الذي ماكان يخلو منه أي افريگ حيث يوجد شخص مصاب به والنَّاس تعرفه وتتعامل معه بكياسة.
والصَّرَعُ نسمِّيه حسب درجاته فأبسطه "اِلدَّوْسَة" ثمّ "اِلسَّخْفَة" ونطق الفاء هنا فصيح وهو نادر في الحسّانيّة وأعلى مرَاتب الصَّرَع هو "لِبْنِيگَة"
12- وكسر العظم عندهم درجات تبدأ ب"الفدْعْ" ثم "الصِّدْعْ" ثم "الكِصِرْ" أو "الدَّگْدِيگَة"
وأما أمراض الأطفال فمن أكثرها شيوعا:
1- اطياح الحلگ وأظنه التهاب حلق الطفل الصغير في أشهره الأولى.
2- بو حَيْمْرُون وهو الحصباء
3- تِعْوَه ويسمونها أحيانا الشَّهْگَة وهي السّعال الدّيكي.
4- الجُدَرِيُّ المائي ويسمونه "يِخْلِفْ" أو "احْگِنگِطْ"
كثير من أسماء الأمراض الخطيرة تحفظها الذاكرة الشعبية للناس ويتداولها المُراهقون عند الخصام والدعاء بالشَّر ومنها على سبيل المثال:
الگَرْجَايَة، واگْرَيْوِيظَة، والمنِيَّة السَّرْفَانَة، والگَحْدَارة، والغصَّابة والطّْيَارْ وهذه المسميات كلها لموت الفجاءة والعياذ بالله. ومن دعاء الشر كذلك كَصَّارة لِعْمِرْ .
وكلّ مرض خفي عليهم أو لم يفهموا كنهه اعتبروه نوعا من السحر أو ضرب الجنّ ويعتقدون بوحود بعض السحرة يسمونهم "المَصّاصَة" ويرون أنهم يمصّون دم الإنسان حتى يقتلوه. وهذا جانب غامض من تشخيص المرض ويستغله كثير ممن يُزاولون الرّقية (لِحْجَابْ) لابتزاز كثير من الناس.
هذا النّوع من السّحر حاضرٌ الحديث عنه يوميا بين الناس وكثيرا ما يُتّهمُ به الضعفاء من النّاس وقد يُتّهمُ به الفقيه العالم حامل القرآن إذ الأمر راجع إلى الرَّاقي (الحجّابْ) واستخفافه بعقول الناس، ولكنّنا لم نسمع أبدا أن التهمة وُجِّهَتْ لأي رجل قَوِيّ ذي شوكة وسلاح. يقولون فلان "ئِظِرّْ" أو "ئِمِصّْ" أو "ئِسِلّْ" فهو ظَرَّارْ أو مَصَّاصْ أو سَلّال.
وأيّ إنسان وُجِّهت إليه هذه التهمة من جانب حجّاب معتبر فإن سمعته تصبح سيئة ولا أحد يستطيع النّفي لأن الأمر غامض وقد أعطى الحجاب بعض العلامات لضعفاء العقول تُثبتُ عندهم أن فلانا سَلّالْ. ولا أَجِد في عصرنا الحديث مشابها لما كان يعانيه الناس من تُهمٍ في هذا الباب إلا ما يدور في عصرنا من توجيه تهمة المِثْلِيَّة لأيٍّ شخص يُريد أعداؤه الإطاحة بسمعته كما فعل الرجل الماليزي العملاق محاضير محمد بنائبه أنور إبراهيم عام 1998 م.
نكتفي في هذا الجزء الأول من هذه الحلقة بالحديث عن الأمراض المنتشرة بين الناس وفِي الجزء الثاني سيكون حديثنا عن طُرُق العلاج والتّداوي إن شاء الله.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى