مجدي حشمت سعيد - الحقيبة السَّوداء.. قصة قصيرة

أشاح بوجهه بعيدًا عنه ليداري دمعة غلبته وهو العصيُّ الدمع، غامت الدنيا وأظلمت الشمس وأبرقت السماء وأرعدت ثم هطل السيل في محاولة منه لخلق اتزان طبيعي يعادل تلك القوى الخفية التي أحدثها سقوط دمعة واحدة من عين أبيه حتى لا تتهاوى أسس البسيطة، أصابه الفزع لإدراكه بأن والده في أشدِّ حالات حزنه وغضبه منه، أسرع في لوثة يعدو نحو الصحراء وهو حافي القدمين، تشقَّقت قدماه وتألَّم شديدًا من جريه فوق الأشواك وقطع الصخر المُسَنَّنة وصغار الحصى الساخنة فلم يبال كما لم يدرك الخط الأحمر الذي يتبعه بإخلاص والناتج عن نزف الدماء الغزيرة من قدميه.

وصل لاهثًا إلى المقابر وراح دون أن يلتقط أنفاسه يتَّجه نحو قبر أبيه فهاله أنه لم يجده مكانه لكنه وجد بدلًا منه قبرًا جديدًا فخمًا مشيَّدًا بأغلى أنواع المرمر، رأى صبيًا يسند رأسه إلى جدار القبر الرخامي الجديد وهو يبكي بحرقة، اقترب منه وربَّت على كتفه بحنان ليهدَّئ من روعه ويدخل السكينة إلى قلبه، نظر إليه الصغير بدهشة من خلال دموعه ونذير نزف دم قان في عينيه يتأهب للانسكاب، ابتعد الصبي عنه سريعًا في وجل وريبة وعاد إلى وضع رأسه على جدار القبر ليواصل البكاء، تَعَجَّب من الَّشبَه الكبير بين الصبي وبينه فاقترب منه ثانية بحذر لينظر أعلى رأس الصبي حتى يتمكَّن من قراءة اسم المتوفى المحفور على شاهد القبر فأصابته الصدمة حين رأى اسمه هو، أسرع يعدو بلوثة باحثًا عن حارس القبور ليستطلع منه حقيقة الأمر.

لم يُصَدِّق الحارس حين أكَّد له مرارًا أن القبر قبره هو وأنه مسجى في ترابه وأن الصبي هو ابنه، راح يتحسَّس جسده مستكشفًا موته من حياته فأصابته الحيرة حين ضاعت منه الحقيقة ولم يرتح حتى حين تعجَّب الحارس من أنه موجود فوق الأرض وتحتها في آن واحد، سأل الحارس عن أبيه فأمسكه الحارس من يده ومضى به إلى غرفته الخاصة وأراه حقيبة سوداء كبيرة يعلوها التراب موضوعة فوق خزانة ملابسه المتهالكة، أنزل الحارس الحقيبة وأزاح عنها التراب ثم أعطاها له وهو يقول:

- هذه رفات أبيك وعليك أن تأخذها.

أصابته البلاهة وفتح فاه لحظات ثم ترك الحقيبة الغبراء فجأة وولى هاربًا نحو باب المقابر كمن أصابه مسٌّ من الجنون، أسرع الحارس يعدو خلفه حاملًا الحقيبة حتى لحق به عند الباب وأمسك بتلابيبه وهو يصيح فيه بلهجة آمرة:

- هذه عظام أبيك وهي تخصَّك وحدك وقد رَفَضَتْ أن تُدفن معك في قبر واحد فانتفضت من ترابها لتخرج منه وأبَتْ بإصرار أن تُدْفَن في أي مكان أنت مدفون فيه.

ألقى الحارس الحقيبة الثقيلة على كتفه الأيمن ضاغطًا بها عليه وخبط بكفه على ظهره خبطات قوية سريعة ناطقة بحزمه وإصراره على عدم التراجع عن قراره ثم دفعه إلى خارج المقابر بالحقيبة مُغْلِقًا بقوة وغضب الباب الحديدي الضخم خلفه فأحدث صوتًا عاليًا أزعج الموتى الذين صاحوا باستنكار. مضى بالحقيبة وهو لا يدري ماذا يفعل حتى وصل إلى زحام المدينة الصاخبة، أنزل الحقيبة الثقيلة ووضعها على الأرض ليلتقط أنفاسه ويمسح عرق وجهه ونزف قدميه ويبحث عن مخرج له من هذا الموقف العجيب والغريب، لم يصل إلى شيء فَهَمَّ مغلوبًا على أمره لمعاودة المسير، مال ليلتقط الحقيبة فلم يجدها جواره، أصابته الدهشة وبحث عنها طويلًا فلم يعثر لها على أثر، جلس على جانب الطريق وأخذ يبكي بحزن شديد.

انتفض جسده المرتعش جالسًا على سريره الحريري الوثير في قصره الفخم القابع على الساحل الشمالي حيث منتجع أثرياء القوم، استعاذ بالله من الشيطان الرجيم وأخذ يتلو بسرعة تتناسب مع جنون دقات قلبه ما أمكنه تذكَّره من آيات وأدعية تعيد له رباطة جأشه، راح يتعجب وهو يتحسَّس موضع ألم شديد يعتصر كتفه الأيمن ويمسح دموعه التي بلَّلت وجهه ووسادته ، جاهد ليجمع شتات فكره النائم محاولًا إيقاظه من نومه وبلادته، تَذَكَّر أنه حي وأنه لم يتزوج بالرغم من بلوغه الخمسين عامًا حيث ابتلعته بحور المال والأعمال الخادعة وسرقت منه عمره وبالتالي لم ينجب ذلك الصبي الذي رآه في حلمه أو غيره، تذكَّر متعجِّبًا أن أباه لم يمت أيضًا وقد نسيه سنوات لا يعرف كم طالت في دار المسنين الكائنة في أطراف العاصمة والتي وضع له فيها أموالًا تكفيه أعمارًا أضعاف ما تبقى له من عمر محتمل. لم يجهد فكره طويلًا في تفسير ما رآه أثناء نومه، نادي على خدمه حتى يأنس بهم ويبدأ يومه كالعادة ليخفَّف من اضطرابه وخوفه. حاول أن ينسى فعجز واضطر أخيرًا إلى تأجيل جدول أعمال يومه المكتظ لساعات واستدعى سائقه ليصحبه لإلقاء نظرة على أبيه المنسي في منفاه الإجباري المحاط بأسوار حديدية منيعة من عقوق وحيده.

وصل إلى أطراف القاهرة متذكِّرًا بعد جهد عنوان دار المسنين ففوجئ باختفاء مبنى الدَّار بأكمله وإقامة برج تجاري ضخم مكانه ، مادت الأرض تحت قدميه، سأل أهل المنطقة والجهات الرسمية وغير الرسمية عن الدار وعن والده فلم يجبه أحد، لجأ إلى قسم الشرطة ليبلغ باختفاء أبيه فلم يجد لديهم ما يفيده أو يريح ضميره المستيقظ اليوم فقط من نوم أهل الكهف، دارت الدنيا به وبرأسه الذاهب براكينه نحو الانفجار، أحس للمرة الأولى بطعنة جديدة نجلاء تخترق قلبه، أصابه اليأس حين أدركه ظلام منتصف الليل فعاد أدراجه نادمًا خالي الوفاض مضطرب القلب في ظاهرة غريبة لم تطرق من قبل باب ذلك الفؤاد الحجري الجامد.

لا يعرف كيف وصل إلى قصره الضخم الفخم حيث أمضى وقته طوال الطريق في الاتصال بعلية القوم والمسؤولين في الدولة طالبًا منهم المعونة في إعادة أبيه المفقود، أصابه الفزع والخوف حين وجد في انتظاره على الباب الداخلي لقصره تلك الحقيبة السوداء الكبيرة، أعجزته الصدمة تمامًا عن التفكير ووقف مشدوهًا، دقَّ قلبه سريعًا واضطرب جسده وارتعشت أطرافه وغرق في عرقه، استعاد رباطة جأشه وتفكيره بعد لحظات لا يعرف كم طالت، حاول أن يتجاهل الحقيبة ويتخطَّاها ويدلف مباشرة إلى الداخل لكنه عجز أمام قوة خفية صادرة منها تكبِّل قدميه، نظر حوله في تَرُّقب وريبة لص محترف ثم خطف الحقيبة رغم ثقلها وألقاها على كاهله وانطلق بها سريعًا داخل القصر مغلقًا الباب خلفه بهدوء مصطنع إلا أنه لم يجرؤ على فتحها أبدًا.

مجدي حشمت سعيد

مصر







مجدي حشمت سعيد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى