محمد أحمد مخلوف - المكان في قصيدة برنس في مقهى طاسكو لعبد الواحد السويح

إلى عمر الحامدي Amor Hamdi

البرنسُ الأبيضُ في مقهى "طاسكو" يلمعُ عبر النّافذةِ ونحن بالسّيّارة نمرُّ
ستالين وماركس ولينين على الطّاولة يلعبون الورقَ مع الشّعب
يترشّفون قليلا من الشّاي ويدخّنون صرخاتِ اليوم
أفَقنا على صباح أبيض هذا اليوم رغم سواد الشّمس
رغم ضحكتِها المتأخّرةِ عن موعد فلاّحٍ مع الأرض
عن موعد عَرقٍ عالِقٌ بالسّماء الّتي لا تقطرُ إلّا أحيانا
على المدن
على سيّارات المرسيدس
السّيّارة المجنونة الّتي تمرّ الآن أمام مقهى "طاسكو" يقودها رجل بوزيديّ أسمر يعشق المطر
يطلّ من شرفة بيته ساعات وساعات
ينتظر الماءَ
يداه غصنان
وقلبُه بجناحين
في المساء التقينا والشّمس معنا في السّيّارة نُطارد المطر
لا أحد منّا ردّ على اتّصالات صاحب البرنس الأبيض
لا أحد منّا فكّر مجرّد التّفكير في الحقيقة
حين عدنا ومررنا بمقهى " طاسكو" لم يكن باستطاعة أيّ زبون مغادرة المكان
كانت السّيول تتدفّق منّا ومن ضحكات الشّمس الّتي ليست بالشّمس.

🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹


يلعب المكان دورا بارزا في الأحداث السردية، خاصة إذا كان مرجعيًّا (référentiel) و ذا أهمية تاريخية أو حاملا لذكريات شخصية، و هنا يلعب "مقهى طاسكو" هذا الدور الذي تسير في فلكه أحداث هذا النص المعنون ب " برنس أبيض في مقهى طاسكو".
على غير العادة نجد أنفسنا أمام رسالة يوجهها السويح إلى صديقه عمر الحامدي، و لكنه يشركنافي تفاصيلها في خطاب مباشر لعمر، و ان كان ملغزا بالنسبة لنا، ف"البرنس الأبيض في مقهى طاسكو يلمع عبر النافذة"، و هنا نتساءل : لماذا مقهى طاسكو دونا عن المقاهي الأخرى، و لماذا البرنس الأبيض؟
لمقهى طاسكو رمزية ملغزة لن يفكّ شفرتها سوى عمر الحامدي هذا البوزيدي أصيل منطقة الحامد، الذي يخاطبه السويح مباشرة عبر المكان الجامع لذكرياتهما و التي يؤكّدها" البرنس الأبيض "، فالبرنس دفّأهما في ليالي الشتاء و كان شاهدا على المكان و الأحداث التي تمّت هناك حيث الرفاق " يلعبون الورق مع الشعب"، مع ما يلزم هذه اللعبة الشعبية من طقوس شرب الشاي و تدخين " صرخات اليوم".
كل هذه الأحداث التقطها السويح و من معه حين مرورهم بالسيارة، لنتساءل هنا : هل نحن بصدد حلم أو أضغاث أحلام؟ و هنا يراوغنا من جديد حين يقول " أفقنا على صباح أبيض هذا اليوم "، نعم انه حلم يتحقق على أرض "مقهى طاسكو" ، فكلّ الأضداد اجتمعت هناك : صباح أبيض / سواد الشمس، ضحكتها المتأخّرة عن موعد فلاح مع الأرض، موعد عرق عالق بالسماء / لا تقطر الا احيانا على المدن، على سيارات المرسيدس.
لتتواصل رحلة السيارة و معها السويح في سرد أحداث هذه الذكريات و لكن دائما تعود إلى مركزها اي مقهى طاسكو، و هذه المرة من داخلها ليكون هو الرائي و الواصف لصاحب " السيارة المجنونة"، هذا الرجل البوزيدي الأسمر الذي يؤكّد معرفته به بكونه " يعشق المطر" فينتظرها ساعات و ساعات، و في الحقيقة السويح هو الذي ينتظر المطر لتغسل دماغه من أدران الذكرى التي لم يبق منها سوى رمزية المكان، بل هو يشارك صاحبه و يشاركنا في رحلة الذكريات حيث التقاه مساء و " الشمس معنا نطارد المطر"، فكلاهما يشتركان في نفس القضية وهي الحياة، حتى انهما لم يردّا على " اتصالات صاحب البرنس الأبيض" بل لم يفكرا " مجرد التفكير في الحقيقة"، حقيقة الكون و الوجود الذي مثَّله " مقهى طاسكو" حين عادا اليه.
فمقهى طاسكو في رمزيته هو الدنيا التي جمعته بالحامدي ذات يوم و التي " لم يكن باستطاعة أيّ زبون مغادرة المكان"، ربما هو حبّ في المكان و خوف من هذا البرنس الأبيض المهيمن على العقول، هذا البرنس الذي استحال كفنًا ينادي الجميع ممّن جمعهم مقهى طاسكو، هذا المكان الساحر حيث اللعب و الذكريات و الصرخات و الشرب و التدخين، و لكن السويح المتشبث بالحياة رغم كرهه لها أصبح مصدرا للحياة :"تتدفّق السيول منّا و من ضحكات الشمس التي ليست بالشمس"، بل هي الذكريات مع الحامدي في مكان رمزيّ فتّح عينيهما على الدنيا في "مقهى طاسكو".
م أ مخلوف ( تونس)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى