علي اليوسفي العلوي - قضية المرأة كأفق لحرية التعبير

لا تهدأ إحدى الزوابع المرتبطة بقضايا الحريات الفردية عموما، وحرية المرأة خصوصا، حتى يتصيد من نصبوا أنفسهم أولياء على عقل المرأة، فرصة لإطلاق حملة أخرى، تدعي أن المرأة حرة في أن تلبس ما تشاء، وأن الحجاب فرض ديني، بل إن منهم من اجتهد ليقارن بين أن يختار الرجل لبس جلباب، أو بذلة، أو سروال جنينز، وبين ارتداء المرأة الحجاب أو النقاب. والمناسبة هذه المرة مقارنة "عابرة" للبرلماني المغربي عمر بلا فريج بين معاناة الناس مع الكمامة خلال فترة الحجر الصحي ومعاناة المنقبات المستدامة مع نقابهن، وهو ما جر على الرجل كيلا من السب والقذف والاتهام بالإلحاد.
لا أريد اليوم الخوض من جديد في وجوب أو عدم وجوب الحجاب أو النقاب، فقد خصصت لذلك أربعة مقالات، على صفحات مرايانا[1]، وحلقة تلفزيونية على قناة الحرة[2]، وكل ذلك مقرون بالآيات وأسباب النزول، فـ"من شاء [منكم] فليؤمن ومن شاء فليكفر". ولذلك سأكتفي بالتأكيد على أمرين اثنين، هما مسألة "حرية المرأة في اختيار لباسها"، وحق الناس في التعبير عن رأيهم في هذا الموضوع وغيره إيجابا وسلبا.
فأما القول بأن المرأة هي من تختار ارتداء الحجاب أو النقاب أو مشتقاتهما، فإنما يعني جهل أو تجاهل أصحابه أن المرأة إنما تُروَّض منذ حداثة سنها على أن جسدها عورة كله باستثناء الوجه واليدين عند أقل الدعاة تشددا، وأن المرأة تُقبل في صورة شيطان وتُدبر في صورة شيطان، وأنها يجب ألا تخلو برجل وإلا كان الشيطان ثالثهما، وأن صوتها عورة ويجب ألا ترفعه ولو بذكر الله، وأنها هي من زين لآدم قطف التفاحة مما تسبب في طردهما من الجنة، وأنها ناقصة عقل ودين، وهلم تحقيرا. ذلكم بعض من ترسانة الافتراءات التي يؤسس عليها حملة هذا الخطاب فرض الله الحجاب على النساء حماية للرجال من فتنتهن، ومن لم تفعل فقد تعمدت إفتان الرجال وهي في مقام الزانية، ولذلك يستبيح بعضهم سب الفتيات غير المتحجبات في الفضاء العام، والبصق على وجوههن، ونعتهن بأقذع النعوت، وتحليل تعزيرهن وتأديبهن بل واغتصابهن أحيانا.
ويترتب عن هذا الخطاب تشكيل تصور جمعي يؤطر العلاقات اللاحقة بين الرجل والمرأة ويحدد تصور كل منهما عن نفسه وعن الطرف المقابل له. ومؤدى هذا التصور القابع في وعي أولا وعي كل من الرجال والنساء على السواء أن النساء فريقان: فريق متحجب أو متنقب، متخلق بأخلاق الإسلام، محترم لقواعده وبالتالي يمثل الفرقة الناجية والجديرة بتقدير الناس واحترامهم بل ورضى الله ورسوله، وفريق غير متحجب، وإذن متبرج كل همه الإغواء ونشر الفتنة بين الرجال وصدهم عن العمل وعن ذكر الله، وهؤلاء النساء جزء من عمل الشيطان، وهن الفرقة الهالكة.
تنطلق هذه الثنائية – الفرقة الناجية، والفرقة الضالة من النساء - من البيت منذ أن تفتح الطفلة عينيها، لتجدها في انتظارها في باقي منعطفات الحياة بدءً من الشارع فالمدرسة، قبل أن تُعزَّز بالأشرطة السمعية، ثم السمعية البصرية، ثم القنوات الفضائية وأخيرا بمواقع الأنترنيت والوسائط الاجتماعية الممولة التي تسعى إلى نفس المرمى: تشكيل قاعدة خلفية عريضة أيديولوجية وسياسية في العالمين الإسلامي والغربي على السواء.
عندما ينشأ كل من الطفل والطفلة على هذه الثنائية تكون المؤسسة سواء أكانت أسرة أو مدرسة أو إعلاما قد قتلت مفهوم الاختيار في المهد، لأن الاختيار يعني أولا التعدد وإمكانيات المقارنة بين سلبيات وإيجابيات الأمور التي سنختار فيما بينها، أما إذا قدمنا أحد الأمرين على أنه خير مطلق وثانيهما على أنه شر مطلق، فإننا نكون قد سحبنا من الناس ملكة القدرة على التمييز، وحكمنا بقصورهم العقلي وبضرورة الاختيار مكانهم. ويعني الاختيار ثانيا الحرية والمسؤولية، كما ذهب إلى ذلك المعتزلة عندما أكدوا على إرادة الإنسان الحرة ومسؤوليته التامة وخضوعه تاليا للعذاب أو للمكافأة، فالإنسان في نظرهم مستقل بإيجاد أفعاله على وفق مشيئته، وطبق قدرته، إذ لولا استقلال العبد بالفعل على سبيل الاختيار لبطل التكليف، وبطل التأديب الذي ورد به الشرع. والواقع أن ما يتركه باعة الخطاب الديني للمرأة هو الاختيار بين الخير والشر، بين الجنة والنار، بين الله والشيطان، وكيف يمكن لمن لم يتسلح بالعلم والمعرفة العقلانية أن يخرج سالما من هذا الحيص بيص؟ إن المرأة هنا توضع ليس بين خيار أو عدة خيارات، وإنما بين النار والاختيار [ما اختِير لها]: جهنم والحجاب. ولذلك من الطبيعي أن نرى بعض ضحايا هذا الترويض المزمن يصطففن إلى جانب جلاديهن، في ما يعرف بمتلازمة ستوكهولم[3]، فيصرحن أنهن يرتدين الحجاب أو النقاب بحرية تامة، وأنه لا زوج ولا أخ ولا أب أجبرهن على ذلك. والحال أنهن لا يدرين أن المسألة أعمق من الإكراه البدني الآني، وتضرب بجذورها في تاريخ طويل من التطويع وغسل الدماغ. وكم أشفقت لحال سيدة ردت على مداخلة لي في هذا الموضوع قائلة بأنها ترتدي الحجاب منذ نعومة أظافرها، وأنها مرتاحة لذلك والحمد لله. وهذا التصريح لا يدعو للغرابة، لأنه من الطبيعي أن تكون هذه السيدة وغيرها كثيرات مرتاحات لأنهن يسبحن باتجاه التيار الذي خطه لهن من حجروا على عقولهن، بل وعلى عقول الكثير من الرجال أيضا.
وعليه، إذا كان حملة هذا الخطاب يعرفون كل هذا فهم يفتقرون للنزاهة الفكرية ولا يمكن التعويل عليهم في بناء مجتمع الغد، لأنهم إنما يخفون حقيقة أن المرأة المتحجبة مكرهة بالتربية على التحجب، وأنهم إنما يوظفون هذا الإكراه لغايات رجولية أنانية أو لغايات سياسية كإقصاء المرأة من الفضاء العام، أو تقييد حريتها فيه، إذا كان لا بد من خروجها. أما إذا كانوا يجهلون ذلك فقد رفع عنهم القلم حتى يعقلوا.
لا يمكن فصل مسألة اللباس الذي فرض على المرأة باسم الدين عن التطور التاريخي الذي شهده المجتمع الإسلامي، ولذلك لا بد لمن يود خوض غمار هذا الموضوع أن يتوفر على معرفة تاريخية دقيقة بالوضع الذي كانت عليه المرأة في مرحلة ما قبل الإسلام، والتحول الذي عرفته بمجيء الرسالة الإسلامية، والتحولات السياسية والمجتمعية التي عرفتها الأمة والصراعات القبلية والإيديولوجية التي واكبت كل ذلك، والدور الذي لعبه التوجه الحنبلي، ثم التيمي، فالوهابي، وأخيرا الإخواني، في تشديد الخناق على عقول المسلمين عامة والنساء خاصة، لأن مثل هذه القضايا لا تفهم في جزئياتها وإنما في إطار منظور تاريخي شامل ومتكامل.
أما فيما يتعلق بالمسألة الثانية، فأعتقد أنه زيادة على التضامن البديهي مع السيد عمر بلا فريج من حيث حقه في التعبير، ينبغي التذكير بأن هذا الحق يجب أن يكون مكفولا للجميع، مهما كانت حدة الاختلافات في وجهات النظر، وذلك ببساطة لإيماننا بأن قاعدة هذا الحق عامة ومجردة، وذلك ما تلخصه عبارة ڤولتير الشهيرة:" قد أختلف معك في الرأي ولكنني مستعد أن أدفع حياتي ثمنا لحقك في التعبير عن رأيك"[4] ؛لأن التعبير الهادئ والمؤسس على النقد والتحليل والحجة والبرهان، هو وحده الذي من شأنه أن يقود إلى الإغناء والاغتناء، وإلى نضج العقول، وبالتالي إنضاج النقاش والتعايش بين أفراد المجتمع، باسم المواطنة، وباسم المواطنة وحدها، وباسم حقوق الإنسان أي إنسان بغض النظر عن لونه ولغته وعقيدته وجنسه والطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها، لأن باقي القناعات تدخل في الحميمي الذي لا حق لأحد في المزايدة عليه.
أما السب والتخوين والتكفير - الذي اعتبرته في مقال سابق[5] إرهابا مقنعا وتحريضا على القتل -، فلا يصدر إلا جاهل ناقص عقل ودين، لا يمس بالآخرين بقدر ما يعري عن خوائه الديني والمعرفي. ولقد خبرنا هذا الخطاب وأدينا كلفته غالية. أوليس باسم هذا الخطاب – على سبيل المثال لا الحصر- قُضي على المعتزلة، وأحرقت كتب ابن رشد، وأعدم علي عبد الرازق فكريا، وحوكم طه حسين، وشنق محمود محمد طه، وحوكم نصر حامد أبو زيد، فمنعت كتبه وطلقت منه زوجته، وغيرهم كثير؟ أو ليس باسم هذا الخطاب اغتيل كل من المحامي التونسي شكري بلعيد يوم ٦ فبراير ٢٠١٣، ومواطنه، السياسي محمد ابراهيمي يوم ٢٥ يوليوز ٢٠١٣؟ أو ليس باسم هذا الخطاب اغتيل أكثر من ١٥٠ بين صحافي وكاتب ومبدع جزائري خلال العشرية السوداء، كان أولهم الصحافي والروائي الطاهر جاووت صاحب العبارة الشهيرة:" إذا صمتَّ فإنك ستموت، وإذا تكلمت ستموت، إذن، قل كلمتك ومت". ألم تطل تلك الحملة المسعورة الهادفة إلى إفراغ الجزائر من الفكر التنويري والإبداع الحر أسماء عديدة من قبيل الفنان معطوب الوناس، والمسرحي عز الدين المجوبي والشاعر بختي بن عودة والمغني الشاب حسني وغيرهم كثير؟ ألم يترتب عن ذلك إفراغ الجزائر من ١٥٠ صحافي وصحافية هاجروا ليلتحقوا بقنوات وإذاعات أجنبية في باريس ولندن ودول المشرق.
إن المفروض فيمن يخوض في مواضيع من هذا القبيل، إن لم يرق إلى المساواة بين الناس، وحقهم في الاختلاف، أن يستحضر على الأقل المساواة بين المواطنين وحب الوطن، ويضع المصلحة الوطنية العليا فوق كل اعتبار، فالأمر لا يتعلق بتزجية وقت، وإنما بالبحث عن سبل التعايش السلمي وبناء مجتمع متماسك قائم على المعرفة والنزاهة الفكرية والاحترام المتبادل.


[1] علي اليوسفي العلوي، [١- هاشتاغ # كن راجل، ٢- الجذور التاريخية للحجاب، ٣- الإسلام والحجاب، ٤- فرنسا اللائكية المحجبة]، marayana.com
[2] الحجاب... برنامج مختلف عليه، قناة الحرة، (ابتداء من الدقيقة ١٥)
[3] - ظاهرة نفسية تصيب الفرد عندما يتعرض لعملية غسل دماغ فيتعاطف أو يتعاون مع عدوه أو من أساء إليه.
[4] Je ne suis pas d’accord avec ce que vous dites, mais je me battrai jusqu’à la mort pour que vous ayez le droit de le dire. Voltaire (1694-1778)
[5] علي اليوسفي العلوي، الوجه الشيطاني للخطاب الديني، marayana.com

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى