د. قيس عوده قاسم الكناني - صوت الموسيقى وتخيلات الصورة الافتراضية

ان الصوت الموسيقي بتركيبته الفيزيائية هو تردد سمعي يتردد في ذهن الإنسان والفنان وهو "ليس أكثر من تفكير مسبق عن الطبيعة الدقيقة للأصوات اما بالنسبة لصورة الصوت الموسيقي فهي مسألة تشغل الكثير من الموسيقيين, لان خلق صورة صوتية مقنعة لا يتعلق بالموهبة الموسيقية او المهارة التقنية وحسب، بل يلعب الخيال فيها دوراً كبيراً، ولا يمكنك ان تنتج صوتاً موسيقياً جميلاً او تركيباً من أصوات جميلة ما لم تسمع الصوت وتتخيله في عقلك أولاً, وعندما نسمع ما نتخيله في الواقع فانه ينطبع في الذهن بشكل لا ينسى، لان الانطباع الذي يتركه الصوت في الوجدان الموسيقي هو أمر عادي جداً، لذلك تبقى الذاكرة السمعية عند معظم الناس قوية جدا، فالأصوات التي نسمعها تبقى في الذاكرة لفترة طويلة . ( )
كما يمتلك صوت الموسيقى قدرة التعبير عن الجو العام من خلال المؤثرات الصوتية, التي نستشعرها في تكويناته الحسية الناتجة للصورة الافتراضية، وكذلك في وظائفه التي تناط به، فالمؤثر الموسيقي له وظائف تصويرية تساعد في تخيل الزمان والمكان، كما يمكن أن يكون له وظائف تعبيرية عن طريق المجاز أو الرمز أو يتم توظيفها بلاغياً من خلال البناء الفني لطبيعة الدور الذي يمثله الصوت او المؤثر الموسيقي، كما يستطيع الصوت الموسيقي أي يعطينا انطباعاً تاماً عن الموقف الذي يحدث فيه هذا الصوت, مع تصور تقريبي للمكان والزمان، فمثلا حين يستمع الناس لأحد المسلسلات الإذاعية فأنهم يستشعرون أشكال الممثلين وتعبيرات وجوههم وصور الأماكن التي تجري فيها الأحداث، من خلال الإحساس الافتراضي لرؤية الصوت الناتج من الموسيقى والذي يرافق الحوار والأحداث الدرامية للمسلسل, وهذا ما يتعلق في إمكانية سمع الصوت الموسيقي بالعقل وليس بالإذن وحدها.
ويتسع مجال رؤية صوت الموسيقى وتخيل صورته كلما اشترك العقل مع الوجدان في عملية استقبال وتذوق الموسيقى مما تزيد من جماليات الخيال السمعي فيها، فالموسيقى التي تعودنا سماعها تسترجع لنا صوراً افتراضية للأمكنة من ذكريات الماضي التي ارتبطت بنا وبالأماكن التي كنا قد سمعنا فيها هذه الموسيقى مما تكون لنا صورة افتراضية متخيلة، وتتفق الصورة التي تُرسم في خيال المستمع كصورة افتراضية خيالية مع نوع من الدراما الموجودة في الموسيقى (رومانسية، مأساوية، مرحة، ترقب ، فزع) مع اختلاف في طبيعة المتلقي للموسيقى وفهمها .
وبما ان الصوت الموسيقي يشكل جزءاً هاماً وحيوياً في معظم حياتنا، فإننا ندرك ان هناك نوعين من الموسيقى التي نتخيل صورها, فالأول الموسيقى التي نسمعها بالخارج ونقصد بها تلك التي تمر علينها ونستمع اليها مباشرةً والتي تبث صوتها من خلال الآلات الموسيقية الحية او الالكترونية، اما النوع الثاني فهو الموسيقى الداخلية المتخيلة تلك التي نسمعها في رؤوسنا، فهي " كافية لإظهار ان للتخيلات الموسيقية نطاقاً لا يقل اختلافاً عن التخيلات البصرية "( ) أي بمعنى ان هذه التخيلات التي تظهرها الموسيقى الداخلية هي بالأساس صور تتقارب مع الألحان والإيقاعات في الموضوع والفكرة الموسيقية، كما في المخطط التالي الذي يوضح عملية تكوين الصوت وكيفية استقباله:
الصوت الموسيقي
موسيقى خارجية أصوات وضجيج منظم تُسمع في الإذن
إدراك حسي
موسيقى داخلية أصوات وهلوسات نغمية تسمع في الرأس
إدراك عقلي
وبعض من المؤلفين الموسيقيين يمتلكون قدرات مذهلة في مخيلاتهم الموسيقية فالعديد منهم لا يستخدمون آلة موسيقية في بداية تأليفهم للألحان الموسيقية وإنما يتخيلون ويتصورون ذلك في أذهانهم، لما يمتلكون من حس في تصوير صوت لكل آلة موسيقية، وليس هناك مثال أجمل وأروع من (بتهوفن) الذي استمر في تأليف الألحان والذي ارتقت الحانة الى ذرى أعظم وأعظم لسنوات بعد إصابته بالصمم الكامل، فمن الممكن ان تخيلاته الموسيقية قد ازدادت شدة، لأنه مع انقطاع المدخلات السمعية الطبيعية، قد تصبح القشرة السمعية مفرطة الحساسية بقدرات مضاعفة للتخيلات الموسيقية وحتى للهلوسات السمعية أحياناً، وهذا ما يحفز الخيال في أبداع صور موسيقية جديدة متناسقة مع مضمون العمل الموسيقي للحن، فالعازف الماهر او القارئ للنوتات الموسيقية يشعر بروعة اللحن حين يلقي نظرته على الكراس الموسيقي لمقطوعة موسيقية ما، فهو يرى الصورة الموسيقية في قراءته للنوتة، ويقول (اوليفر ساكس)مؤلف كتاب نزعة الى الموسيقى انا لا اسمع الموسيقى فقط بل ارى يدي على لوحة مفاتيح البيانو أمامي واشعر بهما تعزفان القطعة انه اداء افتراضي، فهي محاكاة عقلية، وبالفعل عندما كنت أتعلم العزف على احدى الآلات الموسيقية وجدت انه انني استطيع ان أتدرب عليها في عقلي، ومن هذا يمكن لتخيل العزف ان يكون فعالاً تقريباً بقدر الواقع الفيزيائي ( ) . وهذه العملية التخيلية الافتراضية هي بمثابة رياضة عقلية لاستيعاب قدرة وإمكانية الموسيقى بكافة مسمياتها الحسية والفيزيائية، لان الموسيقى هي قدرة ذهنية لترددات صوتية تخترق السمع والإحساس والعاطفة والعقل لدى المستمع والمؤلف الموسيقي من خلال لون وطبيعة ذلك الصوت .
لذا فان في بعض الأحيان يفكر المؤلف في لحنه والرداء الصوتي الذي يرتديه هذا اللحن في آن واحد، فالمقاطع اللحنية التي تعزفها الكمان المنفردة في مقطوعة ما يختلف طابعها وتخيلاتها الصورية لو تم عزفها بالة موسيقية أخرى، ولتولد لدينا شعور يختلف عما نسمعه ونتخيله من صور وإحساسات من الصوت الموسيقي الصادر من آلة الكمان ،لان تأثير الموسيقى ونوعها على المتلقي يساعده في تخيلات اللحن، ويمنح صورة افتراضية تنتج شعور يختلف من آلة إلى أخرى، وربما تكون الصورة الموسيقية للصوت مرتبطة بماضينا او مرتبطة بموروثاتنا او مرتبطة بامكنتنا التي نعيش فيها او التي تحيط بنا .
وبهذا فان الصورة الصوتية لكل صوت موسيقي تفُرض على تخيلاتنا صورا ترتبط بماضينا وبذكرياتنا وهذا ما يجعلنا نميل الى طابع صوتي دون أخر، ويذكر (كورت زاكس) بهذا الموضوع فيقول ان الشرق يضعنا خلفه على صعيد الحساسية للتنوع الدقيق لأصوات الإيقاع وعن الكم الهائل من الأدوات الخشبية والحجرية والزجاجية والخزفية والمعدنية والقصبية التي تقرع وتهز وتضرب وتحك.( ) وهذا ما يميز الصورة الصوتية الموسيقية والتنوع اللانهائي لدمج الأصوات لكل الآلات الموسيقية وإصدار صوت موسيقي ذات قيمة درامية وصورة افتراضية تخيلية، لذلك فان الكثير منا يربط الصوت الموسيقي بصورة ذهنية تخيلية افتراضية وهي من نتاج الخيال، لان الصوت له علاقة مترابطة مع الصورة وهي علاقة متلازمة وأزلية فكل صوت له صورة في خيالاتنا الافتراضية او في ذاكرتنا المتراكمة, فكلما كانت الموسيقى حزينة تناسبت معها صورة مؤلمة من حياتنا وبالعكس كلما كان الإيقاع الموسيقي سريعا وحيويا استدركنا معه صوراً تتناسب مع طبيعة ذلك الصوت الإيقاعي او الموسيقي لان الطابع الصوتي للموسيقى كالأزياء عند الممثل, حيث المخرج يحتم على كل شخصية ان ترتدي نوع معين من الأزياء لكي يقارب بينها وبين صورة الشخصية الدرامية.
وإذا تأملنا الموسيقى كإبداع فني متميز على الإدراك الحسي، في محاولة لاستخلاص القيمة الجمالية في الأبداع الفني الموسيقي باعتبار أن الموسيقى في أساسها هي صوت قادر على التعبير عن المشاعر في شكل فني قوام أسلوبه الإيقاع والنغم، وبوصفها تنبعث من المشاعر، وتأثيرها ينصب على المشاعر، كما يقول (جوليوس بورتنوي) الموسيقى ناشئة من العاطفة لكي تحرك العاطفة, ان الموسيقى ينبغي ان تؤدي الى السلوك القويم والا لكانت مخدرا يؤدي بنا الى الهروب من الواقع والتحليق في اجواء عالم الخيال المحض. ( )

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى