إبراهيم محمود - صورة خلاف الأصل

لا علْم لدي بقائل " صورة طبْق الأصل"، متى، وأين، وكيف، سوى أن الذي يمكنني قوله، هو أنه اختلق وهْماً كبيراً، وأودعه تاريخَ اللغة، ليصبح لازمة، أو تعويذة معتمَدة، من قبل العامة والخاصة: صورة طبق الأصل عن الوثيقة، أو المستند في أي موضوع، أو أي معاملة، أو نص لا على التعيين. أكان القائل بما تقدَّم منزَّهاً عن أي غرَض جانبي؟

وقبل محاولة سبْر مدى حقيقة هذا القول، أشير إلى أن ليس لدي علم بالمقابل، لا علْم لدي بالذين كاشفوا خلفيته، أو سبروا غوره التاريخي، ومن أي زاوية، إذ أنني على غاية اليقين في الحالة هذه، بوجود من تصدَّوا لمراميه أو مغازيه، وبصيغ شتى في لغات مختلفة.

ما المشكل في بنية هذا القول " صورة طبْق القول "؟

المشكل يبدأ في ثالوث كلماته، لحظة النظر فيها:

من أي جيء بالصورة؟ لتكون معتمدَة، كما لو أنها تخلَص للمصوَّر، لتكون ناطقة بحقيقته!

من أين جيء بخاصية" الطبْق "، أي جهة المطابقة؟ كما لو أن المطابِق مخلِص بدوره للمطابق!

من أي جيء بأساس " القول " ؟ كما لو أن الناطق هنا شاهد ولادته في لحظته الأولى!

ها قد أصبحنا في متاهة مركَّبة؟!

بعيداً عن الاسترسال، ليس من صورة طبق الأصل، بما أنه من المستحيل بمكان، الحديث عن الأصل، من منطلق أخذ العلم به، بوصفه معلوماً في تفاصيله: مكاناً وزماناً، لأن ما يستعان حضور، يستدعي غائباً لا يتوافق وإياه، وما في ذلك من معضلة " الشاهد والغياب " في القضايا الفلسفية وغيرها.

الأصل، في بنيته، أو إن أردنا دقة أكثر : حقيقته، ليس في مقدور أي كان، أن يمضي بنا إليه، ليس في مستطاع أي كان، أي يروي عنه، أن يذكر راوية كان على تماس مباشر به، حتى على صعيد الحديث المتواتر، إن ساءلنا الراوية عمّن يروي، في جملة الوقائع التي تحيط به: طريقة التهجئة، الحالة النفسية، المناسبة الدقيقة " ما أكثر المناسبات المقحَمة في حدث معين: تضخيماً أو تقزيماً أو تحويراً، واعتبارها من مرافقاته الفعلية ! "، وهذا لا يستثني أولئك الذين تصدّوا لوضع فقهي، ثقافي، بحثي، أركيولوجي كهذا، باعتبارهم ضليعين في الموضوع " ربما، كان أقرب مثال إلينا، ما يخص مفهوم " أركيولوجيا المعرفة- إرادة المعرفة " لميشيل فوكو، وما إذا كان بلغ منتهى قوله، حقيقة الملفوظ هنا، وهو يتحدث بلغة العارف الدقيق بالسر العميق، أو مفهوم " الأثر " لدى جاك دريدا...الخ"، طالما أن المتكلم هنا، حتى بأسلوب افتراضي، يضع في اعتباره مجموعة من الأقوال هي نسيج كلامي من لدنه، ولديه إيمان قوي بها، ليطلقها هكذا.

ليس هناك أصل، بما أن ليس في مقدور أي كان، أن يأتي بتلك الواقعة الأولى، لمن أبصر العالم، لمن صير " أبا البشرية هنا، آدم كمثال صارخ "، وحقيقة ظهوره، وكيفية التحامه بمحيطه، ونطقه بالكلمة الأولى، والحديث عن شاهد إثبات بالتأكيد.

كل حديث عن الأصل حديث عما يزيّف الأصل نفسه، عما يطلِق اسماً، وليس من علْم دقيق باللغة مصدر الاسم ذاك، ووقوع في شَرَك دوغمائي، عقائدي، علموي، بالذات .

الحديث عما هو إيماني، لا يوقف سيل الأسئلة، فما أكثر الكوارث التي كان الإيمان مصدراً لها!

سيقال هنا، أو ربما سيقال هنا، أن ما أقوله أنا هنا، بالذات داخل في هذا " اليقين " الموجَّه، ولم أقرّر سالفاً، كما أنني لن أقرر تالياً حقيقة امتلاكي لكلمة السر هذه، إنما المطروح هنا، هو ما يجب التنبه إليه، الحذر منه، عدَم أخْذ كل ما يقال أو يُقرَأ، على أنه يستحق المصادقة فور تلقّيه، بوصفه " صورة طبق الأصل "، لأن المطروح للمناقشة، والجاري التعرّض له، هو كيفية " تسلل " الأصل إلينا تاريخياً.

في " الأصل " المثبت، أو المزعوم، يحال الوجود إلى الموجود " ربما يحضرنا هنا مفهوم الدازين الهيدجري: الوجود هنا/ هناك، أي ما يلحق به الموجود وليس العكس، وفي الوقت الذي جرى التحرّي في هذا المفهوم، بتعريته مما هو متعال" ميتافيزيقي " أي ما يمنح الوجود صورة عن الموجود، وليس الموجود صورة عن الوجود، كما في حال مكاشفة دريدا له، في " أذن هيدجر، أو " يد هيدجر "، مثلاً، وغيرهما ". من أين جيء بالوجود زماناً ومكاناً، وهو في وضعية الاستحالة بشرياً؟

نحن، بصدد انفجار الأصول، الأصول التي سجّلت أصولاً، وسيقتْ أصولاً، وفُرِضت أصولاً، وليس الأصل الواحد، في أي عملية قراءة أو كتابة، أو محادثة معرفية معينة حول ذلك.

الحديث عن " أصل الحديث " تمويه على " حديث الاصل " وما في ذلك من تجلّي نبرة الإيديولوجيا.

لا حديث هنا عن الشموليات في العقائد، في المعارف، في التعاريف المختلفة، فتلك متنحاة جانباً، لأنها مطالبة، أكثر من غيرها، وقبل غيرها، في الكشف عن حقيقة نشأتها، شهادة ولادتها وسيرتها، إنما الحديث يتركز على ما يعتبَر هنا وهناك، من المسلَّمات، وفي معاملاتنا اليومية بالذات، وليس في قضايا خلافية وسجالية على مستويات عدة.

كل صورة تحمل دمغة " الخلاف " للمعتبَر أصلاً لها، مهما كانت الدقة التصويرية قائمة، لأن الذي يثار هنا، أبعد من كونه ميكانيكياً، إنه حديث ثلاثي الأبعاد، رباعيه، عما يملكه المتغيّر من نفوذ رمزي.

في صورة عن الهوية، هل أقوم بأخذ صورة عن الأصل يا تُرى، حيث تُفترَض الهوية أصلاً؟ إنما أي أصل هذا الذي تزعمه الهوية بثباتها، وفي الآن الراهن أكثر، وما في ذلك من إطاحة بمفهوم التغيير؟ في الثانية ذاتها، تلك التي يجري فيها تصوير معين، يكون لدينا حدوث تغيير، ينسف حقيقة " الأصل".

حتى لو أننا أخذت صورة عن صورة، بالنسبة إلى صفحة كتاب ما، أو صحيفة معينة، فإننا نكون سلسلة من الصورة القائمة بذاتها، رغم أوجه التشابه فيما بينها، ولكل صورة علامة فارقة تميّزها عن البقية!

لا يلعب التصديق على الصورة الملتقطة دور شاهد إثبات، على حقيقة المصوَّر، لأننا إزاء معاملة ذات طابع قانوني، أما في النطاق المعرفي الدقيق، فكل حديث بهذا الشأن إطاحة بالأصل، وتمثيل له في آن.

ربما، بالطريقة هذه، نعيش ما لا نهاية له من النسخ المزيفة لأصول، لا تعدو أن تكون اصطلاحية، وهي من جهتها، لا تصلح إلا داخل حلقة معينة، تضم أشخاصاً، اتفقوا على ذلك، دون تأكيد ضمان مفتوح.

بالطريقة هذه، تتهاوى النظريات، القواعد، القوانين، البراهين، الفرضيات نفسها، إذا كانت تنافس النظريات، وتجعل من نفسها بدائل، وهي تعلّقها، لبعض الوقت " لنتذكر هنا بالمقابل، بدعة هوسرل، وخاصية الإيبوخ: التعليق ألمانياً، أي ما يوقف كلمة معينة، ومساءلتها، قبل " إطلاق سراحها"، والذهنية العلاماتية التي اعتمدها في ذلك".

تتهاوي الأصول والصور التي تسمّيها، وحتى البراديغمات، في عالم اليوم، وهو ما يصلنا بالشواش، أو الكاوس، وهو ما يستشرف بنا خراب العالم، بأكثر من معنى، على وقْع " صورة طبق الأصل"

أين بقي العالم؟ أي قيمة اُستبقيتْ للعلم هذا، في نطاق وضعيات اليأس والقلق والخوف التي تعصف بالعالم، في مهب العنف المتنامي، وجائحة كورونا الذي لا ينفصل في كثير منه، عما أثير هنا؟

أي انعطافة سيشهدها العالم، وقد زُعزِع مفهوم " الأصل" والصورة المأخوذة عنه؟ الحياة على المحك، أكثر من أي وقت مضى!!!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى