محمد مزيد - أنثى السيجارة.. قصة قصيرة

لا تثير هذه الأنثى الإهتمام ، مثل باقي النساء خارج المقهى . شكلها عادي ، شعر أصفر منفوش ، باسمة الوجه ، وقلادة فضية على جيدها الأبيض . أما طريقة جلستها ، فهي تضع ساقا على ساق خلف منضدة فوقها كوب شاي ، وعلبة سجائر من دون قداحة ، اضافة الى موبايل تلاعبه باليد اليسرى .وحقيبة نسائية لونها يشبه كنزتها الصوفية الحمراء .
اليوم هو الأول من تنفيذ قراري بترك التدخين بعد أن وصلت الرئتان الى حدٍ غير مقبول من " الخرخشة" . أتخذتُ هذا القرار بمحّض أرادتي ، ولما أبلغتُ شريكة حياتي به ، ضحكت تهّز يدها وهي تتجه الى المطبخ . عرفتُ إنها تسخرُ من قراري ، ما زادني أصراراً على تنفيذه لأسترّد نوعاً من كرامتي التي ثلمتها ضحكتها الساخرة . يمكنني القول إنني أستطعتُ بنجاح من الإقلاع عن التدخين طوال 12 ساعة ، من السابعة صباحا وحتى الآن السابعة بعد المغرب.
تطلق المرأة الجالسة أمامي من شفتيها الوردتين كورة من دخان سيجارتها ، فلم أبال بها ، ولم تنقل لي عدواها ، فأنا صلب جدا ، ولدي أرادة حديدية ، لا تهتز بسهولة كمحارب قديم . تتباهى المرأة بوضع السيجارة بين أصبعيها المخروطين ثم تحرك بها صوب الفم الوردي الجميل . وانا اتباهى بصلابتي .
لاأعرف كيف أصبحتُ عالقا بمتابعة حركات المرأة ! رواد المقهى اليوم أقل من المعتاد بسبب أمطار آذار ، تمطر ثم تصحو ، ثم تمطر وبعدها تصحو . الفتيات في مثل هذه الأجواء لايخرجن . فأخذتُ أحوس ، أتلفت يمينا وشمالا ، لا أحد سوانا يجلس على شرفة المقهى المطل على ساحة فروم قيصري . تداعب المرأة هاتفها ، وأنا مشغول بمداعبة صلابتي ازاء لعنة السجائر السخيفة التي أدمنتها منذ ثلاثين عاما .
غيرّت المرأة جلستها بإستبدال وضع الساقين . في تلك الإثناء ، أشتعل أبو أبليس في رأسي . وضعت المرأة ، سيجارة جديدة في فمها ، ولكنها أنشغلت بالوقت نفسه بشيءٍ ما ، فهمتُ إنها تبحث عن قداحتها التي يبدو إنها وقعت من شرفة المقهى الى الارض . كنت دائما أضع قداحة في جيبي حتى لو لم يكن لدي علبة سجائر . جردني قلق المرأة الباحثة عن قداحة من وقاري . فوضعت جانبا الكتاب بينما أبليس يشتعل برأسي من تفاقم قلق هذه السيدة المحترمة ذات الاربعين عاما وهي تبحث عن قداحة .
نبشت القمصلة التي أرتديها عادة في أيام المطر ، فوجدت القداحة . كانت لحظة تاريخية فاصلة في حياتي ، جعلت أبليس الذي يحوس في رأسي وفي أماكن آخرى من جسدي يأخذ راحته في الحوسان ، دثرت وقاري بقمصلتي ، ثم أبتسمتُ الى المرأة ملوّحاً بالقداحة . المرأة بدلا من أن تبتسم ، نهضت ، قامة فارعة هيفاء ، جعل نهوضها قلبي يخفق بسرعة . كانت وهي واقفة تنظر لي نظرة ذات معنى ، هذه النظرات أعرفها جيدا ، فانا خبير في النساء لا ابارى ، أكدت لي وقفتها بإنها ستجالسني وتتحدث معي ، بالرغم من إنني مازلت أطرش بالزفة من لغة أهل هذه البلاد . سارت المرأة باتجاهي ، بعد أن لملمت أغراضها . زغردت عصافير قلبي . أضرم أبليسي النيران برأسي ، عدلت قبعتي ، وتأكدت من أن عطري لم يتبّخر بعد. وصلت المرأة الى منضدتي ، فازداد خفقان قلبي ، وهي مازالت تنظر لي بغير أبتسامة ، هيأت لها الكرسي التي ستجلس عليه، كياسة تعلمتها في أواخر عمري تعشقها اي امراة قبل الاقدام على أمر ما . في تلك اللحظات ، شعرتُ أن روحي صعدت الى الفضاء تحلق مع المرأة ونحن نجوب السماء فوق البحار والوديان والجبال مثل طائرين عاشقين . في تلك الإثناء وأنا أحلق معها في عوالم الجمال ، رأيت المرأة تجاوزتني ، بقيت يدي تحمل القداحة جامدة في مكانها ، والمرأة تتجه الى خارج المقهى ، أبتسامتي جمدت مثل يدي . غادرت المرأة وتركتني وحيدا مع قداحتي وأبليس السخيف الذي أجج في داخلي كل هذه الحرائق هرب يلاحقها ، فكان لابد من إطفاء حرائقي بسيجارة ، نهضت بسرعة أبحثُ عنها .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى